أي تحليل رصين يتطرق إلى واقع العراق السياسي والثقافي والاجتماعي، يحتاج إلى معرفة العراقيين أولا كشخصيات وأفراد يتميزون بسمات أساسية، لا توجد عند الآخرين، وكذلك معرفتهم كمكونات وقوميات وطوائف مختلفة لا تمت إحداها إلى الأخرى بصلة مباشرة غير صلة العيش المشترك في وطن واحد بقرارات دولية تعسفية لم تراع فيها الجوانب الإنسانية أبدا، ولم تأخذ حالة التنافر الحضارية القائمة بين هذه المكونات وعلاقة العداء التاريخي، التي ربطت بينها بعين الاعتبار، ما نتج عنها حروب وفواجع بشرية في أحيان كثيرة، مثل الحرب الطائفية الدموية بين السنة والشيعة في عامي 2006 ــ 2007 وعمليات «الأنفال» التي تعرض لها الأكراد وذهب فيها أكثر من 180 ألف إنسان بريء والقصف الكيمياوي على مدينة «حلبجة» الآمنة بوحشية لا نظير لها، وغيرها من الأحداث والمآسي التي جرت في العراق منذ تأسيسه لحد الآن، تحت سمع وبصر واضعي هذه القرارات الدولية الخاطئة دون أن يحركوا ساكنا..
ولعلهم لم يكتفوا بالمشاهدة فقط، بل ساهموا بتأجيج هذه الصراعات سواء عن طريق وكلائهم أو عن طريق تدخلهم المباشر، فكيف يمكن لـ»تكتلات بشرية» خالية من أي فكرة وطنية متشعبة بتقاليد وأباطيل دينية لا تجمع بينها جامعة، أن تشكل دولة واحدة تقودها فكرة وطنية واحدة، أخطأ صدام حسين عندما أراد أن يجمع هذه «التكتلات البشرية» في دولة واحدة بقيادة حزب واحد وعقيدة عروبية واحدة، وأخطأ «نوري المالكي» عندما أراد أن يفرض على هذا الخليط البشري المتنافر فكرة «الطائفية»، وكذلك يخطئ كل من يريد أن يفرض إرادته على العراقيين بالقوة، لأنهم ببساطة ليسوا «أمة» كما يحلو لبعض المحللين العراقيين أن يطلقوا عليهم هذه التسمية الجديدة، بل أمم، وبلدهم «من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية وهو الوحدة الفكرية والملية والدينية».
إن التغيير السياسي والاجتماعي والفكري الكبير الذي طرأ على العراقيين بعد 2003 كرس حالة التنافر داخل المكونات العراقية نفسها بعد أن كانت بين بعضها بعضا، وأصبحنا نرى داخل المكون الكردي صوتين متنافرين أحدهما يوالي إيران ويتحالف معها والآخر مع تركيا، ويعملان وفق هذه الاستراتيجية، وانقسم الشيعة إلى قسمين، قسم يدعو إلى إقامة الأقاليم في الجنوب والبصرة بشكل خاص، وقسم يرفض هذا الطرح ويدعو إلى المركزية، وكذلك الأمر بالنسبة للسنة، فمنهم من يشارك في الحكومة وأصبح جزءا منها، ومنهم من رفض العملية السياسية جملة وتفصيلا، وحمل السلاح بوجه الدولة ومن أبرزهم تنظيم «داعش».. هذه هي حال العراقيين كمكونات وأعراق وشعوب مختلفة، أما كأفراد، فإنهم يحملون في داخلهم آلام الماضي السحيق وأحداثه وتراكماته المعقدة، وتعاسة الحاضر وإخفاقاته المستمرة.
وعلى من يتصدى لدراسة الحالة العراقية الخاصة، ألا ينسى الأسباب التي جعلت العراقيين يتميزون عن باقي شعوب المنطقة بأفكارهم ومعتقداتهم الدينية والطائفية، وتصورهم لمفاهيم الحياة ومفرداتها «الفرح والحزن والألم والسعادة والحب والكراهية وغيرها»، إذ يختلفون تماما عن الآخرين، فهم يعشقون الألم ويتلذذون بالمعاناة وتعذيب النفس وجلد الذات، لا شيء يطربهم ويشجيهم أكثر من التألم والتأوه تحت ضربات السياط والسيوف والقامات، التي تنزل على ظهورهم ورؤوسهم في مناسبات دينية، وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، وتبلغ السعادة أوجها عندما تتدفق الدماء من جروحهم الغائرة أو عندما يفجر أحدهم نفسه في مسجد أو سوق أو ينقض على ضحيته ويذبحه أمام أنظار الناس ويصل إلى قمة نشوته عندما يضع رأسه المقطوع على ظهره! صورة في منتهى البشاعة والوحشية لا أحد يستسيغها بل يتقزز منها الجميع، ولكنها عنده جهاد في سبيل الله وتقرب إليه.. هذه السمات الموجودة لدى العراقي «الشيعي والسني» قد يشترك معه آخرون فيها كظاهرة عابرة، ولكن ليس كقاعدة ثابتة رسخت في النفس العراقية منذ فاجعة «الحسين» في كربلاء..