الكتابة الشعرية دائما هي تعبير عن الذات الموضوعية حيث لا يقتصر إفصاحها على حدود ما يعتمد داخل خصوصية الأصوات و حالات صنعة الأشياء المعروضة في مجريات مفردات أحلامنا و أحاسيسنا و هواجسنا المتوحدة داخل فوضى تفاصيل الحياة اليومية المبعثرة المضامين . و هذا لا يعني بدوره أن نتقبل قصيدة ذات خواطر شكلية و تلفظية لا نعرف حدودها و مصادرها و مواردها ، ألا من حدود صوت الشاعر نفسه ، و هو يحاول أن يقول ثمة أشياء ما هي بالنتيجة ألا فيض من عواطف و خربشات تنطوي وراء كلام ينبثق من أعماق مراهقة لا تجيد سوى تلفظ ما هو سطحي و هامشي و مبتذل من مشهد موائد الطامحين في الصعود الى مسرح القصيدة الشعرية : الشعر بهذا التصور أضحى لنا اليوم كأنه ساحة يصطخب فيها صراع أجنحة الذباب و الجدل العقيم بين عناصر الثبات و عناصر الحركة . ساحة تفنى فيها عناصر و تخلق عناصر ، و تتخذ من خلالها فعاليات عابثة لتوليد مقادير كمية هشة من رؤى الفراغ و الكلام المنبثق من تصورات حركة جزئية قاصرة عن بلوغ قابلية الابداع الشعري الجاد . في شارعنا الثقافي الشعري العراقي اليوم نشاهد زمن الشعر يموت يوميا و في كل صباح نعاين من على صفحات صحافتنا اليومية الثقافية ، بأن هناك موت حقيقي للشعر و من على أبواب مشرعة تركض نحو أصداء أصوات شعراء يلهثون كالجياد في تكوين القصيدة و في
أنشاء أزمنتها الضبابية الصامتة في القول و المعنى و الدلالة : فهل هذا بدوره إيعاز واضح و صريح الى بداية زمن الموت الشعري أو النهاية الشعرية و حلول زمن أسئلة (ثرثرة القصيدة ) . أن ما نقرأه اليوم من شعر مطبوع و منضد في الأعمال الشعرية و الصحافة ، ما هو ألا تحقيق لمجال الذكريات عن طريق أسلوب ضمير المتكلم ، حيث نرى بأن عناصر القصيدة قد باتت أشبه بالبطاقات التعريفية البالغة التوتر في تنويعات حديث ذكريات ضمير المتكلم و ليس ضمير الدلالات في القصيدة ، لأن في الحقيقة ، ليس هناك غير طوابير من مفردات صادرة عن فضاء سطور طويلة من التكرارات المقطعية و صيغ علامات الأستفهام و التعجب و الحديث عن مستوى صور تجربة لا هي بالداخلية و لا هي من ناحية بالخارجية ، بل أنها مجرد حفنة مشاعر بلا مصادر و لا موارد ولا حتى أساس من المعقول و الصواب فيها .. فهل هذه هي قصيدة الشعر اليوم التي ينادي بها الشعراء و يضج بها ضجيج مسارح المهرجانات و المحافل الأدبية في مقرات اتحاد الأدباء و الكتاب في العراق ؟ هل هذه هي شعرية القصيدة اليوم التي باتت مجرد آفاق حرية كلامية في أجواء تخلف الذوق و المعرفة الدراسية و الأصولية و المنهجية الحقيقية بماهية مفردة و صورة الشعر الحقيقي . نحن اليوم و بإزاء ما يكتب و ينضد من شعر و قصائد بحاجة حقيقية الى صرخة استغاثة و صرخة انقلاب و دموع وداع و مناديل طويلة تلوح الى نهاية الشعر و القصيدة ، بل نحن بحاجة ماسة الى مقادير غير منتهية من الأستدعاءات لقبور لوركا و رامبو و بدر شاكر السياب و محمود درويش و البريكان و نازك الملائكة لمحاولة انقاذ ما تبقى من القصيدة و الشعر و من الأنقراض و الهلاك الشعري الذي نحن فيه و ألا
فسوف يحدث يوما ما و قريبا جدا ما يسمى بنهاية الشعر . في الحقيقة أنا شخصيا كنت دائما أطالع و اراجع ما يقوم بأهدائه لي الأصدقاء الشعراء من أعمالهم الشعرية ، حيث يلازمني طويلا ذلك السؤال الجارح و القلق : ما مصدرية كل هذه الارتسامات القولية و حول ماذا تتحدث بالضبط ؟ فهل هي موارد مخططات مواء قطط في ليالي الجوع و حاجة الأخصاب التناسلي أم هي محض أشتهاءات غرائبية في تنويعات عنوانات اللادلالة و الدال ؟ . منذ زمن قريب كنت أطالع بعض من الأعمال الشعرية لبعض من الأصدقاء الشعراء المعروفين في الأوساط الثقافية في العراق ، و لكنني مع الأسف لم أجد في أعمالهم الحديثة سوى جاهزية الخطاطة كفكرة خضعت لهندسة شكلية في لحظة الخواء الشعري المهدد بدخول القصيدة الى دائرة نص الفراغ و دائرة ثرثرة القصيدة ، و عندما حاولت الكتابة عن تلك الأعمال ، لم أجدني أحاورفيها سوى مجموعة أصوات دلالية مهشمة أغرقت في حالة كابوسية خاضعة لثرثرة الفقر الدلالي و الجوع الجمالي الأكيد . و بأختصار شديد هذه هي حقيقة شعرنا العراقي اليوم مجرد مهرجانات احتفائية تصب في دائرة الضجيج الأسمي و الأعلامي و الأخواني المزيف ، ليس هناك في القصيدة أسئلة مستجدات تأويلية تفترض حالة قراءة جديدة ، فقط هناك أسئلة أعتمدت مفردات الأستعمالات اليومية و الأهمال الواضح في عملية الأسقاط الدلالي المناسب ، كما و هناك وضعا سكونيا في امكانيات الأنتقال و التحول المدلولي و علاقات المتخيل الممكن . و إزاء كل هذا لا يمكننا تقدير حالات مرحلة ( نهاية الشعر ) و سلطة ( ثرثرة القصيدة ) في مجريات ثقافتنا الشعرية في العراق ، سوى أنها أرتبطت و أقترنت بفعل وظيفة علامات غير أنتاجية في
تماثلات تصوير مخيلة الشاعر ، كما أنها في الوقت نفسه ، جاءتنا نتيجة عدم حسن و أحسان الذائقة القارئة لتلك الأنتاجات المترهلة ، كما أنها أيضا جاءتنا نتيجة حيازة الشعراء في الأوساط الثقافية و منحهم صفة (شاعر) داخل بطاقة تعريف نقابة الأدباء ، و السماح لهم بصورة غير مشروعة بأن يقولوا ما يريدون من كلام و يسمى بالنتيجة شعرا و قصيدة . و لكن المشكلة الكبرى اليوم هو ان الجيدين من الشعراء ، قد أصبحت قصائدهم هم أيضا محض صياغات عشوائية في لوحة أقوال و أفعال غريبة ، حيث نراها باتت تشكل في ذاتها رقما قياسيا عال سوى من جهة صالات المهرجانات الثقافية وفي صالات مقاهي الأدباء العتيقة . أما أننا نضعها داخل جداول قياسات التصور الابداعي القيم ، فلا نجد لها من صدى و لا حتى من مستقر ما في أذهاننا لمدة خمس دقائق . و في الختام أود أن أوجه ثمة نصح و نصيحة لهؤلاء الشعراء الى مراجعة ما يكتبوه من نصوص ، حيث يعوزها في الحقيقة ، عمق الدلالة و المشاهدة الفاحصة و أثر المنظور الجمالي و الشغل الشاغل ، و لعل من المفيد لهؤلاء الشعراء أن لم يجدوا فيهم مسكنة الموهبة الشعرية في كتابة القصيدة ، الذهاب الى الفراش و النوم العميق حتى يزول خطر مرحلة نهاية الشعر و ثرثرة القصيدة .