في سبعينات القرن المنصرم زار الشاعر الداغستاني الذائع رسول حمزاتوف (1923-2003) الذي عرفه القرّاء العراقيون والعرب من خلال كتابه “داغستان بلدي ترجمة: معين الملوحي ويوسف حلاق عن دار الفارابي” الذي اشتهر بسردياته الآسرة والتي تحمل روح النكة البريئة في خارجها وعمقاً فلسفيا في داخلها، زار هذا الشاعر جريدة طريق الشعب ضمن زيارته للعراق، وقد رُحِّب كثيراً به، وحدث أن أحد الظرفاء الصحفيين ممن يحسنون الروسية، أراد أن يداعبه فعمد الى ترجمة قصيدة لحمزاتوف مترجمة الى العربية ليعيد ترجمتها الى الروسية، وشرع يقرأ القصيدة الى الشاعر حمزاتوف الذي انشدّ مندهشاً لهذه القصيدة، وحين فرغ من قراءتها سأله الشاعر الداغستاني: بالله عليك لمن هذه القصيدة؟ فأجابه: هي لك؛ فأنكر الشاعر الضيف أن تكون له مثل هذه القصيدة قائلاً لم اقل مثل هذا الشعر قط! وعند ما شُرِح له قصة الترجمة أطلق حمزاتوف قولته الشهيرة: الترجمة هي الوجه الآخر (قفا) البساط!
ولا شك أن قولة حمزاتوف هي حكمة واقعية لاذعة؛ على أن قفا البساط يختلف حسب النسج ومادته وقبل كل شيء براعة النسّاج؛ فقد يقترب من الوجه في تفاصيله جداً حتى ليتعذر التمييز بين القفا والوجه كما في الترجمات الكبيرة لروائع الأدب العالمي شعراً ونثراً على يد كبار المترجمين من أمثال سامي الدروبي ومنير بعلبكي وسهيل إدريس وجبرا إبراهيم جبرا، ودريني خشبة وحياة شرارة وآخرين لا يسعني الحال بتعدادهم..أو بترجمات تقترب من الوجه الأصلي للبساط من مثل ترجمة الشاعر حافظ إبراهيم لل “بؤساء” وهي لعمري ترجمة غير سليمة في عنوانها ولا محتواها، وكذلك من ضرب ” تحت ظلال الزيزفون” للكاتب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي…
وقد تكون الترجمة لا تترك للوجه في القفا غير بقع ملونة تكاد تقترب من الأصل بعد إجهاد من المتمعن وبذلك يضيع جمال الوجه أيما ضياع، فما الحكاية؟!
منذ وقت مبكر وأنا اتابع الترجمات الشعرية المطروحة في المجلات العراقية، ولقد تعرفت من خلالهاعلى ترجمات الشعراء الرمزيين الفرنسيين التي ترجمتها الدكتورة سعاد محمد خضر لرامبو وبودلير.. وبترجمات الشعر الكردي من قبل معروف خزندار وعز الدين مصطفى رسول في مجلة المعلم الجديد في الخمسينات والستينات التي فتحت بوابة صغيرة للتعرف على عالم الترجمات العالمية الواسعة..
ولست بصدد استعراض الجوانب النظرية ومدارس الترجمة وأنواعها بيد أن الجامع الذي تجمع عليه هو أن يكون المترجم على دراية واسعة باللغة التي يترجم منها وعلى روحيتها وأساليبها التعبيرية وثقافة متكلميها وتاريخ الشعوب الناطقة بها ناهيك الى إتقانه للغته الأم، حتى لا تكون الترجمة هي مجرد نقل لمعاني الكلمات والجمل بما يجعلها تشبه الترجمة الآلية التي تشيع اليوم! وخاصة عند نقل نصوص أدبية للشعر والقصة والرواية والمسرح..التي هي إعادة لخلق النص والمحافظة على روحيته وأسلوبه التعبيري، فالنص الحزين يحافظ على روح الحزن والنص البهيج يحافظ على بهجته والنص الساخر يحافظ على سخريته عند الترجمة الجادة!
ومن يتابع المطروح في ساحتنا الأدبية من ترجمات سيجدها متفاوتة المستوى، باستثناء عدد قليل موفق في ترجمته من أمثال الدكتور بهجت صادق، إن من يقرأ النص المترجم سيجد انسجاماً كبيرا مع النص حتى ليتصور أنه يقرءوه في لغته الأصلية وهذه هي امارة الترجمة الجيدة التي تحافظ على تماسك النص ووتيرته العالية مبتعدة عن الهوامش والشروح ما استطاع المترجم الى ذلك سبيلا!
ومن آخر ما قرأت قصة مترجمة عن اللغة الفارسية، وصف الأستاذ المترجم مؤلفها بالأديب الساخر، ما يعني أننا أمام نص ساخر ما فتح شهيتي لقراءة النص، فنصيبي من الأدب الفارسي الحديث -الذي أجهل لغته- شحيح عدا ما قرأته من القليل لصادق هدايت (1903-1951) وخاصة رائعته “البومة العمياء”..
ماذا قرأت؟ قرأت نصا لا سخرية فيه، جاف اللغة الى حد التخشب، نُزعت منه السخرية، وبدا الموضوع مملا، والموضوع ينتقد البيروقراطية انتقاداً مرّاً، بدت فيه اللغة بعيدة عن التشويق والحبكة الفنية متراخية، والترجمة أقرب
الى الترجمة الآلية والأخطاء اللغوية كثيرة، أذكر هذا لست باخساً بضاعة الأستاذ المترجم بل هي عينة واضحة لما يشيع من كتابة في المواقع الألكترونية حيث تبرز مواضيع لا تنضوي على الحد الأدنى من مستلزمات الكتابة الأدبية بينما تُبعَد وتهمش مواضيع جادة بل وتحجب؛ وهي واحدة من مشاكل النشر وعوراته الكبرى فلنرَ:
…ومن سؤ الحظ كان الزقاق ذو (كذا) ممر واحد…
…وخاطبتهم:” لنقوم (كذا) بجمع مبلغ…، ونقوم (كذا) بشراء سيارة…”
…إن الزبالة لايمكن أن تكون (ملك) للدولة، فالدولة ليست (بائع) للنفايات…
…والله العظيم نحن غير مذنبون(كذا)..
حضرة المأمور عن اي شىء (كذا) ..عن اي شىء (كذا) تتحدث ياحضرة المدير…
بدأت شقيقتي بالغليان وأصاب الوجع رأسي…ٍيقصد المترجم: هاجت أعصابي أو نفد صبري.. أو داء الشقيقة كي لا يلتبس الامر مع (الأخت)…
فسيتم التعامل معك على غرار التعامل مع المتخلفين(كذا) يقصد (الحمقى)!
هل كنت مختار المحلة أم شرطي (كذا) فيها..
وجبل القاذورات كانت متراكمة لسنوات (يا للبلاغة!)
وتعرفت على مالك أحد ….الذي راكم قدر(كذا) من النفايات والأوساخ في خزينة (كذا) مزرعته..
هذا غيض من فيض ورحمة للقارىء الكريم سأتوقف عن المتابعة..وليس لدي تعليق..
الى متى تبقى هذه المهازل مما ينشره بعض المرحررين الثقافيين والعتب على بعض المواقع الملتزمة أكثر من غيرها فالالتزام له مسؤولية أخلاقية وأدبية وسياسية أليس كذالك؟