( القصيدة في دائرة الاستنطاق )
قراءة في مجموعة ( أغاني القبرات )
عبد الرزاق صالح من الشعراء الذين يكتبون القصيدة ، دون ان تخضع لديهم ادوات الاجناس و التجنيس الشعرية ، الى حالة محورية متكاملة في دائرة فعل استنطاق مكونات الدوافع الاساسية في كتابة القصيدة ، فعلى سبيل المثال ، نلاحظ بأن أغلب ما كتبه هذا الشاعر ، من مطبوعات شعرية ، كانت تجري مجرى ( تحقيق الذات ) و ليس من باب تحقيق التذاوتية الاعتبارية في موجات و ارتقاءات خطاب النص النوعية و الانفرادية .. من حدود هذه المقدمة سوف ندلف تجربة قصائد ديوان ( أغاني القبرات ) حيث سوف نعاين مدى ما عليه مشروعية هذه القصائد الجديدة ، من مهام وظائفية في منطوق ( حديث النص ) و في مهام صورية عوامل تناصية الموروث ، و الاتباعية الاسلوبية المتآتية في في النص من جراء ملازمات ديمومة اهداف شعرية قصائد الديوان :
فيليدا …
هاتف يردد في الأعالي
فيليدا صنو الشمس
ظل شجرة وارفة
صرخة نجمة الصباح
عيون كاهنة ترحل وراء عاصفة الغروب
فيليدا …
يا حورية البحر .. ص 6
ان ألقاء نظرة منا حول مقاطع قصيدة الشاعر ، لربما سوف تقف بنا الاشياء ، على سبيل مهمة تحاورية شكلية ، تشكل عبر دورة الزمن فينا الاحساس ، على ان هناك أعماق اسطورية ، تترقب جهة تحولات مفردات الصفات ، نحو ناحية الأيماء المعبر ، و بطريقة أخذت تجعل فضاءات القصيدة ، تنحو منحى أسلوبية استعارية عالية الشأن . و هذا بدوره ما جعلنا نعاين مظاهر الافتتاحية الشعرية في القصيدة ، و التي تقول مضضا : ( فيليدا .. هاتف يردد في الأعالي )
ما معناه ان هناك سبقا موصولا في جهة دلالات و دلائل
( التواصل / الفضاء / اللغة المشتركة ) غير ان الشاعر في قوله الآخر ( فيليدا صنو الشمس ) راح يبتكر ضربا هارمونيا معقدا ، من نسيج مرحلة التواصل الاستنطاقي في الاستعارة الشعرية ، و لكن هذه التواصلية بقيت خاضعة داخل حدود علاقة ارسالية مبثوثة ، من جهة عاملية التشبيه و الاصدار و التنفيذ في لغة
مصدرية النص الامتثالية . قلنا سابقا بأن شعرية قصيدة عبد الرزاق صالح في ديوانه الجديد هذا ، عبارة عن حديثا مسهبا في مجالات موضعيات النص التوصيفية ، كما و عبارة عن صوريات جامعة لعوامل تناصية الموروث الشعري في قصيدة الملحمة و الخرافة ، و ان كان الحال مقصورا في قصيدة الشاعر ، على حدود لغوية و توصيفية حصرا ، و
دون الحاجة الماسة منا لذكر كيفيات تلك الانشاءات في قصيدة الشاعر ، لأن هذا الأمر يتطلب منا مقاما طويلا من البحث و الاستطراد الدراسي و المصدري .. و لكننا في الوقت نفسه نقول جدلا ، بأننا عندما نواجه و نراقب و نقرأ
هكذا قول ( عيون كاهنة ترحل وراء عاصفة الغروب ) فلا أعتقد أنا شخصيا ؟ لأي الجهات تنتمي مثل هكذا تواصيف
.. هل لنا ان نعزيها الى كفة الاستعاريات الممزوجة ؟ أم الى علاقات الأبنية الحكائية الواصفة مجازا و تشبيها ؟ أم الى
أقصى حالات الأبنية التعبيرية المتلاطمة في قواصي المشبه و المشبه به ؟ . من جهة أخرى لعلنا نعاين بأن قصيدة هذا الشاعر ، تبدو لنا أحيانا ، في مرتبة أدنى من نطاق اللغة و الدلالات المجازية السامية ، و في أحيان أخرى ، نجدها
مجرد استطلاعات في منازل برز و ابراز مهارات التشابيه و الصفات الأستعارية التي لا نجد لها أحيانا في قصائد الشاعر ثمة دلائلية واضحة و دالة في لغة ترابطات قصدية القصيدة . على أية حال سوف نقرأ بعض من قصائد الشاعر ، و بحدود
مستوى حديث النص و صورة الموروث و العناصر الفعلية من مشهد قصيدة الديوان :
في كهفي : صوت
الصدى تصدية
و صفير الجدران
قلوب خافقة الوجدان
عيون عمي سائمة
عويل .. صرخات تتلو صرخات
قالوا خمسة
السادس ينبح في العتمة ؟
سيدة الأفق ترقب ..
الصرصار المجنون .. ص49
ان حيز التواصلية المرجعية في خطاب هذه المقاطع من قصيدة الشاعر ، راحت ترتب لذاتها مصدريةحكاية النص القرآني
( أهل الكهف ) لتديم بهذا المشهد المصدري ، ثمة خصائص انطباعية و تصويرية في فضاء انتاجية النص ، و لتديم أيضا بهذا الأمر ، مسيرة الاندفاع التصريحي في مديات المرسل القصدي في خطاب مضمون الشكل المقطعي ، فمثلا لنقرأ هذه المقطعية النسقية من دال ( في كهفي : صوت / و صفير الجدران / قلوب خافقة الوجدان ) ان القارىء لهذه الصياغة النصية ، لعله يعاين ما هو قادم من مداليل بموجب دال العلامة المركزية في النص ( في كهفي ) و بجانب دال
( صوت ) حيث تنسجم الاصوات الدلالية هنا و هناك ، بموجب عاملية المشاركة و الاتحاد و كثافة التحقيق الايحائي في مشهد تصوير ( عويل .. صرخات ) و على هذا الاساس نشاهد مرور الاندماج الصوتي عبر تحقيق ضمائرية
( الغائب الرمزي ) و عبر صورة الامتداد المدلولي لصفة موصول المرسل في دال ( قالوا ) و مع دليل مضاف دال (العتمة)
. ان الشاعر في هذه القصيدة من الديوان ، يحاول بذكاء عال،
ادماج مقدمة الدلائل و البراهين ، داخل ايقاع طويل من الصفات وكثافة اللغة ، كما الحال في قوله ، الذي جاء على شكل رفيع من الملامح القصدية الحاذقة ( سيدة الأفق ترقب .. الصرصار المجنون ) و بمثل هذه الاستشرافية الفائقة ، راح
الشاعر يمهد لأفعال و دوال حضورية ، صادرة من زمن مرجعية واضحة و دقيقة من أنظمة المتكلم ، في لحظة الحضور و لحظة الغياب :
مقفول باب القلب
كخزانة الذكريات
الغرباء يقتربون
الغرباء يدقون
لا صوت يأتي
لا صوت
مقفول باب القلب
كالزنزانة
حافر يصفع وجهي
يدق الابواب
من يفتح ؟ ص68
من الاهمية ان ندرك بمكان ، ان بناء تجربة هذه القصيدة ، قد جاءت بموجب تصنيفات من المعرفة التشخيصية الذاتية الخاصة من لدن كشوفات الشاعر الشخصية واليومية ، فعلى سبيل المثال ، تواجهنا مثل هذه الدوال ( مقفول / باب / خزانة / الذكريات / الغرباء / يقتربون / الاصوات ) . ان هذه الجملة التعددية المسفوحة بحركية الدوال المتعددة و المشحونة بمراكز المحوريات الدالة في حالات تواصيف النص ، انما تقودنا نحو مفردات تحصيلية خام من قيمة زمن الخطاب ، حيث نلاحظ بأن مؤشرات القراءة بهذه التعددية ، انما تسعى للوصول الى نقطة ( التعريفات المعاكسة ) أو الأوجه المعاكسة من كيفيات زمن محصلة الحال القولي المرتبط
بالأحداث و الصوت الدال في جوهر هذا المعنى الخلاصي من النص ( حافر يصفع وجهي / يدق الأبواب ) و بحدود هذا الدليل ، تظل مؤشرات الخطاب سائدة في محاور الصعود و الهبوط انتهاء الى جملة الاستفهام الختامية
( من يفتح ؟ ) :
ينفخ بالبوق
تنفث على أجسادنا رائحة الخوف
أسرافيل ..
ينطلق الصوت في قلب الليل
كدقات الطبول
حفاة مضوا
تتحشرج أصواتهم كالنحيب
نفق في البدء
وعواء الكلاب .. ص37
ان ما ينبغي التأكيد عليه في قراءة مقاطع هذه القصيدة
هو امكانية ربطية أدوات مصدر الشاعر بالواقعة القيامية الكبرى ( يوم الحساب ) و عند الامعان في تركيزية الدوال و الأفعال الشعرية ، نلاحظ الفعل الشعري الداخلي ، حيث بات يوفر الأستخدام الواعي لمحصلة الاقتباس و التناص و التماثل ، في مقولات و موصوفات القصيدة : ( ينفخ بالبوق / تنفث على أجسادنا رائحة الخوف ) ان المدلول هنا ، أضحى قادما ، من رحاب آفاق ربطية متحولة في الحالة المفهومية و في مسمياتها اللغوية ، حيث ان دليل (ينفخ) بات يرجح حالة
دلالية متقدمة في درج نوبات الايقاظ السماوي ، و في جذر حالتنا الشعورية المستسلمة ، لصوت توصيفي جميل ، ناتج من دال ( رائحة / أجسادنا / قلب ) فهذه الدوال بحد ذاتها ، أخذت توفر لمعينات مقدمة أعتاب القصيدة ، حالة جدية و جديدة ، من حالات الدلالة الجاثية وراء مدلول ( ينفخ ) ، أما الحال في هذه المقطعية اللاحقة ( أسرافيل .. ينطلق الصوت في قلب الليل ) فراحت بدورها تقترح لنا حالة تأويلية خاصة من لدن دلالة ( ينطلق الصوت ) أو دلالة دال ( اسرافيل ) ذاتها، بل ان الحالة المؤولة هنا ، أضحت عائدة الى مشهدية
( فعل استجابة ) وهذه الوظائفية الاسلوبية في النص ، تبرز لنا بأن صاحب الصوت هو ( الخوف ) و ليس جهة أخرى ، لأن العائدية التواصلية في القصيدة ، ترجح بأن الدافع هو الخوف ، و ليس حالة الشعور ، بأن ماهوية الدور عائدة لمصدرية فعل الاستجابة ذاتها . على أية حال لابد لنا الآن مناقشة نتائج مستوى دلالات قصيدة ( أغاني القبرات ) كمنجز شعري جديد للشاعر ، بادىء ذي بدء أقول و كلي أمانة و يقين من ان مستوى قصائد
( أغاني القبرات ) يفوق مستوى ما قرأناه لهذا الشاعر من أعمال شعرية سابقة ، و ذلك لأن قصيدة هذا الديوان قد جاءتنا ، مترابطة و سديدة الخطاب و الادوات والبناء ، حيث لا تحكمها الانفعالات أو القفزات اللامبررة دلاليا و شكليا ، كما ان وظائف الاشارات و حركية وتحولات الضمائر و مساحة نمو الدوال ، على درجة محددة و معروفة ، تصوغها المحافظة على المعنى و الموقف الذاتي من وجود رقعة كيانات الاشياء في القصيدة . و في الختام أود تبرير ما عليه أحكام وذائقة مقالنا هذا ، خصوصا بما يتعلق و أعمال الشاعر
عبد الرزاق صالح الأخيرة و التي تتكون من قصائد ديوان تحت عنوان
( تحولات ) و ديوان ( أغاني القبرات ) و آخر تحت عنوان (مراث ليست لمدينتي ) و هذه الاعمال الشعرية بدورها ، جاءتنا متماسكة ، على عكس أعمال الشاعر السابقة ، حيث وجدناها غاية في الفاعلية و النمو ، و غاية في الفعل و المفعول و الشكل الشعري المتقدم .