كانت هناك مجموعة في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين تضم ستة طلاب من الجمهورية العربية المتحدة , واحد من مصر وهو ابو بكر يوسف وخمسة من سوريا وهم احمد الشيخ و عدنان جاموس وعماد حاتم وفؤاد مرعي ويوسف حلاق ( حسب تسلسل الحروف العربية ), وعندما التحقت مجموعة من الطلبة العراقيين للدراسة في كلية الاداب بجامعة موسكو للعام الدراسي 1960/1961 ( وكنت أنا من ضمنهم ) , كانت تلك المجموعة السورية – المصرية قد انتقلت من الصف الاول الى الصف الثاني في تلك الكلية , وكان من الطبيعي ان نصبح اصدقاء , خصوصا واننا كنا نسكن ايضا في نفس القسم الداخلي للطلبة , وقد اصبح الدكتور ابو بكر يوسف علما من أعلام الادب الروسي كما هو معروف ( انظر مقالتي بعنوان – ابوبكر يوسف والادب الروسي ) , واود في هذه المقالة ان اتحدث عن الاستاذ عدنان جاموس ونشاطه الثقافي , واتمنى ان تسنح لي الفرصة للتحدث عن بقية هؤلاء الزملاء والتعريف بهم وبدورهم في مجال الادب الروسي ونشره في العالم العربي , اذ ان كل واحد منهم قد أسهم فعلا في حركة الترجمة عن الروسية الى العربية في مجالات ثقافية مختلفة ومنها طبعا الادب الروسي.
كان عدنان جاموس اكثرنا تواضعا وعمقا ولم تكن الابتسامة تفارق شفتيه , وكان يحب الهدوء والصمت والقراءة, لهذا كان محبوبا من قبل الجميع , ويبدو ان تلك الصفات رافقته طوال حياته , اذ انني عندما زرت دمشق عام 2007 وسألت في مقر الجمعية السورية لخريجي الجامعات الروسية – ( هل تعرفون الاستاذ عدنان جاموس ؟ ) أجابني الجميع – نعم نعرفه بالطبع , واتصلوا به هاتفيا رأسا , وتحدثت معه رغم اننا لم نلتق اكثر من اربعين سنة , وكان هذا الحديث من القلب الى القلب كما يقال , وفهمت من طبيعة حديثه انه لم يتغير , وكان وقتي آنذاك محدودا جدا ولم استطع رؤيته مع
الاسف , ولكني أخبرته هاتفيا بمتابعتي لنشاطه الابداعي الكبير وكيف اني افتخر بذلك, ولا يمكن لي في هذا العرض السريع لشخصية عدنان جاموس الا ان أتوقف – اولا – عند تلك الكلمات الدقيقة والموضوعية , التي كتبها الدكتور ابو بكر يوسف عنه في مقالته المشهورة عن نجيب سرور بعنوان – ( نجيب سرور ..مأساة العقل ) , اذ كتب قائلا – ( زميلي السوري عدنان جاموس , وكان أنضجنا خبرة وأكثرنا معرفة بشؤون الحياة والادب …) حيث كان يتحدث ابو بكر كيف ان عدنان جاموس قاده الى نجيب سرور وعرٌفه به في موسكو .
يرتبط اسم الاستاذ عدنان جاموس قبل كل شئ بكتاب مهم جدا في مسيرة الترجمة عن اللغة الروسية بشكل خاص ومسيرة الثقافة العربية بشكل عام وهو بعنوان – ( الجمالي والفني ) تأليف الباحث السوفيتي بوسبيلوف , والذي اصدرته وزارة الثقافة السورية في حينها , وهو كتاب فلسفي عميق و صعب جدا على الترجمة الى العربية لانه يتناول اسس نظرية الادب وعلم الجمال وفلسفة الفن من وجهة نظر العلماء السوفيت في ذلك المجال آنذاك , ومؤلفه – غينادي نيقولايفتش بوسبيلوف ( 1899-1992 ) هو استاذنا في جامعة موسكو عندما كنا طلبة هناك في ستينيات القرن العشرين , وهو حاصل على شهادة دكتور علوم ( دوكتور ناووك ) في الآداب ( وهي كانت اعلى شهادة علمية في روسيا و لا زالت كذلك لحد الان ) واصبح بروفيسورا في جامعة موسكو منذ عام 1938 , ولديه مؤلفات عديدة في تاريخ الادب الروسي للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر ( كتابه حول تاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر كان من جملة الكتب المنهجية المقررة آنذاك في كليتنا ) اضافة الى مؤلفاته ومقالاته في نظرية الادب وعلم الجمال وجوهر الفن , ويعد كتابه ( الجمالي والفني ) الذي ترجمه عدنان جاموس من ضمن كتبه الاساسية المعتمدة آنذاك في عموم الاتحاد السوفيتي , وقد اصدره بوسبيلوف عام 1965 ويقع ب 360 صفحة من القطع المتوسط , ولم يفقد هذا الكتاب اهميته وقيمته لحد الان , رغم كل التغيرات التي طرأت في تاريخ روسيا ومسيرتها الفكرية , وقد اطلعت قبل
فترة قصيرة جدا على مقالة بهذا الشأن حول ذلك , حيث يشير كاتبها الى ان النظرة المعمقة لبسبيلوف حول الجمالي والفني لا زالت مهمة وضرورية للباحثين في الوقت الحاضر في روسيا ,بغض النظر عن الاطار الايديولوجي المعروف الذي كان سائدا آنذاك في هذا الكتاب نتيجة الوضع السياسي طبعا , اما من وجهة النظر العربية , فان هذا الكتاب لازال ايضا يمتلك قيمته واهميته وضرورته , لان الاستاذ عدنان جاموس حاول – و بدقة واخلاص – ان يجد ويصيغ المصطلح العربي الملائم والمناسب لكل تلك المصطلحات الروسية التي جاءت في ذلك الكتاب الفلسفي حول تلك المواضيع الجديدة نسبيا بالنسبة للغة العربية , وكم اتمنى ان يتناول هذا الكتاب طالب دراسات عليا عربي في احدى اقسام اللغة الروسية في عالمنا العربي ويقوم بدراسة مقارنة لهذه الترجمة مع النص الروسي للكتاب وباشراف استاذ عربي مختص في ذلك القسم , ويستخلص – بالتالي – من تلك الترجمة قائمة من المصطلحات العربية وما يقابلها من المصطلحات الروسية حول تلك المواضيع لازلنا – نحن العرب – بحاجة اليها لحد اليوم ضمن موضوع المصطلحات العربية – الروسية والروسية – العربية في علم المصطلحات الادبية .
اضافة الى هذا الكتاب قدٌم عدنان جاموس للمكتبة العربية عدة كتب مترجمة اخرى عن الروسية منها كتابا عنوانه – ( السهب وقصص مبكرة ) يضم عدة قصص لتشيخوف , وقصة ( السهب ) هذه – كما هو معروف – هي واحدة من أشهر قصص تشيخوف وتعد بداية لمرحلة جديدة في مسيرة تشيخوف الابداعية , وهناك كتاب آخر لتشيخوف ترجمه عدنان جاموس ضمن سلسلة كتب للفتيان عنوانه – ( نصر لا لزوم له ) وهو قصة منسية لتشيخوف كتبها عام 1882 عندما كان طالبا شابا في كلية الطب بجامعة موسكو , والتي نشرها في المجلات الفكاهية الروسية آنذاك , محاولا محاكاة قصص المغامرات التي كانت سائدة في ذلك الوقت لاحد المؤلفين الهنغاريين , وقد حاول تشيخوف ان يكتب مثله ونجح نجاحا ساطعا في محاولته تلك ,وعدا هذا فقد صدرت لعدنان جاموس ترجمة لمسرحيات
بوشكين الصغيرة بعنوان – ( المآسي الصغيرة ) وقد سبق لنا ان اشرنا اليها ( انظر مقالتنا – مسرحية بوشكين الشعرية موتسارت وساليري ) , و ترجم كتابا مهما جدا في تاريخ الترجمة من الروسية الى العربية للاديب الروسي الكبير كوبرين , وهي رواية له عنوانها – ( الحفرة ) , وكوبرين كما هو معروف هو احد الادباء الروس الكبار في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين , والذي كان مرشحا لنيل جائزة نوبل , التي حصل عليها بونين في ما بعد ( انظر مقالتنا – بونين يتسلم جائزة نوبل للاداب ) .
ختاما لهذه السطور السريعة اود ان اشير الى ان عدنان جاموس كان أحقنا بالحصول على شهادة الدكتوراه بعد تخرجنا , ولكنه لم يحصل عليها بل و لم يحاول ذلك اصلا , فقد عاد رأسا الى سوريا وبدأ بالعمل على وفق قوانينا العربية الساذجة والبدائية والعقيمة , واصبح مترجما ( لانه يعرف اللغة الروسية ! ) في مشروع بناء سد الفرات الذي كان ينفذه الاتحاد السوفيتي آنذاك , واضطر ان يترك الادب الروسي الذي درسه في عقر داره كما يقال , اي في موسكو نفسها , واضطر ان يستبدل بوشكين وتشيخوف وفطاحل الادب الروسي العظيم بالسمنت وترجمة عقود العمال والمفاوضات بين مهندسي الجانبين ومشاكل العمل اليومي في ذلك السد , ولم يشعر المسؤولون المحترمون انهم اضاعوا على الثقافة العربية موهبة كبيرة كان يجب ان يكرس جهده لاغناء الثقافة العربية بترجماته للادب الروسي شبه المجهول للقراء العرب , ولا اريد الاستطراد بالحديث عن هذا الموضوع الذي عانينا منه في عالمنا العربي جميعا ولا زلنا لحد اليوم , لأن هؤلاء ال… لا يفهمون معنى الترجمة واهميتها وقيمتها ودورها في المجتمع والنهوض به و لا يفقهون طبعا معنى الثقافة ومعنى الحضارة ومعنى التفاهم والتعايش بين ثقافات الشعوب وضرورتها , واكرر ان هذا المشهد التراجيدي يتكرر لحد الان في عالمنا العربي .
تحية لعدنان جاموس الذي لا اعرف مصيره ولا اين هو الان , و الذي أجبر هؤلاء ال….. ان يصبح رئيسا لتحرير مجلة تدرس وتتناول الادب
العالمي , وان يكتب خلاصات علمية رائعة حول الادباء الروس في الموسوعة العربية , وان يكون علما من اعلام المثقفين العرب بين خريجي الجامعات الروسية, وان يعبٌد الطريق لهؤلاء الذين سيأتون من بعده .