حال ( عبد المنعم حمندي ) ، ليس مثل حال أي شاعر اَخر ،عند قراءته او الكتابة عنه . يضطركَ الى استعارة مجالات معرفية اخرى مع ادواتها كي تَسبرَ عمقه الشعري والمعرفي . هذا الأمرُ ، لمْ يأتِ من فراغ أو صدفة عابرة، بل جاءَ عَبْرَ وعيه العميق لمفهوم الخطاب الشعري ووظيفته واساليبه ولغته وتداخله مع المعارف الاخرى ، اضافةً الى ، خبرته وتجاربه الشعرية المنشورة في ثمانية مجموعات شعرية : أولها ” أتيتك غداً ” عام 1986 ، واَخرها ” معراج اَخر ” الصادر عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله عام 2009 . تأتي مجموعته الشعرية الجديدة ” تهجدات ” الصادرة عن دار دجلة عام 2015 في عَمان / الأردن ، لتضيفَ لمشروعه الشعري ، اضافةً جديدة وتراكماً معرفياً ، بعد اجتيازه لتلك المسافات التي فَصَلَتْ بين مدارات انتاجه الأبداعي .
لا أريدُ في هذه الكلمة أن أتناول ، تاريخيا ، تطور الشاعر ( عبد المنعم حمندي ) الشعري عَبْرَ مجاميعه الثمانية السابقة ، لكن يكفيني القول ، ان مجموعته المتميزة ” أول النار ” الصادرة في بغداد 1993 ، تُعَدُ علامة النضج المبكرة لهذا الشاعر ، وعلى رسمها ، توالتْ مجموعاته الأخرى . تلك المجموعة بَشَّرتْ وأسَسَّتْ لشاعر حديث ، مؤظر بقيَّم فنية ، غير متهاون في لغته ،ماسكا جمرة الشعر ، (( ماضياً قُدُماً في مسيرته الشعرية )) على حد وصف المرحوم الشاعر ( خليل خوري ) في مقدمته لتلك المجموعة .
المجموعة الجديدة ” تهجّدات ” ،تتقاسمها ثلاثة فضاءات : أولها ، جدل الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل ، بمختلف تنويعاته وتصنيفاته وظواهره ، الثاني ، حوار الذات مع النفس والاَخر بتجلياته ودرجاته المتباينة ، نفسياَ و اجتماعياً وسياسياً وتأريخياً ، والثالث ، محور الحب ، بتجاربه ومفهوماته وأتجاهاته . لذا كان الشاعر ، ربما ، مُنْصفاً مع نفسه وشعره ، عندما قَسَّمَ قصائد مجموعته تحت ثلاثة عناوين أو محاور رئيسة هي : ” وادي الأسى ” و ” وادي عشتار ” و ” وادي الشاَم ” .
في فضاء ( جدل الزمن الماضي والحاضر والمستقبل ) ، يلجأُ الشاعر الى تقنيات وأساليب شعرية ، منها ، ( جدل الأصوات ) وتداخلها ، ببناء شعري مُحْكَم وزاد معرفي عميق : يُشيرُ مرةً ويُلَمّحُ في اخرى ، ويُلامسُ ثالثةً ، بقوة ، مكامن (الجدل) و ( الوجع ) في ( زمانٍ جبانٍ ) ، تُغْسلُ فيه ( الأوجاع ) بالنار ، والملاذ : ( كأسٌ يتيمٌ وغناء ) .
يطرقُ الشاعر ابواب الموت ويدخل عوالم مجاهيله من نافذة الحياة ، بنفس الوجع والجدل بين حاضرٍ مُرعبٍ وماضٍ يناديه الشاعر :
(( هل يستطيع االأمسُ أن يأتي
ويرجم من تَعَهَّرَ بالعفاف ؟ ))
ربمأ ، أحسن وصف نطلقه على تعامل الشاعر مع هذا (الفضاء ) هو ” الشمولية ” ، من خلال اثارته الأسئلة الموجعة وغياب الأجوبة في زمن الخوف والرماد النازف ، اذ : (( للخوف رائحةٌٌ تُعَّرِشُ في البيوت )) في ليل المحنة الطويل . لذا فان مفردات : الموت ، الوجع ، الترقب ، الصراخ ، العمى ، النهش ، العُهْر ، و الشطّار والعيّارون ……الخ …. ، كلها مختلطة ، تنشرُ رائحة خوفها على بقاع الوطن / الرمل ، و التراب / البلاد التي لكأنَّ (( فجرها كان اعمى )) .
مما ينبغي الأشارة اليه ، أن الشاعر استخدمَ اسلوب ( السرد ) او ( القص ) برؤية وادوات شعرية خالصة لكي يُبْرز حدة الجدل الكائن بين تداعيات الماضي والحاضر والمستقبل وتفرعاتها . لهذا السبب ، كان تبادل المواقع واستعارة الادوات وتناقضها الدائم ، واحدة من التقنيات الشعرية التي فرَضَها البناء السردي لبعض القصائد ، مثل : ( طائر) ، ( الرمل ورائحة الخوف ) ، (هرج ودخان ) وغيرها.
اضافة الى ما تقدم،طرحَ الشاعر حيرةً وجودية عميقة تتناسب مع عمق المأساة الواقعية بأفق زماني / مكاني معروف ومحدد ، من خلال استخدامه ل ( قناع ) الرائي / المتأمل الذي يرى كل شيء ،في ظل ظلمة وعميان يتعثرون بين الظلمة والضوء : (( في الظلمة ابصرهم
هل أَغمضُ عيني ليراني العميان ؟)) .
ذاتُ الرائي ، هنا ، مُتخاصمة مع نفسها ومع الاخرين في جدل حيوي يقوده الى المستقبل في ( غيمة حب ) ، تحمله نحو ( سماء ناصعةٍ ) من ( لوث ونعيق الغربان ) ، والعودة الى ( الأنسان الأنسان ) ، لأن الحاضر الراهن ( محضُ دخان ) .
الأستشراف المستقبلي من خلال وجع الماضي وظلمة الحاضر ، كان واحداً من الادوات التي استدعاها الشاعر كي يُبرز قيمة التبادل الزمني في جدل المواقف والحياة والكون .
ان قناع ( الرائي / المتأمل ) الذي أكْثَرَ الشاعر من استخدامه في سياق لغوي وعلاقات ايحائية بين المفردات ، يكشفُ عن مقدرته في توظيف ( اللغة الجمالية ) ، عبْرَ تراتيبة في التواصل البلاغي ، وصولاً الى ( الشعريّة ) الخالصة :
((أفتشُ عنها ..
بلادي التي لا تراني
و مَنْ لا يراها .. يرانيَّ اعمى ))
——————
((أصيحُ بلادي … بلادي
أضاعوها …وأني ضعتٌ
بلادي ، بلاد المياه وفيها عطشتُ
وفي ليل كرخٍ ينامُ بصبحِ الرصافة موتُ ))
اذا كانت مفردات : الموت ، الحلم ، الدم ، العمى ، تتقاسم معظم مجاميعه الشعرية السابقة ، فأن عدد تكرارها في مجموعته المتميزة ( أول النار ) كانت على التوالي : 43 ،33 ، 29 ، 19 ، الا أن مفردة ( الزمن ) بتنويعاتها المختلفة ، حصدت عدداً من التكرارات بلغَ 31 تكراراً ، في قصائد المجموعة الجديدة .
أما الفضاء الثاني، المتعلق بحوار الذات مع النفس والاَخر بمختلف تنويعاته وتصنيفاته وظواهره ، فقد تناول الشاعر فيه اسئلةً وجودية تتعلق بالنفس البشرية و ( عمرانها )، بصيغة قصيدة ملموسة ، تعتمد (الثنائيات) المباشرة او غير المباشرة ، بخطاب لغوي يسعى الى ايصال ( قصد ) الشاعر الى المتلقي مع المحافظة على ” الوظيفة الشعرية ” لذلك الخطاب :
((أنبَأتكَ أن العمران سجايا
وهيام العشاق بموج البحرِ
بعضُ ركوب الصعبِ
بما يرضاهُ الصعبُ ))
ان حوار الذات مع نفسها ومع الاَخر في عين الوقت ،مع تأثير الأحساس بالزمن ، تَطَلَبَ من الشاعر اعتماد اسلوب ” التماثل ” في الخطاب الشعري المستند الى ” الثنائيات ” :
((الساعةُ اَتيةٌ
وغدي اسوء من امسي ))
(( الخارج غابْ
الداخل غابْ
وزئير الغابْ
مذئبةٌ وكلاب ْ ))
ومع ذلك ، تبقى الاسئلة الحادة ، تحتل عقل الشاعر ونفسه بأعتبارها افكاراً تعالج هماً انسانياً وجودياً في كل زمان ومكان :
(( وأنا ليلُ ثعالب ْ
فأوزعُ نفسي كالأنخابِ
على الناسِ
ودمٌ ازرقِ يعوي في
الرأسِ
مدخنةٌ وعقارب ْ ))
ان عنصري ” التأمل ” و “الحكمة ” اللذَّين يزخر بهما هذا ( الفضاء )، جعلا الشاعر يلجأ الى ” افعال الأمر ” للوصول الى غايته من حيث المستوى التعبيري ، لغةً وكثافةً وعمقاً :
(( وأزرعْ في كل الربوات الراياتْ
وأعلمْ ان الباطنَ أعمى
والظاهر ماتْ ))
تُثير قصائد هذا ( الفضاء ) تزاحماً في الأيحاءات والدلالات ضمن سياقات وتركيبات لغويِة مُختارة بعناية ، الأمر الذي يجعل القاريء يعيش مدلولات تلك الحوارات ويلمس حرارتها وتنوعها وتناقضها بنفس الوقت . لذا كان الشاعر متمكناً من ايجاد شفافية واضحة تكشفُ عن التوازن والكثافة فيها :
(( اَتٍ أليكِ
في النبع لا ماء سوى حجرٍ وأحسبهُ المراكب والخيول
وأشقُ من صهواتها نهراً يُلَملِمُني أليكِ )) .
يضمُ الفضاء الثالث في المجموعة عدة قصائد ، يُعَدٌّ البعض منها ، مثالاً نموذجياً لما يسمى ب ( الأسلوب الحسي ) في كتابة الشعر __ حسب الدكتور صلاح فضل __ ، اذ ان الأيقاع الخارجي ( الوزن العروضي ) والايقاع الداخلي ( الهارموني ) يحتلان الحيز الاكبر في تقنية هذا الاسلوب ، بالتلازم الفعّال مع ما يسمى ب ( الملامسة) المعتمدة على ( الحواس ) . يقول نزار فباني في كتابه ( قصتي مع الشعر – 1986 –) : “” لكي يكون اللون لوناً لابد ان يلامس العيون ، ولكي يكون اللحن لحناً لابد ان يُلامس الأذن ، ……… ويجعلُ الشعرَ حينئذٍ مجرد لمس بالكلمات )).
في قصيدته ( شوق مفاجيء ) ، ربما ، ترجمَ الشاعر عبد المنعم حمندي ما نظَّرَ له القباني ، في قوله اعلاه :
((اليكِ أبثُّ هوايَ شذى الاقحوانْ
وهذا الحنين الى قبلةٍ
شَهْدُها في رضابي وتحت اللسانْ
هواكِ أحتراقي
بحمى العناق
ولهف أشتياقي ))
ان التوازن بين ( الوزن ) و ( الهارموني ) داخل القصيدة ، يعطي طابعاً حيوياً للنسيج الشعري ، وهما متلازمان ، متفاعلان ، لا تناقض أو تباعد بينهما :
((في الليل ترفأُ بردَ شتاءٍ مقلوبْ
وترتقُ حباً مزقّهُ الحب المغلوبْ
ما أجملها .. ما أجملها
حينَ تَزمُّ شفاه …الاه
هل انسى كيفَ توزعُ بسمتها
يوم تنامى الجوع على الأفواه ؟ ))
تبقى هناك ملاحظة عامة ، ذات صفة توثيقية ليس الا ، وجدتُ من المفيد الاشارة اليها، وهي بأتجاهين : الاول ، ان بعض قصائد المجموعة الجديدة ، تضمنتْ مقاطع من قصائد منشورة ، او اعادة صياغة لتلك المقاطع بطريقة جديدة ، وهذا سياق ادبي ، اجدُ من حق الشاعر ان يمارسه في طريقة تعامله مع نتاجه الشعري ‘ خصوصاً ، اذا ما وجدَ في مقاطع تلك القصائد (المنشورة ) ، ما ينسجم مع فكرة شعرية تجول في خاطره تعالجُ موقفاً راهناً او تتعلق به بصيغة او اخرى ، كأن تكون تلك المقاطع هي نبوءة سابقة للموقف الراهن او غيرها .
اما الاتجاه الثاني ، فيتعلق ب ( العروض) ،فقد توزعتْ قصائد المجموعة عروضياً بالشكل التالي : 8 قصائد من بحر ( الكامل ) ، ومثلها من بحر ( المتقارب ) ، و7 من بحر ( المتدارك –فاعلن –) ، و 6 من بحر ( المتدارك –فعلن –)،قصيدة واحدة من بحر ( الرمل ) واخرى من بحر ( الهزج ) وهما ( لزوم ما لا يلزم ) و ( نقوش )، اضافة الى ان قصيدة ( عواء الظل ) تناوب فيها ( المتدارك ) و ( المتقارب ) في نفس الوقت .
اخيراً ، يبقى الشاعر عبد المنعم حمندي ، صوتاً متميزاً بين مجايليه ، عراقياً وعربياً ، وثقتي عالية انه سيبقى ويزداد ابداعاً وتميزاً…