8 أكتوبر، 2024 5:46 م
Search
Close this search box.

المجتمع العراقي تنوع طبقات وعلاقات منسجمة

المجتمع العراقي تنوع طبقات وعلاقات منسجمة

يتميز المجتمع العراقي بالتعدد والتنوع الاثني والديني والقبلي والطائفي واللغوي. فهو يمثل قطعة موزائيك فسيفسائية ملونة ومتنوعة ومختلفة، وان هذا التعدد والتنوع والاختلاف كان وما يزال يسوده التآلف والتعايش والتسامح في هذه البقعة الجغرافية متنوعة التضاريس والمناخات والاجناس والثقافات الفرعية، مثلما كان مصدر غنى وابداع. واذا حدثت بعض الاختلافات والصراعات بين فئة واخرى، فان مساحة التسامح قد تتسع او تضيق احيانا، ولكنها في الاخير تكون صمام الامان يحافظ على الوحدة والتماسك بين هذه المكونات ويساعد على التعايش والتكامل الاجتماعي، ولم يصل الامر بين هذه المكونات الاجتماعية الى خلاف يؤدى الى إلغاء الآخر ونفيه. وهذا هو قمة التسامح.

وتظهر الوحدة بين المكونات الاجتماعية في التجاور والاختلاط والتزاوج والتعايش والوئام القبلي والاثني والديني والمذهبي والطائفي الذي يمثل السمة الاعم والاغلب التي تشيع في المجتمع العراقي. وليس من الغريب ان يجد المرء وهو يتجول في بغداد والموصل والبصرة، كنيسة بجانب مسجد وحسينية بجانب تكية وان يتجاور المسيحي واليهودي مع مسلم ومعهما الصابئي والايزيدي وان يتعايشوا بعضهم مع بعض تحت خيمة هوية وطنية واحدة. كما تميزت العلاقات الاجتماعية بين العرب والكرد بالتعايش والتزاوج والمصاهرة والوئام المتبادل. وما حدث من صراعات كانت دائما ذات صفة سياسية بين السلطة الحاكمة ومعارضين لها.
ان التعايش والتجاور والتآلف والانسجام يعود الى الحضارات العليا القديمة والى تراث الحضارة العربية – الاسلامية ومبادئها في التوحيد والتعاون والتكافل والتسامح، وكذلك الى موقع العراق الجغرافي الاستراتيجي المتميز بين القارات في العالم القديم والحديث واهمية رافديه، دجلة والفرات في تأسيس اعرق الحضارات الانسانية.
ان هذا التعدد والتنوع في مكونات المجتمع العراقي، هو ظاهرة صحية من الممكن ان تكون عنصر غنى وابداع ثقافي وروحي واجتماعي اذا ما توحدت في اطار وحدة وهوية وطنية واحدة.
 والحقيقة هي ان “ما يميزنا هو ايضا ما يوحدنا”. فإذا كانت ثمة تباينات في ثقافة العراقيين، بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وبين الجنوب والغرب وكذلك بين المسلمين السنة والشيعة، اضافة الى التباين والاختلاف بين العرب والكرد والتركمان والاقليات الاخرى. وهناك تباينات نسبية بين سكان بغداد وسكان البصرة والموصل، وبين اربيل وكربلاء وبين بعقوبة والنجف او بين راوه ومندلي، وكذلك بين احياء المدن الكبيرة، كالتباين بين الكاظمية والاعظمية، وبين الثورة والمنصور وغيرها. كما ان هناك تباين بين ثقافة الافندي والعمامة والعقال والجراوية. الى جانب التباين المرئي والمخفي بين الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية وبين اهل المدن واهل الريف وبين الحرفيين والعمال.
وبالرغم من ان اغلب هذه الاختلافات والتباينات نسبية وليست مطلقة ومتغيرة في الزمان والمكان، فانها تعبر عن وحدة الشعب العراقي وتماسك مكوناته الاجتماعية.
 والهوية من حيث دلالاتها وابعادها ومكوناتها الاساسية وعلاقاتها بما هو ثابت ومتغير من عناصرها ومن حيث هي وعي متوتر وملتبس في علاقتها مع مكوناتها من جهة، ومع الآخر من جهة ثانية، ومن حيث اقترابها وابتعادها عن الوعي بها والتذبذب بين العناصر التي تستوعبها داخل الثقافة الواحدة، وكذلك علاقتها بعملية التثاقف التي لا تكف عن التواصل والتطوروالتغيير.
الهوية ليست ثابتة أو جاهزة أو نهائية، ولذلك لا يمكننا صياغة تعريف اجرائي لها ولا توصيفها وتحديد خصائص ذاتية لها لانها مشروع ثقافي مفتوح على المستقبل. ولكنه معقد ومتشابك ومتغير من العناصر المرجعية المنتقاة المادية والاجتماعية والذاتية المتداخلة والمتفاعلة مع التاريخ والعقيدة والتراث والواقع الاجتماعي.
والهوية ليست مجموع هذه العناصر، بقدر ما هي محصلة مركبة من عناصر تشكلت عبر الزمن وتم تلقيحها بالخبر والتجارب والتحديات وردود الافعال الفردية والجماعية عليها. في اطار الشروط الذاتية والموضوعية السائدة والطارئة عليها.
 
أزمة الهوية
 
الهوية هي اشكالية ذهنية وليست واقعا ملموسا دوما، وهي آلية من آليات الدفاع الجمعي وليس الفردي، تتحرك للعمل في حالات عدم القدرة على الفعل او على التعاطي مع الآخر بشكل طبيعي، او حين ينتابها احباط ونكوص فتعجز عن اقامة التوازن بين الأنا والآخر، وبخاصة في اوقات التحديات المصيرية كالحروب والكوارث والازمات الثقافية.
وعندما تتعرض أية هوية الى تحديات وردود افعال يبدأ هاجس الخوف على الهوية، ويبدأ الحديث عن (أزمة الهوية) ونحو ذلك، غير ان الازمة ليست في ذات الهوية دوما، بقدر ما هي في خارجها لانها نتيجة للمتغيرات التي تحدث حولها والتحديات التي تواجهها. وحين نتكلم عن (ازمة) فاننا لا نحسها مباشرة، وانما نلاحظها ونشعر بها من نواحي عديدة وبخاصة في العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي ترتبط بالآخر وكذلك بتوزيع الحقوق والواجبات.
 
الخلاف وليس الاختلاف
 
يشير يورغن هابرماس، الى ان الخلاف وليس الاختلاف هو السبب الرئيس في ازمة الهوية، الذي يعود في جذوره الى ضعف الوعي الاجتماعي، من الداخل، اي من الذات اولا ومن الآخر ثانيا، مع ان الفصل بينهما امر تعسفي دوما، لان هناك علاقة جدلية بينهما. وعلينا تحديد موقفنا من ( الأنا) ومن ( الآخر)، وان نبدء اولاً من (الآنا) لان الانشغال (بالآخر) دون (الأنا) يبعد الخلاف والاختلاف ونقاط التشابه والالتقاء بين الأنا والآخر.
لكن الانشغال بالآنا دون الآخر قد يبعدنا عن الاسباب الرئيسة التي ولدت الخلاف والاختلاف، سيما ان قياس حجم الخلاف والاختلاف وعمقه ليس بهين، فربما نغالي في الاختلاف على حساب الخلاف، فنجعل منه اكبر حجما وثقلا ونسبغ عليه كل الصفات السلبية، وفي ذات الوقت، نغالي في(الآنا) فنسبغ عليها كل الصفات والفضائل الحميدة.
 
اشكالية الهوية في العراق
 
تعود اشكالية الهوية في العراق الى :
1 – تعدد وتنوع واختلاف المكونات الاجتماعية والثقافية التي تبدأ بالقومية والدين واللغة وتنتهي بالقبيلة والطائفة.
2 – تعدد الولاءات والانتماءات، التي تستقطب كل واحدة منها مشاعر الولاء الاجتماعي حولها.
3 – النزعة الابوية ـ البطريكية التي تسيطر على البنية الفكرية والاجتماعية والثقافية، التي تقوم عليها علاقات القرابة وصلة الدم وما يرتبط بها من قيم واعراف وعصبيات عشائرية تغالبية ما زالت تمارس تأثيرها على طرائق التفكير والعمل والسلوك وعلى منظومة القيم والمعايير وقواعد السلوك وشبكة العلاقات الاجتماعية، ويولدان آليات دفاع ذاتي للحفاظ على الهوية.
ولذلك فان”ازمة الهوية” هي ليست من داخلها، بقدر ما هي من خارجها، اي من التحديات التي تجابهها فتجعل كل جماعة فرعية تستقطب مشاعر الولاء لهويتها الفرعية على حساب الهوية الوطنية، وهو ما يؤدي الى “أزمة هوية”، وهي حالة من التوتر والتمزق الوجداني، الذي ينمي التمركز على الذات ويدفع الى التعصب والتمييز العرقي اوالديني او الطائفي ويقلل بالتالي من فرص التسامح والتفاهم والحوار.
والحال ان ازمة الهوية في العراق هي قبل كل شيء ازمة حرية وازمة وعي بها وازمة تفاهم وحوار مع الآخر، بمعنى آخر هي ازمة مواطنة لم تتبلور وازمة دولة لم تكتمل ويتم نضجها، وازمة نظام سياسي يتجاوز على حقوق المواطن وانسانيته.
 
الهوية والثقافات الفرعية
 
اذا كانت هناك هوية وطنية عراقية رئيسة واحدة عامة وشاملة لكل العراقيين تجمع تحت ظلالها جميع الاثنيات والاديان والطوائف والاقليات فهذا لا يمنع من وجود هويات فرعية متميزة ببعض الخصائص القومية والدينية والطائفية تندمج وتتعايش معا في أمة/ دولة انطلاقا من الآية الكريمة :
“يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم”
وهذا ما حدث في العراق، فبالرغم من تغير الانظمة السياسية التي جاءت الى السلطة، فقد تطورت روابط من المشاعر الوطنية المشتركة بين طبقات وفئات المجتمع العراقي رغم مما انتابها من ضعف ووهن وعجز عن الاستمرار في النمو وبناء دولة القانون والمجتمع المدني. وعموماً يمكننا القول بأن العراقيين حافظوا نسبياً على ثوابتهم الوطنية والقومية وبخاصة ما ارتبط بقيم المسؤولية المشتركة وروح التضامن والتكافل الاجتماعي، إلا في العقود الاخيرة التي شهدت انتكاسة حضارية عميقة الأثر والتأثير ارجعت العراق الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية.
 
خصوصيات الثقافات الفرعية
 
هناك مجموعة من الخصائص والعناصر الذاتية والموضوعية التي تميز كل هوية عن غيرها وتجعل منها طائفة او مذهب فكري له خصوصية تشكل عبر التاريخ، مع ان تحديد هذه العناصر أمر في غاية التعقيد، وذلك لتداخل وتشابك كثير من العناصرالثقافية في اكثر من هوية فرعية واحدة وخصوصا الهويات الفرعية التي تشترك في دين او قومية واحدة، كالهوية الشيعية والهوية السنية التي تربط بينهما ثوابت اساسية في الدين واللغة و القومية.
وتأخذ الهويات الفرعية مستويات مختلفة، لكل منها خصوصيتها وعناصرها التي نلاحظها في الخطاب الديني والاجتماعي والسياسي. بحكم ان الامة الاسلامية تتكون من شعوب وقوميات ومذاهب وفرق متعددة، تتداخل في بعض عناصرها احيانا وتفترق في احيان اخرى. وبهذا تصبح كل هوية “مركبة” من هويات جزئية لها ولاءات قومية او مذهبية او طائفية او غيرها.
ومن الطبيعي ان تستغل المكونات الاجتماعية، الاثنية والدينية والقبلية والطائفية وغيرها في الفترة الانتقالية المضطربة التي يمر بها العراق ، حيث الدولة ضعيفة والهوية الوطنية منقسمة على ذاتها، وان تمارس مختلف الطرق والأساليب الشرعية وغير الشرعية لاعادة تعريف نفسها وتوكيد هويتها الفرعية على اساس آيديولوجي، وان تسعى لتطمين مصالحها وتحقيق اهدافها، ولكن سوف يكون ذلك على حساب الوطن والهوية الوطنية المشتركة.
 
الانتماء والولاء
 
ان مفهوم الانتماء يعتبر احد المفاهيم المركزية التي تحدد طبيعة علاقة الفرد وارتباطه بوطنه وجماعته وولائه له ويكشف عن الآلية النفسية التي تتحكم في هذه العلاقات، وبخاصة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذلك بالقيم والمعايير والاعراف التي توجه سلوك الافراد نحو هوية وطنية واحدة.
اما الولاء فهو حالة دمج الذات الفردية بذوات اوسع واشمل بحيث يصبح الفرد جزءا من كل الجماعة الاجتماعية التي ينتمي اليها، كأن يكون الفرد واحدا من افراد قبيلة او طائفة معينة، ولكن ليس بالضروروة ان يشعر الفرد بالولاء للقبيلة حتى لو كان منتميا اليها. وقد لا ينتمي الفرد الى قبيلة، ولكنه لا يكون قبليا بمفاهيمه وتصوراته وسلوكه. ولذلك هناك تعارض بين الولاء للوطن والولاءات الاخرى، لان الوطن حاضن جميع الولاءات.
لقد اسهم النظام السابق في تعميق الروح القبلية والطائفية. وبدلا من ان يقوم بتحرير الافراد من العشائر والطوائف والاثنيات ليكون منهم مواطنون صالحون، رسخ القيم والتقاليد والعصبيات القبلية والطائفية عن طريق اعادة انتاج القيم والعصبيات القبلية وترسيخها، وتأجيج الروح الطائفية بدل بذل الجهود لضمان تلاشيها، حيث اثار الوعي الديني والمذهبي والعشائري، وزوده بوعي ذاتي متمركز حول الذات للدفاع عنها.
وموجز القول : ان الدولة التي تعمل على تمزيق شعبها تفقد شروط أمنها واستقرارها.

أحدث المقالات

أحدث المقالات