عندما حلق احد الطيارين الأمريكان “بوب اثرلي” في 6 آب 1945 بقاذفة القنابل (ب 25) في سماء هيروشميا لم يكن يعلم وبأي حال من الأحوال ان –الفتى الصغير- الذي سيلقيه على ارتفاع 580 مترا فوق سطح البحر سيؤدي الى اطلاق جحيم نووي يعادل 100 مليون درجة مئوية، وسيفتك بعشرات الألوف من الابرياء في غضون ثوان معدودة، وسيعمل على تلويث البيئة وتشويه الاجنة لعشرات من السنين المقبلة، صحيح ان –اثرلي- استقبل استقبال الابطال فور عودته الى بلاده، وصحيح ان الاوسمة والانواط والنياشين ملأت صدره الا انه ظل يعاني صراعا نفسيا حادا لازمه طوال حياته القصيرة، فاستقال من الجيش، وحاول الانتحار عدة مرات بقطع شرايين اليد، وادخل مستشفى الامراض العقلية اربع مرات، وطلق زوجته التي كان يحبها كثيرا، وقاد التظاهرات المنددة بانتاج الاسلحة النووية وخطرها على الشجر والبشر والحجر الواحدة تلو الاخرى، وعندما وافته المنية بداء السرطان عام 1978، وجدوا تحت وسادته وصية مكتوب فيها “لا تدفنوا جثتي بل احرقوها اسوة بضحايا هيروشيما الذين احرقناهم قبل 33 عاما وهم أحياء”.
لقد آثر – اثرلي- أن يموت وجيها نزيها، لا قمئا سفيها، وعمل جاهدا بمقتضى الحكمة التي تقول “ان الندم توبة” ويبقى حسابه على الله ان شاء عذبه وان شاء غفر له، وبدورنا ندعو كل من يتصدى للنزاهة في العراق وكشف ملفاتها ان يكون نزيها بداية قبل الشروع باتهام الآخرين انطلاقا من خلفيات قومية وطائفية وسياسية لاعلاقة لها بالنزاهة لامن بعيد او من قريب وعلى هؤلاء ان يحذو حذو “اثرلي” لا نقول انتحارا بل اعتذارا .
اليوم بات واضحا ان هيئة النزاهة عندما تشخص فسادا ما في مؤسسة من المؤسسات الحكومية سواء اكان هذا الفساد ماليا ام إداريا أم أخلاقيا فأنها تتم بناء على تصريحات لمسؤوليين في كتل مناوئة تختلف مع من تتهمهم بالفساد سياسيا او قوميا او طائفيا وعندما تصدر الهيئة بيانا شهريا بأكثر الوزارات والدوائر الحكومية تقاضيا للرشا في بغداد والمحافظات، فأن الوزارات لاتعير تلك البيانات اهمية لأن احدا من السراق لم يتم ملاحقته قط ،وبدلا من أن تسارع الجهات التي تطلق اتهاماتها “السياسية” ذات اليمين وذات الشمال إلى تقويم المعوّج في مؤسساتها أولا قبل اطلاق التهم على الآخرين المناوئين لها وان تسارع لمحاسبة المقصرين والمرتشين والمختلسين والمتلاعبين بالمال العام في وزاراتها قبلا ، وأن تسلمهم الى القضاء لتأخذ العدالة مجراها، قبل ان تقوم بتسويق الأعذار تلو الأخرى لتبرير افعال هذا المفسد أو ذاك فمن شأن مثل تلكم التصرفات اللامسؤولة ان تبقي العراق ضمن قائمة الدول الاكثر فسادا في العالم، بما يترتب عليه من احجام للشركات العالمية، ورؤوس الاموال الخارجية للاستثمار في العراق، الأمر الذي يشكل بمجمله إضاعة للوقت والجهد والمال اللازمة لإعادة الاعمار والالتحاق بركب الدول المجاورة التي حققت قفزات نوعية على مختلف الصعد وقطعت اشواطا كبيرة في كافة المجالات الصناعية والتجارية والزراعية والاستثمارية والسياحية .. الخ، فضلا على اهدار المال العام واضاعة حقوق المواطنين في المؤسسات التي ينخر الفساد مفاصلها، فكم من عائلة متعففة فقدت حقها في الرعاية الاجتماعية بسبب الفساد المالي والاداري في المؤسسات التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وكم من كفاءة تحمل شهادة جامعية معترف بها، في مجال تخصصها، فقدت حقها في التوظيف بسبب الفساد المالي والاداري في المؤسسات التعليمية التابعة لوزارتي، التربية، والتعليم العالي والبحث العلمي، وكم من مفصول سياسي لما يزل بعد ينتظر فرصته بالتوظيف والعودة الى مؤسسته السابقة والحصول على حقوقه من دون جدوى، بسبب الفساد المالي والاداري في المؤسسات التابعة لوزارتي، العدل، وحقوق الانسان، ويصدق الحديث على بقية الوزارات من دون استثناء.
فإن كنتم أيها المنتقدون إسلاميين، فأنتم أولى الناس بالنزاهة والشفافية من غيركم، وان كنتم لبراليين فأنتم تعلمون قبل غيركم ان محاسبة المقصرين والمفسدين يشكل مرتكزا رئيسا من مرتكزات الدولة الحديثة لا تقوم ولم تقم بغيره دولة عصرية ديمقراطية قط، ولتفويت الفرصة على المتصيدين بالماء العكر نهيب بهيئة النزاهة ان تتعامل مع كافة الملفات بنفس واحد من منطلق المصلحة الوطنية العليا، وان تحرص على اختيار الأشخاص الأكفاء والأنزه لهذه المهمة الوطنية الكبرى وان لايكون تشخيص الفساد لديها انتقائيا يعتمد سياسة الكيل بمكيالين .