العراقيون برمتهم , عدا من إنتفع زمن المالكي و ما زال ينتفع , يريدون أن يشاهدوا المالكي داخل قفص الاتهام كي يحاكم على ما اقترفه من جرائم بحق العراقيين طوال سنين حكمه العجاف , غير إن إلقاء نظرةً إلى الواقع السياسي الحالي في العراق نجد أن ذلك لن يحصل للأسف , من يرتكب جريمة لا بد أن يشعر بالقلق و الخوف من إنكشاف هذه الجريمة و بالتالي محاسبته عليها , فالخوف ميزة طبيعية عند كل البشر , المالكي , و منذ أن أصبح نائبا لرئيس الجمهورية , يتصرف و كأنه لم يرتكب أي جريمة بحق العراقيين , حيث تراه يسافر إلى بعض المحافظات و يلتقي بالبعض من الناس و يطلق التصريحات ( و إن كانت كلها أكاذيب في أكاذيب و تصريح ينقض آخر و تصريح ينسف ما قبله ) و هو في إطمئنان كامل و لا تظهرعليه أي مؤشرات تدل على انه خائف أو قلق من محاكمة قادمة , رغم انه أرتكب جرائم رهيبة تعجز الكلمات عن وصفها , هذا يعني أنه متأكد و متيقن على أن لا محاكمة قادمة له مهما ارتفعت الأصوات المطالبة بذلك , ولو كان هناك إحتمال ان يحاكم و لو بنسبة 1% لكان حزم حقائبه وغادر العراق … و السؤال الآن ما هو سر إطمئنان المالكي هذا ؟ إذ لا بد ان تكون لذلك أسباب , إذن لنحاول جمع بعض الخيوط و ربطها سويةً كي تتضح الصورة و يزول العجب .
الخيط الأول : أن التحالف الوطني , و إن اختلف مع المالكي , إلا أن درجة الإختلاف هذه لن تصل إلى مستوى تسليمه للقضاء , و يجب أن لا ننخدع بالتصريحات الفارغة التي يدندن و يتغنى بها البعض من أن جميع المسؤولين الفاسدين سيحالون إلى القضاء و أن البداية ستكون بالحيتان الكبيرة , فهذا كلام للاستهلاك المحلي ليس إلا , فها هي الحيتان أمامكم وهي كبيرة فعلاً بحيث يستطيع رؤيتها حتى الأحول فكيف بسليم العيون ؟ و هو كلام لدغدغة المشاعر و للتنفيس عن الضيق و الاحتقان الذي يملأ صدور العراقيين , و هي بالتالي حقن تخدير لابد من زرقها بجسد العراقيين بين فترة و اخرى لتهدئة النفوس المتعبة , و كل هذا يعرفه المالكي جيداً .
الخيط الثاني : هادي العامري ( و ما أدراك ما هادي العامري ) عراب اللوبي الإيراني في العراق , صرح قبل تنحية المالكي عن رئاسة الوزراء , بأن بينه وبين المالكي زواج كاثوليكي , أي لا افتراق و لا طلاق بين الاثنين , و العامري لا يقول الكلام على هواه , بل هو الناطق الرسمي غير المعلن , بل قل المعلن فذلك أصح , لما تضمره الحكومة الايرانية من سياسة تجاه العراق, و لم يعد أحد يجهل حجم الخراب الذي لحق بالعراق جراء هذه السياسة . و المالكي يعرف جيداً ما قصده العامري بعبارة ( الزواج الكاثوليكي ) .
الخيط الثالث : المالكي رد الجميل للعامري فوراً عندما أصرت دولة القانون على تسليم وزارة الداخلية إلى كتلة بدر , أي إلى العامري , فأصبح العامري الوزير الفعليً للداخلية بعد الوزير الشكلي محمد الغبان الذي ينفذ كل ما يريده العامري , فكلاهما من كتلة بدر, و بما أن العامري خادم مطيع للخامنئي و للحكومة الايرانية , فالنتيجة المنطقية هي أن وزارة الداخلية العراقية أصبحت تدار من قبل ايران ( رغم أن العراق كله يدار من قبل ايران منذ الاحتلال و إلى اليوم , الا ان هذا التدخل أصبح الآن ساطعا بلا تزويق و بلا رتوش ) . و هذا يصب في مصلحة المالكي طبعاً .
الخيط الرابع : عندما يصدر أمر قضائي بالقبض على متهم , أي متهم , فوزارة الداخلية هي من تقوم بتنفيذ الأمر , ولما كانت الداخلية بيد العامري , فهل يُعقل أن العامري يوافق على إلقاء القبض على المالكي خاصة بعد إعلان الزواج الكاثوليكي ؟ و المالكي يدرك ذلك طبعاً .
الخيط الخامس : الأمر القضائي بالقبض على أي شخص لا بد أن يصدر من محكمة , و بما أن كل القضاء و المحاكم تحت سطوة و هيمنة مدحت المحمود , فان صدور أمر قضائي بتسليم المالكي للعدالة يصبح أمراً بعيد المنال, فعندما تم عزل مدحت المحمود من وظيفته , قام الدكتاتور المالكي باعادته إلى رئاسة المحكمة الأتحادية رغم اعتراض الجميع , و المحمود لن ينسى للمالكي هذا المعروف , فليس الطيور وحدها على أشكالها تقع , بل الخونة أيضاً على أشكالهم يقعون .
الخيط السادس : بعد إزاحة المالكي عن كرسيه و بعد أن أصبح نائبا لرئيس الجمهورية , قام بزيارة إلى ايران و التقى في طهران بالولي الفقيه الخامنئي , و كما ظهر على الفضائيات فقد كان موضع ترحيب كبير من قبل الخامنئي , الذي قابله بابتسامة عريضة و كال له المديح و الثناء , و الخامنئي ليس غبياً فهو يعرف أن المالكي قد قلب عالي العراق سافله و جعله بقرة حلوب لايران , لذلك كان هو الوحيد من بين رؤساء العالم الذي مدح المالكي , وهذا يعني ان المالكي قدم لايران خدمات لم تكن تحلم بها يوماً , بعضها معروف و بعضها تحت الطاولة و هذه أخطر من الخدمات المعروفة و لابد أن تنكشف مستقبلاً , و هذا يوصلنا إلى الاستنتاج بان الخامنئي لن يسمح مطلقاً بان يوضع المالكي وراء القضبان , خاصة ان مصدر القرار في بغداد لم يعد عراقياً , و الهيمنة الايرانية على مقاليد الامور في العراق لم تعد بحاجة إلى دليل أو برهان .
و الآن لو جمعنا هذه الخيوط بعضها بالبعض و أضفنا اليها خيوطاً اخرى مخفية لا نعرفها نحن العراقيون نتوصل إلى المحصلة النهائية بان محاكمة المالكي وهم كبير … و سراب , و هذا يفسر أرتياح المالكي و عدم قلقه من حساب قادم , أن الجرائم التي ارتكبها المالكي بحق العراق و العراقيين أكثر من أن تعد أو تحصى , محاكمة المالكي على ما سالَ من دم و ما سُرق من مال هو التغيير الحقيقي الذي تتطلع اليه الناس , و ان اعتقد أحد أن هناك تغيير ما قد حصل , فهو تغيير نحو الأسوأ .
الشاعر التونسي الخالد أبو القاسم الشابي قال :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بُد أن يستجيب القدر
و يبدو أننا لا نريد الحياة … بل نريد الموت .