23 نوفمبر، 2024 5:38 ص
Search
Close this search box.

القصة القصيرة : بين الشعر والتجريد

القصة القصيرة : بين الشعر والتجريد

دراسة نقدية تطبيقية في قصص لطفية الدليمي
سأتناول في هذه الدراسة ، تحديداً القصة القصيرة ، التي كتبتها الكاتبة لطفية الدليمي ( مواليد ديالى / بُهرز / 1939 )،  منذ صدور مجموعتها الاولى (ممر الى أحزان الرجال) الصادرة عام 1969 وانتهاءً بمجموعتها (برتقال سمية) الصادرة في 2002، مروراً ببقية مجاميعها: ( البشارة) 1975، (التمثال) 1977، (اذا كنت تحب)1980، (موسيقى صوفية) 1994، ( مالم يقله الرواة) 1999، مع تركيز خاص على بعض هذه المجموعات لأغراض تتوضح في سياق البحث.
     أما رواياتها التي بلغ عددها (7) روايات ابتداءً من (عالم النساء الوحيدات)1986، وانتهاءً برواية (سيدات زحل)  2012، سأفردُ لها دراسة خاصة لاحقة لأسباب ،  تتعلق بالفروق بين النوعين الادبيين (القصة القصيرة) و (الرواية) أولاً، اضافة الى أن ما يطرحه فن القصة القصيرة لدى لطفية الدليمي من مشكلات وتساؤلات على صعيد اللغة والفكرة والبناء والسياق، يختلف عن تلك التي تقع في رواياتها، ثانياً.
    أن السيدة الدليمي اسم مهم في مسيرة السرد العراقي، قصة ورواية، ولها بصمتها الخاصة في الدخول الى العوالم الداخلية للمراة واحباطاتها وانتصاراتها وهمومها النفسية والاجتماعية والفسلجية ، بطريقة ابداعية متميزة ومبتكرة وصادقة، مستخدمة آليات سردية وتشكيلات اسلوبية يمتزج فيها السرد بما هو رمز وواقع وتصوف واستعارة تأريخية، وهذا ما يحسب لصالح تجربتها الابداعية في اطارها العام، الأمر الذي يشجع الباحث على دراسة هذه الآليات وتفاصيل ادواتها، وابرزها هيمنة “الشعر” وما يشبهه على سياقات السرد، وبروز “التجريد” كمحصلة نهائية على نسق “الفكرة ” ، أساسية كانت او ثانوية، في القصة. لذا يسعى هذا البحث أن ينحى منحىً تطبيقياً ويبتعد ، قدر الامكان ، عن ما هو “نظري” في محاولته التحليلية تلك.
   أنا أتفقُ مع القول أن : ( جملة القصة القصيرة تتوسط الطريق بين البيت الشعري  الذي غالباً ما يُبَعْثِرُأستمرارية الفكرة ، وبين الجملة في الرواية التي تُعد وحدة صغيرة بين وحدات ٍ تُشكل مجتمعةً المقطع والفصل والجزء . (الأعتراف بالقصة القصيرة ) / الباحثة والأكاديمية الأمريكية سوزان لوهافر / ترجمة / محمد نجيب لفتة / 1990  ).
 كثيراً ما يتعلق البعض في تحنيط هذا القاص او ذاك ضمن مجموعة او تيار ، فان القاصة (( لطفية الدليمي )) لم تنج من دوائر هذا التحنيط ، خصوصا بعد صدور مجموعتها القصصية الاولى ، فالناقد (( فاضل ثامر )) في مقدمته لكتاب (( قصص عراقية معاصرة )) الصادر عام 1971 في بغداد . تنبأ بميلاد (( اتجاه واقعي جديد )) بُنِيَّ على انقاض (( الاتجاه الواقعي الانتقادي )) و بموازاة (( بروز الاتجاهات التجريبية في القصة التي اقترنت بموقف ذاتي او هروبي او ميتافيزيقي )) ، وفي محاولة الناقد تعداد اسماء ممثلي هذا الاتجاه او التيار ، يورد اسم القاصة (( لطفية الدليمي )) ضمن اسمائهم .
 
       ان قراءة نقدية ذكية لمجموعة (( ممر الى احزان الرجال )) توضح بطلان مثل هذه الدعوى خصوصا عندما يؤكد الناقد ان (( الاسراف في الوصف النقلي ، وضعف العناصر الشعرية و الالتصاق احيانا بموقف متزمت )) ، هي من السمات التي بقيت مرافقة لقصص هذا الاتجاه . ان هذه السمات قد تكون حقيقة واقعة عند تطبيقها على قصص خضير عبد الامير، غازي العبادي ، فهد الاسدي ، عبد الرزاق المطلبي و غيرهم ، الا انها لا يمكن ان تكون احدى سمات قصص لطفية الدليمي ، خصوصا مجموعتها الاولى وقصصها اللاحقة .
       ان ما يميز قصصها ليس (( ضعف العناصر الشعرية )) او    (( الاسراف في الوصف النقلي )) بل العكس ربما هو الصحيح تماما حيث ان  هيمنة العناصر الشعرية ، خصوصا اعتمادها على المفردة الشعرية ، اضافة الى (( قلة الوصف النقلي )) للدرجة التي تتحول فيها القصة الى مجموعة تعميمات و احكام مطلقة تصل حد التجريد في اكثر من مرة ، و هذه باعتقادي اهم السمات التي حملتها قصصها منذ بذرتها الاولى ، حيث ان الناقد يستطيع و بسهولة ان يتابع نمو هذه السمات و التي وصلت حدا لا يصعب كشفه في مجاميعها اللاحقة.
 
    حاولتْ الكاتبة ان تلج عالم القصة من بابه الاوسع : عالم العلاقات الانسانية عبر اطر و ابعاد و زوايا خاصة ، و سعَتْ ان تكون مثل هذه التنظيرات نابعة من البناء القصصي نفسه و ليست خارجة عنه او زائدة عليه ، و كي تحقق مثل هذا الامل ،  لجأت الى الشعر في تنفيذه ، لان الشعر بما يحمله من طاقة تعبيرية شمولية و دقيقة بنفس الوقت ، يعطي لمستخدمه او قارئه نافذة للنظر الى الاشياء بمنظار فلسفي متعدد الاوجه و متخصص بذات الوقت .
       ان قارئ قصص (( ممر الى احزان الرجال )) يُبْهَرُ عندما ينتهي من قراءة سطور القصة، متوقعاً انه سيجد شيئا ما فيما قرأه ، الا انه بعد ان ينتهي من قراءة القصة باكملها ، يجد ان الكاتبة لم تعطه شيئا يمسكه ما عدا ان تلك القصة باكملها ما هي الا مناجاة ذاتية بلغة شفافة لموقف حياتي بسيط اجهدتْ  نفسها و موضوعها فوق طاقتها و طاقته كي تعطيه بعدا شموليا و فلسفيا عبر استعمالاتها الموفقة او غير الموفقة ( احيانا ) للمفردات و الصور و التراكيب اللغوية الشعرية .
        ان قصص (( حدق … إصمت … قاتل )) ص4 و (( في الاعالي تموت النسور )) ص43 و (( المنخورون )) ص81 , (( الميلاد )) ص105 و (( الحلم و الاجتياح )) ص97 و  (( سمفونية الرجل المسافر )) ص115 يمكن ان تكون امثلة تطبيقية لما ذهبت اليه .
        في (( حدق … اصمت … قاتل )) استعارات تاريخية (( لهولاكو )) و (( الاسكندر )) و محاولة الربط بين مثل هذه الاستعارات و بين واقع الامة العربية بعد نكسة الخامس من حزيران 1967 .
      
        اما في قصة (( في الاعالي تموت النسور )) فان القاسم المشترك الجديد مع المفردة الشعرية هو : الرمز . تعود الكاتبة بعد 24 سنة في ذكر هذه القصة في استذكار ضمن قصة (اساطير ديكة الجن) التي نشرتها في مجموعتها (موسيقى صوفية) 1994 ص143، استذكارات لا تمسك منها سوى جمال شعرية العبارة وعبق الذكرى.
       ومما يؤكد ما ذهبنا أليه قول الناقد العراقي ( عباس عبد جاسم ) في كتابه ( قضايا القصة العراقية المعاصرة ) / بغداد / 1982 : (  ولكن فورة التدفق الشاعري وليس الشعوري في قصة لطفية الدليمي ، تدفع بالرمز أحياناً الى الأغراق بالضبابية أو الضياع وسط الأشياء الى حدٍ يحول دون تنامي الرمز وفق الأنسياب النفسي الذي يتطلب فيه تصعيد الدلالة الرمزية الى مستوى الواقع . ص99 ) .  
 
        ان التشبث بمثل هكذا تفسير و تنظير للعلاقات الانسانية عبر مواقف و اتجاهات فلسفية ضمن القصة هو الذي قاد الكاتبة الى مثل هذه النتائج و التي يمكن ان نسميها تجريداً .
        ان شخصيات القصة تكون مجردة ، عائمة ، و هذا ما يبدو بشكل اوضح في قصة (( حمورابي و اشياء في الغربة )) ص57 .
        ان موضوع هذه القصة بسيط جدا : هو حكاية انسان يعيش الغربة داخل وطنه . تأخذ الكاتبة هذه الفكرة و تبدأ منها بنسيج عجيب من الاستعارات التاريخية : بابل ، الجياد العربية ، أرم ذات العماد ، حمورابي ، البغايا المقدسات . اما هذا الرجل فكل ما نعرفه عنه انه يحن الى (( بابل العذراء )) و انه (( الرجل ذو الزمن القصير )) .
        ان التعميم و الاطلاق عبر الاستعمال غير الموفق لذلك الخِضَم من الاستعارات التاريخية هو النتيجة او الحصيلة التي يحصل عليها القارئ بعد انتهائه من قراءة هذه القصة .
        ان الاستعمال المجرد للأستعارة التاريخية مقطوعة عن جذرها الاجتماعي و الاقتصادي و التاريخي و محاولة زجها قسريا في ابعاد رمزية دون تخطيط لمهمتها داخل العمل القصصي تقود الى التجريد ، و الا ماهو وجه المقارنة بين حمورابي (( الذي يعانق الصبايا اليانعات بيد و يسنُّ القوانين و يختم باسمه المقدس باليد الاخرى .. يدوس موكبه جماجم العبيد من فارس و غير فارس )) ص58 ، و بين (( الرجل ذو الزمن القصير )) الذي (( لم يعد غريبا لكنه لن يصبح بدويا ايضا ، سيبقى البابلي العنيف ، ساكن الاقاليم المقاتلة و الثائرة كل يوم )) ص61 . ان وجه العلاقة هو : لغوي او انشائي و ليس فكري او فلسفي كما يتوهم القارئ عند قراءته الاولى للقصة .
        و يتأكد هذا الوجه خلال القصص الاخرى مثلا (( الرمال ترقص ايضا )) ص65 التي هي مجموعة علاقات هشة و غير واضحة بين امرأة و رجل تستعمل فيها الاستعارة التاريخية ليس بمعناها الرمزي او الفكري بل بالمعنى الانشائي او اللغوي ، فرموز مثل : ثمود ، صالح ، عنترة ، سفينة نوح ، الربع الخالي ، ناقة دارة جلجل ، و غيرها هي مجموعة استعارات لجأت اليها الكاتبة في سبيل ايهام القارئ بشمولية القصة و عمقها ، الا انها جميعا لا تنفع بشيء بسبب  ان الشخصيات التي تستخدم مثل هذه الاستعارات هي اساسا غائبة او غير حاضرة داخل العمل القصصي نفسه .
       ان غياب الملامح المميزة لشخصيات القصة لا يؤدي الى ضعف القصة من حيث بنائها و موضوعها فقط بل يؤدي بالتأكيد ايضا الى اضعاف الدور الذي يمكن ان تنهض به الادوات الاخرى المتوفرة للكاتب و التي يستعملها في تعزيز ملامح عمله القصصي بشكل عام .
       ان علاقة المرأة بالرجل و عُقَدِهما الاجتماعية و مشاكلهما السياسية هي المدخل الطبيعي المفضل لدى الكاتبة في محاولتها تنظير الحياة الانسانية .
       ان القارئ لقصصها لا بد و ان يجد هذا المحور : المرأة / الرجل فاعلا و مؤثرا في البناء الشكلي و الفكري للقصة عندها : انه النافذة التي من خلالها توجه الكاتبة اضواءها على مجموعات من الشرائح الاجتماعية المختلفة . فمن الملاحظ ان الرجل / المرأة في قصصها، يتبادلان المواقع دائما ، فالرجل النسر و المرأة الخائفة و الرجل السلبي و المرأة الايجابية دائما نماذج منظورة و متحركة في قصص الكاتبة ، فضلا عن كونها نماذج متوقعة و نمطية ايضا وهذا ما نلاحظه منذ مجموعتها القصصية الاولى (ممر الى احزان الرجال) وانتهاءا بمجموعتها  القصصية(برتقال سمية) 2002.
       ان نماذج المرأة غالبا ما تكون امرأة متعلمة او مثقفة و ذات وعي اجتماعي ــ سياسي واضح و الرجل غالبا ما يكون مسحوق ، منهزم سياسيا و اجتماعيا ذو انتماء سابق مطارد بظل ذلك الانتماء . ففي قصة (( ممر الى احزان الرجال )) ص57 تكون المرأة هي الدافع الحقيقي لعودة الرجل المهزوم الى انتماءه و الى مساهمته الجادة و الواعية في حركة الجماهير . ان المرأة في هذه القصة هي المكان الخصب و الدافئ و الامين لايواء رجل (( كفاه هشتان بلا تصميم ، غير ملتزم .. كان و اضحى اسطورة . باع التزامه ، اغرقه في خمرة رديئة يعب منها ليل نهار )) ص76 ، و على العكس من ذلك نجد ان المرأة في قصة (( في الاعالي تموت النسور )) سلبية خائفة بل هي ميتة فعلا : (( لكني ميتة فعلا ، ايها الرجل المستنسر )) اموت كل يوم … ابحث في الداخل و الخارج عن نفسي و عنك و عن الاخرين … تجلل رأسي الخيبة ، افقد المثابرة ، و ينكمش الريش ، يعود تحت جلدي .. لن اصلح رفيقة لنسر )) ص48 . و على العكس من هذين النموذجين نجد المرأة في قصة (( الطرقات الحزينة ))ص33 واقعية و ذكية تعرف حدودها كامرأة بنفس الوقت الذي تستطيع فيه ان تحدد منطق علاقتها بالرجل و الذي يمثل في هذه القصة بصفات الرجل الشهواني الذي يبحث عن علاقات هشة و سريعة و غير مجدية ، بعيدة عن الالتزام الاجتماعي و الاخلاقي الحقيقي الا ان واقعية المرأة المرصودة في هذه القصة تقف دون عبثه و تتحدى غروره و شموخه الرجولي حيث يرحل الى مدينته البعيدة : (( ادفن بقاياي النتنة و اتكور في حجر امي … استجلب نقاء الطفولة )) ص40 . كذلك الامر في قصص مثل (سكان الفورمالين) و (شفرة ) المنشورتين في مجموعتها (برتقال سمية) 2002.
                              
    ان ما اشرت اليه في قصص (( ممر الى احزان الرجال )) لا ينسينا القول ان الكاتبة استطاعت عبر قصتها (( احزان رجل نزف حريته )) ص 15، ان تختار موضوعا اجتماعيا ذا نمط خاص و عبره رصدت بنجاح نموذجا انسانيا متفردا في وضعه الاجتماعي و النفسي ، ان وعي هذا النموذج للحرية كان واضحا عبر البناء القصصي و خلال نمو الحدث القصصي نفسه لذا جاءت اسئلته الفلسفية و الفكرية عن الحرية .. و السياسة و الحياة و الموت نابعة عن تجربة شخصية فريدة و ممتلئة و واضحة ، لذا كان هذا النموذج ــ السجين السياسي الذي اطلق سراحه (( الان )) ، لا يستطيع ان يعتاد على الحياة الاجتماعية و السياسية الجديدة ، و لا يقدر ان يتكيف لها نفسيا :
       (( ــ الان ــ مرة اخرى ماذا تفعل بهذه ــالان ــ الجديدة المليئة بالحرية و الوعي و التفرد )) ص18 .
       ان قضية الاعتماد على المفردة الشعرية دون التفكير بمدى فاعليتها في خلق جو قصصي معتمد على الحدث و على نمو الشخصية ادى بالكاتبة الى ان تقع في مجموعتها الثانية ــ البشارة ــ في ناصية التعميم و الاطلاق و التجريد اكثر مما حصل في مجموعتها الاولى . ان قصص (( تجاعيد زمن الاحياء )) ص56 و (( الصلب في المدخل السابع )) ص67 و (( المنحنيات )) ص63 و (( السفر و الشوق )) ص36 يمكن ان توضح ما ازعم به .
       ففي قصة (( تجاعيد زمن الاحياء )) نلاحظ ان الكاتبة اعتمدت في روايتها لحدث القصة على كلمات عامة تحمل معنى الاطلاق و التجريد مثل : (( يبدأ العالم )) ، (( قاع العالم )) ، (( الازمنة تتعبق في تجاعيد الوجه )) ، (( انحرافاتي الصغيرة نحو الاتجاهات المتقاطعة تؤرقني )) ص58 ، (( التصوف المتوحد الهابط من قمم حيواتنا الحقيقية يشدني الى وجهك )) ص59 ، اضافة الى تركيزها على كلمات ذات دلالات خاصة في عالم التصوف مثل : (( الحضور )) (( الغياب )) (( الزمن )) و التي اخذت مداها الابعد في قصتها اللاحقة (( الشهود و الشهداء )) في مجموعتها الثالثة ــ التمثال ــ و التي سنتكلم عنها لاحقا .
       ان انعدام الحس المكاني و الزماني للشخصية ــ عند القارئ ــ يبدو واضحا في هذه القصة او في قصة (( الصلب في المدخل السابع )) حيث ان القارئ يستطيع ان يلاحظ و بسهولة ان هذا النمط من القصص هو نوع من القصص التي لا تنتمي الى مكان او تاريخ لانها تكون مزدحمة بالاشارات التي توحي بأزمان و تواريخ و أوطان متعددة . ان القارئ امام هذه الزحمة من الاشارات يفقد نكهة الاحساس باي منها .
        كذلك فان قصة (( السفر و الاشواق )) ص36 هي مثال اخر لنموذج التعميم و الاطلاق و التجريد ، حيث نلاحظ ان لغة الكاتبة اخذت تفقد ــ بعض الشيء ــ حتى سحرها الشعري و ذلك باعتمادها على صيغ و تراكيب لغوية لا نستطيع ان نعطي لها اسما او تفسيرا مثلا : (( من بين المسافات المتخاصمة و المسافات المتحابة كان يكتب لي عن الشوق و رائحة السفر )) أو (( وفي بعض الاحايين حبا غير شرعي يزاحم ارتعاشة الشوق الى معاشرة الوطن )) ص37 . او عندما تخاطب المرأة الرجل بقولها : (( انت تجيد اغتراف الصداقة دون اللجوء الى اثارة قلق اللغة )9 ص40 .
       اترك هذه الاقتباسات ــ و دون شك هناك الكثير غيرها ــ دون تعليق لانني اعتقد ان القارئ الذكي يستطيع ان يكتشف و بسهولة اية نوعية من التراكيب اللغوية هي و يستطيع الاجابة ايضا أ كانت تصلح لان تكون نموذجا للغة قصصية متميزة ام لا ؟ .
ان ( اللغة ) ، عند ( رولان بارت ) / وهي غير ( الكلام ) أو ( الخطاب ) / ، تُعَرّف بوساطة سياقين رئيسين : هما التفاصل والتكامل أو التقطيع والأندماج (أي الشكل الذي يكوّن الوحدات ، والشكل المندمج الذي يكوّن المعنى ) كذلك تشهد لغة القصة القصيرة هذة العملية المزدوجة : اذ تحتوي على تفاصل وتكامل ، وعلى شكل ومعنى ) [ رولان بارت ، التحليل البنيوي للقصة القصيرة ، ترجمة الدكتور نزار صبري ،  1986] ، لكننا لم نجد عند الكاتبة اياّ من هذة التحديدات ، بل واجهنا دفقاً ( شعرياً ) يصعبُ فيه العثور على الشكل أو المعنى .
     في مجموعة (( البشارة )) لم تزل الكاتبة (( لطفية الدليمي )) تمارس اختيار موضوعها السابق و هو علاقة المرأة و الرجل او بالعكس و هذا يتوضح في قصص مثل (( تفصيلات عن مسرحية لن تتم )) ص5 و (( القمر و النافذة )) ص29 ، او موضوعها المفضل الاخر و هو وضعية الرجل السياسي المنهزم و الذي فقد التزامه و تنصل لكل قيمه و مبادئه بحكم ظروف ذاتية او موضوعية هو يخلقها كي يبرر مثل هذا الانهزام كما في قصة (( و إن تذوقوا مرارة الحنظل )) ص15 .
       ففي قصة (( تفصيلات عن مسرحية لن تتم )) : س : امرأة عانس عاشت تجربة جنسية صعبة عندما كانت في عمر خمسة عشر سنة ، ن : امرأة مشاعة لكل الرجال حيث تقول : (( ليحضروا جيشا من الرجال .. ان هذا يسعدني كثيرا )) ص14 ، هـ : امرأة اكثر وعيا من (( ن )) و (( س )) فهي تعرف ماذا يريد الرجل و كيف تستطيع ان ترضيه بنفس القدر الذي ترغب فيه ان لا تكون مباحة لانها تبذل جهدا (( قد يكون مميتا )) لاخفاء الخرائط السرية المرسومة على جسدها عن عينيه . ان تشكيلة هذه الشخصيات هي تشكيلة تجريدية بحيث لا يستطيع فيها القارئ ان يميز و بدقة خطوط  و ابعاد كل شخصية على حده بنفس القدر الذي لا يستطيع ان يميز و بدقة  الخطوط التفصيلية لبناء هذه الشخصية او تلك . ان منطق التداخل الحاصل في بناء هذه الشخصيات يعود اولا الى طبيعة المشكلات المشتركة التي تواجهن و ثانيا الى طبيعة اللغة المستعملة في وصف هذه المشكلات و كيفية تفسيرها . ان لغة الكاتبة في هذه القصة كما في غيرها من القصص الاخرى تلجأ الى الطريق الملتوي او الصعب و غير الواضح في وصف حركة الشخصية و مشاعرها و طريقة اشتراكها في صنع الحدث ، مما يؤدي الى ضياع فرصة نادرة و ثمينة تحصل عليها القاصة في تأسيس شخصية قصصية متميزة .
       ان الاستعمال الانشائي للغة قادها الى مزالق خطرة في عملية البناء الدرامي للقصة حيث نلاحظ ان القصة عندها تتحول احيانا الى موضوع انشائي كما في قصة (( السقوط ضمن دائرة الضوء )) ص44 ، او الى ضعف واضح في تركيب الحدث القصصي كما في قصة (( الطيارة الورقية )) ص50 التي حاولت فيها الكاتبة ان تربط بين الواقع الاقطاعي و النضال السياسي الذي كان يقوده مناضلون في الريف من خلال تداعيات صبية تلعب بطيارتها الورقية الملونة ، ان شفافية هذا الموضوع و جماله و قدرته الكبيرة على الايحاء قد اجهضت عبر الاستعمالات الشعرية القسرية للغة و عبر التكوينات الانشائية اللاشعرية للغة ايضا مما ادى الى انهاك القصة و فشلها في التعبير عن موضوعها المختار الجميل .
       لنقرأ هذا الحوار في صفحة ( 52 ) و ليحكم القارئ مدى صحة ما نزعم به .
يقول الرجل : (( اراك امامي جسرا للاحزان )) ، تقول المرأة : الصبية : (( اعدت اكتشاف الامسية المسروقة في بهجة عمري الاول ، و قرأت مع القمر الدعوة للصحو )) ، يقول الرجل : (( و بعد )) ، تقول المرأة (( عدت اليك امرأة مهمومة و على شفتي بقايا امسية ريفية )) .
       لا اريد ايضا ان اعلق على هذه الطريقة في الحوار لكن اريد التأكيد بنفس الوقت أن الكاتبة ، في مجاميع قصصية لاحقة لها أثبتت قدرتها الرائعة على اجادة بناء الحوار بروح ( مشهديّة – مسرحية)، فيها بساطة وعمق وتصوير واقناع كما هو الحال في مجموعة (موسيقى صوفية) 1994 وغيرها ، مع الاعتراف مسبقا أن من حق الكاتب أن يكتب حواراً او وصفاً او قولاً بالطريقة التي يقتنع بها ويقدمها لقرائه. كما ان الكاتبة لديها تجارب في كتابة المسرحية نشرتْ بعضها .
                           
             ان محاولتها الاستفادة من الطاقة التعبيرية للمفردة الشعرية و تأثيرها على القارئ عند وصفها لحالات شخصيات قصصها و اهتمامها بهذه  الناحية دون اعطاء مسألة قدرة هذه المفردة على التعبير عن الموقف الحياتي و النفسي للشخصية اهمية اكبر ، تبرز بشكل واضح في قصة (( امتياز تنوء به الروح )) الواردة في مجموعة (التمثال) و التي حاول القاص (( موسى كريدي )) في مقدمته لكتاب (( قصص مختارة من ادبنا القومي الاشتراكي )) الصادر سنة 1977 بغداد ، ان يقارنها مع قصة جمعة اللامي (( التستري )) المنشورة ضمن نفس مجموعة المختارات المشار اليها اعلاه . اعتقد ان عملية المقارنة هذه غير دقيقة على الرغم من وجود بعض التشابه بين شخصيتي القصتين ، لان قصة لطفية الديمي هذه أعتمدت تقنية شكلية أساسها اللغة بتعابيرها الشعرية أو القريبة منها كستار لتغطية بعض عيوب بناء شخصياتها.
      ان لجوء الكاتبة ــ هنا ــ الى الاهتمام باللغة دون المعالجات الفنية الاخرى الخاصة بفن القصة ، ناتج عن عدم نضوج او تكامل الحدث القصصي لذا كانت تكرر اكثر من حادثة بشكل او بآخر ، مثلا ــ مسألة البحث عن طبيب ــ و لعل الكاتبة تبرر ذلك ، بانها كانت تحاول ان تعطي القارئ احساسا بحدة الازمة النفسية التي تعاني منها هذه الشخصية ممثلة ببعدها الاجتماعي ، الا ان هذا التبرير ــ كما اعتقد ــ لا يمتلك اسساً واضحة ، خصوصاً وأنه كان ممتلئا بزيادات و استطرادات لغوية غير ذات اهمية .
       ان هذه القصة قلبت فيها الفكرة رأسا على عقب ، فلقد نشرت هذه القصة لاول مرة في مجلة (( آفاق عربية )) العدد الرابع ، كانون الاول سنة 1975 ص61 ثم اعيد نشرها ضمن (( قصص مختارة من ادبنا القومي الاشتراكي )) ص346 بنفس الفكرة و دون اية اضافة ، الا ان القارئ لمجموعة (( التمثال )) يفاجئ بهذه القصة و قد غيرت فكرتها و غير بطلها السلبي الى رجل ايجابي عرف طريقه و عرف علاجه و عرف انه بالامل يمكن ان يعيش ، حيث ان القصة بشكلها المنشور في المكانين السابقين ــ قبل المجموعة ـ كان البطل ينهي حواره و ينهي القصة بالكلمات التالية : (( و لكن فات الاوان )) مما يدل على يأسه و قنوطه و عدم تعلقه بالحياة ، الا ان القارئ يفاجىْ باضافة أخرى يقولها (( صادق )) ــ شخصية ثانوية بالقصة ــ هي : (( لم يفت الاوان بعد )) مما يوحي الى القارئ ان شخصية القصة ، المضطربة ، المنهزمة ، المريضة القانطة اليائسة قد تَغيرتْ بفعل السحر الذي قاله (( صادق )) !.
       ان هذه الطريقة في تغيير العمل الابداعي و مراجعته تبدو، بتقديري، غير موفقة خصوصا اذا  تمتْ مقارنتها مثلا بمراجعات عديدة قام بها شعراء و قصاصون لاعمالهم الابداعية ، و ما فعله (( محمد خضير )) بقصته (( منزل النساء )) التي نشرها بشكل في مجلة (( المجلة )) المصرية عام 1970 و بشكل آخر في مجموعته الثانية (( في درجة 45 مئوي )) ، اعتقد ان اية مقارنة بين المراجعتين تبين بشكل واضح كيف يمكن ان تكون المراجعة هدماً للعمل الابداعي و تفتيتاً لفكرته و موضوعه و بنائه ، و كيف يمكن بنفس الوقت ان يكون اعادة بناء و تجديد و اضافة نوعية و قيمة و حيوية تعطي للعمل الابداعي شروطاً ابداعية اخرى و دماً نقياً  يحمل النكهة الاصلية و يزكيها .
       ان اعتماد الكاتبة على لغة الشعر دون محاولتها رصد الحدث القصصي و تنميته بما يخدم البناء القصصي بشكل عام و يعمق وعي القارئ بالمواقف الفكرية و الحياتية و النفسية لشخصيات القصص ، قاد الكاتبة في مجموعتها (التمثال) الى السقوط في ناحية المواضيع الانشائية و الخواطر اليومية و المناجاة الذاتية . ان ظواهر الاطلاق و التعميم و التجريد تبرز بشكل يدعو للتساؤل و الاستفسار في قصص هذه المجموعة جميعها . كما ان الأنحسار في توليد احساس زماني و مكاني لدى القارئ ، و القفز فوق المعطيات التاريخية اللازمة لبناء الشخصية القصصية ، كلها ، سمات بارزة لا يصعب كشفها في قصص المجموعة .
       ان قصص مثل (( التمثال )) ص28 و (( عمران و الصيف )) ص40 و (( تجيء وسامك جرح )) ص49 و (( الوجه العربي )) ص57 و (( الصرخة )) ص66 و (( شجرة الغرب الفضية )) و (( تأملات في سيرة خاصة )) ص96 تمثل صيغا تطبيقية متقدمة لما نذهب اليه .
       ففي قصة (( التمثال )) نلاحظ حوارا مكررا بين رجل و امرأة تحب التماثيل و تكره الحرب و تريد ان تُضاجَع و هذا كل أملها بينما الرجل على العكس منها ، رجل يحب الناس ، حيوي يريد ان يقاتل ، و تنتهي القصة برفض الرجل لتلك المرأة و أخذه بندقية أثرية هي جزء من تحف هذه المرأة . ان رصد هاتين الشخصيتين جاء مبتسرا و ساعد في ذلك لغة الحوار الشعرية التي كانت تعطي للشخصيتين سمات لا تاريخية ، اي ان الشخصية تكون فاقدة لفعلها القصصي ضمن مساحة القصة و بالتالي تصبح مجرد كلمات و كلمات مترابطة بنسق شعري قد يخدم ما هو شعر ، الا انه لا يمكن ان يخدم بناء القصة و تركيب شخصياتها و احداثها .
       كذلك فان قصة (( عمران و الصيف )) هي اقرب الى الموضوع الانشائي  فهي عبارة عن مقارنة بين حالة الفلاح (( عمران )) و زوجته في ظل الاقطاع و الانظمة الجائرة : (( كوارات الطين في بيوت الفلاحين لا تدخلها حبة قمح و لا حفنة دقيق ، و الفئران ماتت منذ زمن بعيد )) ص44 ، و بين حالتهما في ظل التغيير بعد 1968 : (( اتى الرجال المجنحون بالثورة .. عمران الشمس تعلو و البيادر تعلو .. اما استرحت ؟ عمران يمسك مقود الحاصدة و يمضي باتجاه الشمس )) ص48 . بنفس الاتجاه فان قصة (( تجيء وسامك جرح )) و التي كان مقدرا لها ان تمتلك ناحية الفن القصصي بشروطه المعروفة حيث ان هذه القصة كانت مليئة بالاحداث و ذات شخصية مركزية صانعة لهذه الاحداث ، كان يمكن للكاتبة ان تستثمرها في بناء قصة ذات بناء درامي متصاعد ، الا ان اعتمادها الانشاء و المفردة الشعرية في غير محلهما ، افسد القصة و خلخل بناءها و افقدها اهمية شخصياتها المركزية لنقرأ مثل هذه السطور : (( الامل عبر انتكاسات التاريخ يصبح تميمة الخلود و صوت الغد )) ص51 ، هذه حكمة ضمن وصف لنزيف جرح البطل في ساقه ، او  في وصف الراعي في الصحراء : (( متكئ على اكتاف السكون المسائي )) ص54 ، او نهاية القصة التي يمكن ان يقال عنها انها انشائية و تقليدية ايضا : (( تجيء انت .. تجيء وسامك جرح قديم ، دمك البشارة ، و عشقك وطن ، صوتك غد اخضر )) . مع هذا يمكن القول ان تقطيع القصة الى مقاطع كان ذكيا و موفقا . أما قصة (( الوجه العربي )) فهي تستند على رموز شعرية مستهلكة ، و هي: “المرأة التي تولد” ، و “الصحراء التي تحبها :، و “الماء الذي تريد ان تطفئ به ظمأها “و “وليدها الذي يحل مشكلتها” و” يطرد الصحراء الغازية المعادية “. ان هذه الرموز كثيرا ما استعملت في الشعر العربي من قبل شعراء كثيرين حتى استنزفت فلا ادري كيف يمكن ان يكون صداها و تأثيرها عبر نثر قصصي ؟ اعتقد ان هذا الصدى و الاثر لا يتعدى كونه لفظي او انشائي لانه يفقد الشخصية القصصية حرارتها و يُميّع الحدث القصصي باستعارات بلاغية قد لا تخدم الحدث القصصي بقدر ما تتعارض معه .
       كذلك فان قصة (( الصرخة )) تعالج موضوعاً اثيراً ومفضلاً في قصص الكاتبة الا و هو علاقة المرأة بالرجل ، العمل ، البيت ، التحرر و الدعوة الى الفعل . ان صفة الاطلاق و عدم وجود ساحة زمانية و مكانية محددة افقدَ القصة ملامحها ، و جعل الموقف الحياتي و الفكري و النفسي للشخصية لا يساوي الفعل القصصي المتوفر . و هذا ينسحب ايضا على قصة (( شجرة الغرب الفضية )) ، التي حاولت الاقتراب من استخدام الرمز في تشكيل بنائها ، اضافة الى اعتماد لغة التراكيب الشعرية القسرية التي ما زالت تشغل حيزا كبيرا في ساحة العمل القصصي ، لنقرأ مثلا : (( عدوت الى شجرة الغرب ، و في الطريق التقيت الوطن ، و على كتفيه بكيت )) ص85 . او كلام الام الموجه لابنتها : (( يا لهفي عليك يا نجمة تضيع في لظى الحروب )9 ص80 ، او : (( من بعيد اتيت اجر خطاي اليك يا وطني … آه … لو احدثك عن كثافة حزني )) ص75 .
       ان احساس القاصة (( لطفية الدليمي )) الشعري للمفردة هو الذي قادها ان تنحو منحى صوفياً ليس على مستوى اللغة القصصية بل على مستوى الفعل القصصي و الشخصية القصصية و بناء القصة العام . يشكل الهاجس الصوفي، فكرة وشخصيةً ولغةً واحد من مرتكزات فنها القصصي والروائي، عبر استخداماتها المتعددة لهذه الثقافة في كتاباتها منذ بداياتها ولحد الوقت الحاضر، حيث شغلت حيزاً واسعا من هذه الكتابات،.
     ان الاعتماد على ادبيات وشخصيات صوفية ولغتهما ، ما هو الا جزءً من استخدامات الكاتبة للاستعارة التاريخية في سردها القصصي والروائي والاستفادة منها في تنويع نصها السردي بما يخدم مساراته عبر لغة شعرية قابلة للتاويل والتفسير المتعدد ، أن قصة ( الشهود والشهداء) المنشورة في مجموعة (التمثال) ص 113 والتي كانت قد نشرت لاول مرة في مجلة (افاق عربية) / العدد السابع/ السنة الثانية/ اذار 1977، كان قد قدم لها المرحوم الفنان التشكيلي الرائد (شاكر حسن ال سعيد) بقوله : ان الشعر هو (( لب اللغة بلا منازع )) و (( اننا احيانا ، عند اعمال فنية نتأمل الشخصية الانسانية فنمنحها بعدا جديدا لا قبل للتاريخ به ، فهي تحرره من سياق (( الحدث )) لتسمو به في فضاء (( الامكان )) و هي تحطم من حوله (( القالب )) لكي تقترحه كـ (( لب )) و من اهم هذه الاعمال : الشعر )) ، و لقد سمى الفنان هذه القصة صراحة بــ (( الاقصوصة ــ الشعر )) و هذا يتفق الى حد بعيد مع ما ذهبنا اليه في اعتماد القاصة على طاقة اللغة الشعرية في تعاملها مع الحدث او مع الشخصية القصصية ، و لهذا وجدناها لجأت اخيراً الى ما يتناسب فعلا و هذه الطاقة الا و هو موضوع استشهاد (( الحسين بن منصور الحلاج )) ، الا ان سمة الشعر بقيت هي الغالبة مما ادى الى اخلال كبير في شروط فن القصة القصيرة .
ان الشخصيتين الموضوعتين (( سلمى )) و (( ابن عباس )) هما انعكاسا و ليس اضافة لشخصية الحلاج و شخصية مريده (( الشبلي )) حيث ان (( سلمى )) تمثل قوة الفعل و التي مثلها الحلاج في الاعلان عن دعوته و الاجهار بها ، و بينما يمثل (( ابن عباس )) الموقف السلبي الذي مثله على المستوى التاريخي (( الشبلي )) في تقيته لأُولي الامر الذين امروا برجم (( الحلاج )) و الاعلان بكفره و من ثم اعدامه . وتبرز الاستفادة من الفكر الصوفي وتنويعاته بشكل اوضح في مجموعتها (موسيقى صوفية) 1994، ومجاميعها اللاحقة، اذ تشكل القصة التي تحمل نفس العنوان مثالا نموذجيا لكيفية استفادة الكاتبة من خلق اجواء صوفية ، كانت تغرق بها بطلة القصة (سامية النعمان) التي على الرغم من تلك الاجواء الا انها كانت امراة حسيّة بطريقة نادرة حقا. أن مفردات مثل : (المريدون ، الانطفاء، النشيج، الانخطاف، الشطحات، الفيوضات، التمتمات، الاشراقات، البروق، البهاء، التقاسيم،.. الخ) وغيرها من المفردات والعبارات الصوفية تجدها ممتدة في طول وعرض اعمال الكاتبة على مستوى القصة القصيرة أو الرواية.
           استطاعت الكاتبة في بعض مجاميعها اللاحقة كما هو الحال في قصة (القطاف ) ، [[ نًشِرتْ لأول مرة في ملحق جريدة ” الثورة ” البغدادية الأسبوعي بتأريخ 5 / 10 / 1978 ]] ، ان تتخلص من الكثير من الاستطالات و التعابير اللغوية الزائدة و قللت الى حد بعيد من اعتمادها على الشعر . الا انها بنفس الوقت اختارت تقسيما تقليديا او مدرسيا لمفهوم القصة من حيث تقسيمها القصة الى العرض ، النمو ، ثم النهاية لكن عملية الربط بين هذه الوحدات الثلاث جاءت غير مقنعة ، مثلا : الطريقة التي تزوجت فيها (( منيرة )) من الاقطاعي (( ابو حسيب )) ثم مسألة اصرار (( منيرة )) على البقاء مع هذا الشيخ على الرغم من تلميح الكاتبة لاكثر من مرة بان ظرفا موضوعيا جديدا قد برز بعد التغيير الحاصل في الملكية الزراعية ، ناهيك عن اسهام حبيبها القديم (( جميل )) في هذا التغيير ، كذلك فان عملية الربط بين سقوط (( ابو حسيب )) من فوق فرسه و اصابته بعاهة في رجله حالت دون استمراره في الاشراف على ادارة اعماله الزراعية و حالت دون ممارسته حياته الزوجية بشكل طبيعي ، و بين سماع الفرس لاصوات المكائن الزراعية و الات الحصاد و الحراثة ، كل ذلك الربط ، كما يبدو ايضا غير مقنع للقارئ ، اضافة لذلك ان القاصة حاولت ان توحي الى القارئ ان الفرس في القصة قد تحمل معنى رمزيا معادلا لـ (( منيرة )) و ذلك عبر مناجاة (( منيرة )) للفرس :
       (( اقتربت منها منيرة و فكت اللجام تاركة اياها طليقة داخل الاسطبل و تمتمت : كم سيطول حبسك )) .
        ان هذا الربط بين عجز (( ابو حسيب )) عن ممارسة حياته الزوجية و عدم قدرته ركوب الفرس ، بقدر ما كان يحمل معنى التفسير الرمزي ، الا انه جاء بنفس الوقت ربطا ذهنيا خارجا عن بناء الشخصية و تكوينها النفسي ، لان (ابو حسيب )) الذي (( اصبح عاجزا عن امتطاء صهوتها ــ الفرس ــ بعد حادث سقوطه )) كان (( يمنع فرسه منذ عام و نصف من العدو في الحقول و يحجب عنها ذكور الخيل ، يلجمها و يزيد احكام قيودها ، فتظل تصهل و تحمحم )) ، كان (( ابو حسيب )) يمارس عملية المنع ذاتها مع (( منيرة )) ، الا ان (( منيرة )) لم تنتقم لهذه العملية حتى عندما طرح عليها (( جميل )) مسألة عودة علاقتهما ، قالت له : (( جميل .. رغم كل هذا فان عمك الان نصف مقعد ، و انا ارعاه رأفة به و لانه يحبني و ما اساء لي بشيء الا لفرط حبه لي ، و ليس هينّاً عليَّ خذلانه )) . هنا من المفيد ان نلاحظ بنفس الوقت ، ان الفرس ساهمت في عملية موت (( ابو حسيب )) عبر ضياع صرخات استغاثته في اشتداد صهيل الفرس التي (( وقفت تلوب و تمد اليه رأسها و عندما عجزت عن فهم ما يجري له ، و رأته يفتح فمه و يرفع يديه انطلقت تعدو صوب الحقول و تصهل من جديد )) .
       عبر هذه القراءة التحليلية للقصة نلاحظ ضعف الترابط بين المعادلات الرمزية التي حاولت القاصة خلقها ، اضافة الى الضعف في الترابط بين وحدات القصة بمفهومها التقليدي . و مما يؤكد ذلك وجود زوائد في البناء القصصي جاءت عبر شخصيات ثانوية حيث ان علاقة هذه الشخصيات مثل : (( سعد )) و (( حسيب )) اولاد (( ابو حسيب )) من (( منيرة )) و (( جميل )) جاءت مبتورة و غير مبررة و حتى غير معقولة .
       ان ( موسم الصمت )) بقدر ما تؤكد ما ذهبنا اليه عبر هذه الدراسة حول الاعتماد المطلق على المفردة الشعرية في بناء القصة و شخصياتها ، فانها بنفس الوقت تؤكد التفاؤل الذي اشرنا اليه في حديثنا عن قصة (( القطاف )) و مما يؤكد هذا التفاؤل ايضا هو ان القاصة نفسها قالت صراحة ان ما تكتبه في هذه المرة هو ليس القصة القصيرة او الخاطرة ، فهي لم تكتب (( تحت اي من تلك العناوين )) لقد رسمت على الورق ما توارد عليها ، و هذا بتقديري اعتراف نبيل و حساسية جميلة من الكاتبة ازاء ما تكتبه ، ان (( موسم الصمت )) كما قالت الكاتبة ، جاءت خليطا من القصيدة و الخاطرة و القصة ، و الذي اعتقده ان مهمة الناقد هنا هي وضع الفوارز بين هذه الاشكال الادبية .
       ان ما يمكن فعله في هذا المجال هو ليس وضع مساطر و مقاييس بل محاولة للكشف التقريبي عن هذه الاشكال عبر الاستناد الى ما هو معروف من اسس نقدية ، لذا يمكن القول ان (( موسم الصمت )) تبدأ بخاطرة انشائية ــ ان جاز التعبير ــ يختلط فيها الشعر بالقصة الا انها كوحدة ادبية منفصلة تأخذ اسم الخاطرة . اما مقطع (( مجالسة الوطن )) فهو قصيدة شعرية تختلط فيها الاوزان الا انها تبقى ذات لغة شفافة ، موحية و معبرة عن حالة عشق صوفي . و تنتهي بحوار ينعدم فيه الجو الدرامي ، الا ان الحس الشعري الغنائي يبقى صافيا و ناصعا :
       (( نصمت تجتمع الوردة في الكفين تنتشر الدنيا في الكفين ، يأخذنا البعد الى اقليم الكلمات ، النجوى و ابكي ، تبكين نقتسم الراحة و الاحزان )) .
أما (( حال الاقتراب )) فهذا مقطع محير في (( موسم الصمت )) ، اذ ان بدايته ترجع القارئ الى ما هو خاطرة ادبية مكتوبة بلغة شعرية تستمد روحها الشعرية من اعتمادها على المفردة الصوفية و على الطريقة الصوفية في بناء الحوار و الاندماج الحقيقي بالطبيعة ، لينتهي بلغة قصصية متميزة استطاعت القاصة خلالها ان تعطي القارئ اشارة الى حساسيتها الجميلة في استثمار عناصر الطبيعة لصالح العمل القصصي . تبدأ هذه الحساسية الجميلة للطبيعة و الطفولة من (( التقاء الصبية بالنهر )) لتستمر في المقطع الرابع (( احوال المشاهدة الاولى )) الذي يمثل نضجاً قصصياً متقدماً بالنسبة الى قصص الكاتبة ، ان الجزء الاخير من (( حال الاقتراب )) مع (( احوال المشاهدة الاولى )) يشكل وعياً متقدماً لطبيعة فن القصة القصيرة و نموذجاً مؤشراً في هذا المجال ان عالماً طفولياً يفاجئ به القارئ .. عالماً سحرياً يملأ القارئ بأحاسيس و اجواء قصصية فريدة ، تشعل فيه جذور طفولته الاولى باحلامها و لعبها و خرافاتها و اساطيرها .
       على العكس من ذلك نجد الكاتبة ترجع الى خليطها المعتاد و غير المركب في (( حالة الخوف )) و (( حال الشوق )) و (( تقويم مقترح للعشاق )) التي يختلط فيها الشعر بالخاطرة الا انها تبقى (( احوال )) بعيدة عن القصة .
 
خاتمة :
السيدة لطفية الدليمي ، كاتبة سرد موهوبة ، صاحبة ثقافة معرفية عميقة، تكتب بسجية صادقة وحميمية، بلغة فيها الشعر والخيال والمعرفة والواقع، وهي واحدة من اللواتي يشار لهنَّ بالبنان في مجال السرد النسوي في الوطن العربي . لذا كانت هذه الدراسة / المقاربة النقدية لفنها القصصي، القصة القصيرة تحديداً، ماهي الا ملامسة لواحد من جوانب ابداعها السردي وهو : اللغة واستخدامها في الاقتراب من شرح الفكرة والتعبير عن تنويعاتها عند الشخصيات. أتمنى ان اكون قد اقتربت من جوهره.

أحدث المقالات

أحدث المقالات