15 نوفمبر، 2024 5:23 م
Search
Close this search box.

بمناسبة مرور ربع قرن على رحيله  الأجنبي الجميل الشاعر مصطفى عبدالله..(1947- 1989)

بمناسبة مرور ربع قرن على رحيله  الأجنبي الجميل الشاعر مصطفى عبدالله..(1947- 1989)

في ملتقى جيكور الثقافي..
1-2

في تمام الرابعة عصرا،من يوم الجمعة 16/ 1/ 2015تألق ملتقى جيكور الثقافي في البصرة بجلسة استذكار بمناسبة مرور ربع قرن على رحيل الاجنبي الجميل الشاعر البصري مصطفى عبدالله..وكان برنامج الجلسة حافلاً بمساهمات البصريين الاوفياء لأبن مدينتهم الشاعر المتعدد المواهب مصطفى عبدالله ،وأحتوى برنامج الجلسة على المساهمات التالية :

*عريف الجلسة : الشاعر عبد السادة البصري

*مقداد مسعود : إلقاء مسرحي لقصيدة الاجنبي الجميل

*كلمة أنس عبدالله ،شقيق الشاعر مصطفى عبدالله

*كلمة ناظم المناصير : صديق طفولة وشباب الشاعر

*كلمة الناقد جميل الشبيبي دعوة لعودة التراث الثقافي والشعري للشاعر مصطفى عبدالله الى مدينته – البصرة – في هذا العام 2015

*كلمة خالد عبدالله / من براغ / شقيق الشاعر قرأها بالنيابة عنه الشاعر صبيح عمر

*كلمة شفاهية للشاعر عبد العزيز عسير

*كلمة الشاعر محمود بدر عطية /من اغادير، قرأها بالنيابة عنه الشاعر سالم محسن

*دراسة نقدية عن قصيدة الاجنبي الجميل للأستاذ الدكتور ضياء الثامري

*قصيدة (خطوات من خطى مصطفى) للشاعرعبد الحميد السياب

*كلمة استذكار شفاهية للشاعر أحمد الجاسم

*قراءة مقارنة بين قصيدتين (حانة على النيل الازرق) لمصطفى عبدالله وقصيدة (حانة على البحر المتوسط) لسعدي يوسف

*ورقة الاستاذ فاخر مطرود التميمي

ومسك ختام الجلسة*قصيدة مصطفى عبدالله/ برتقالة محمد مطرود وشهر تشرين الثاني : للناقد مقداد مسعود

كلمة عريف الجلسة : الشاعر عبدالسادة البصري

مصطفى عبدالله….ذلك الأجنبي الجميل

لم أكن قد تعرفّت عليه سابقاً..أو ألتقيته ُ في حياته كلّها..سمعت ُ بإسمه من أصدقائي وزملائي الشعراء..وتألمت ُ كثيراً لوفاته غريبا ً..عرفت ُ أنه كان مدرساً لمادة الاحياء في أحدى مدارس الفاو الثانوية في سبعينات القرن الماضي المنصرم ،في منطقة البحار(دورة ابراهيم) وكان شاعرا ضمن موجة الشعراء الستيسبعينين الذين عبّدوا الطريق لنا نحن ابناء الاجيال اللاحقة وبالأخص جيلي والجيل الذي لحق بي..

بعد سقوط الفاشية عام 2003 قرأت له بعضا من النصوص التي نشرها أصدقاءه هنا وهناك..ثم فرحت كثيرا وانا أقتني كتابه الرائع (الاجنبي الجميل ) بتلك المقدمة الضرورية التي كتبها صديقه ُ الحميم الشاعر عبد الكريم كاصد بعنوان (ثمن الشعر)..قرأت ُ الكتاب بشغف وحب ورحلت مع كل قصائده بسرحات كثيرة أعادتني الى زمن السبعينات وآواخر الستينات

أحبتي الحضور الكريم ..

في ملتقى جيكور الثقافي عقدنا العزم على الاحتفاء بمبدعينا البصريين ،مهما كانت اتجاهاتهم ورؤاهم لأنهم رموز البصرة وقناديلها في كل ليلة ..كما عقدنا العزم على اشاعة ثقافة التسامح والمحبة وبفكرة رائعة من أحدنا أرتأينا أستذكار شاعر ٍ مبدع أكلته الغربة بكل معانيها ..غيّبته

جسدا الى غير رجعة ..لكن ظلت روحه ُ وحكاياته ُ وضحكاته وهمساته ُ وكلماته ُ وقصائده ُ حية ً بينهم وبيننا..اليوم نستذكر الاجنبي الجميل بكل شيء ..الاجنبي عن أرض ٍ عاش ومات عليها والاجنبي الجميل عن ناس ٍ عاش ومات بينهم والاجنبي عن زمن عاش ومات فيه كان من أقسى الازمان واشدها عذابا على روح الانسان الشاعر..أنه مصطفى عبدالله ذلك الجنوبي الرائع الذي يحمل طيبة الجنوب وهدوئه وابتسامة نخيل ابي الخصيب لكل وافد إليه

مقاطع من قصيدة(الاجنبي الجميل) ممسرحة بصوت مقداد مسعود

أنا ….

أنا الاجنبي..

أنا الاجنبي الجميل..

وهذا….؟

هذا لساني..

لساني الذي يشتهي ولايستحي فيطول..

أنأ الاجنبي

تحيرت ُ بين قميصي وهذا الظلام

الخفيف ..

تطلون منه عليّ فلاتجدوني معه

تحيرت بين قميصي وجلدي الضعيف

تطلون منه ُ عليّ فتسحركم ضجة الاقنعة

***

أنا ال……

أنا الاجنبيُ ،تعثرتُ بالحاضرين وقمت ُ الى المائدة

قمت ٌ على قدم واحدة

وكان الكلام النظيف يهل ويغسل ُ كل الصحون

تمنيت ُ

تمنيت ُ أن أعترض

ولكنني تذكرتُ أني أتيت ُ بدون فمي

وأني تركت ُ لساني الطويل

مع الحبر.. في قلمي

أنا الأجنبي تمنيت ُ أن أعترض

ولكنني ماوجدت ُ الكلام

* تذكرت ُ صوتي يودُعني –

تُرى كيف لي أن أقول

وان أعتدل

على مقعدي وهو بين الكراسي يميل ؟

أنا الأجنبي

تعثرت ُ حتى انفضحت وضاق المكان

وكانوا يرصّونني

للشموع

للعطر

والهفوات

فأمسح وجهي بكُمّ قميصي

وأدنو من المائدة

تُرى أين أخفي البطاقة حتى أضيّع إسمي

وأين أغيّر هذا القميص الذي

رقشتهُ

النخيل

أنا الأجنبي..

أنا الأجنبي الجميل

طويت ُ الكتاب

دخلت ُ الحديقة منتظراً أن يجيء

القطار..

أنا الأجنبي

معي لقبي

ولست ُ وحيداً ولكنني – في البقية – وحدي .

أنا الأجنبي الجميل

وقفت ُ مع الواقفين

تزاحمتُ، لكنني في المكان القليل

أميل..

لتعبر قبلي الحقائي

ويعبر قبلي المكان

ويعبر قبلي الزمان

تعلمت ُ أن

أنتظر

وأصنع لي وطناً

في..

جواز السفر

——————————————-

مصطفى .. الكلمــة الصافية !!

ناظم المناصير

ســكت مصطفى ، لكنــه’ ها هو أمامنـا ينشــد’ ويتكلم ويبتســــم ،.. ســـكت

الصوت الجريء ، ليترك جرحا” داميّـا” فـي قلوبنا المتعبـــة … ســـــــــكتت

تغريداتـه ومكاشـفاتـه النديـة السالكـة أبدا” فـي طريق عميق الجذور ليتواصل

مع أرض المعانـي المعطــــاء .. ســـكتت بحـة النـــاي الأصيل في يوم ’حمل

تابوتـه إلـى مثواه الأخيـر، وهنا نجـد الحيـــــــاة فيه المعبـر الذي ’يعبد دربــه

وارصفتــه ، الحبّ والشـعر والأمل ، ويبقى يرفـع يـده’ بقوة ،يقول : شــعرا”

، ويقول: أحلـى ما تختزن روحـه الفيّـاضة بلآليء النور البهـي ، ليس لهـا أن

’تحـطّ علـى الصدور ، وإنّمـا لها أن تأخذ أجراســها مكانــا” لهـا فـي خـلايــا

القلوب … وتبقـى كل كلمــة ، تتغنـى بالبلم والقريــة وعلمدار * ، كمـا يتغنـى

بأحلام البشـــــر الرافض قطعا” للقبضات الحديديـــــة الصلفـة والتي تعـصـر

الأيادي وكأنهــا تخلع قلبـــه من صدره ،… أنـه’ كان ’يغنـي للفقيـر واليتيـم ،

.. ’يغنـي الشــوارع المتربــة فـي أســفل الوديان والغنية جوانبهـا بالأعشـاب

الطريـــــة ، وتبرز وثيقــــة الخلود ناصعـة المعالم ، وتنحســـر وثيقـة الزمن

الصعب وتلد الحقيقــة كلمـات صافيــة نقيـة ..

يكتب إلى فاضل حميد ** قصيدة ، .. فاضـــــل الذي ما أنفكّ يفتح الأبواب

المحنطـة بليل بهيم ، الفقراء ها هنا ،… يذهب ليأنـس معهم ومنهم خجل لكنـه

مطمئن ، يســعد بلقائهـم … وبلغـة يقدمهـا مصطفى لفاضل حميد وهل يسـمع

طنين الذباب الذي يهجم على الأفواه الجائعة :

يا فاضل حميــد

هل تسمع طنين هذا الذباب

المندسِ في الأفواه الجائعــة

’مدّعيا” أنه يبتكر الخبز ؟

هل ترى هذه المخالب المترددة

بين الشـــهيق والزفير ؟ ***

و’يغني للتوابيت الفارغـة وكأنه’ يعلم بأنه سينام في أحدها وفي يوم ما شاء

القدر أن ينام فيه ويودعنا بعيون دامعة وقلوب مكلومة !… لكنه يظل مرتبطا”

بحبـــل المودة الذي لا يكتم الأنفاس ليطفو على نفوسنا كالماء حين يفيض فـي

الأناء المملوء :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*علمدار : مقام رجل صالح في قرية باب ميدان / ابوالخصيب / البصرة

**فاضل حميد : أحد أبناء قرية جلاب قريــــة الشاعر / توفي بتــاريــخ

31/ 3 / 2013 ..

***مقطع من قصيدة (المقايضة ) ــ ديوان ، ألأجنبي الجميل

توابيتنا الفارغـــة

’تفرّقنــا فــي الزحام

وتجمعنــا للصلاة على الميتين

توابيتنـا مثلنـا خشــب فـي خشــب

ولما تضيق بنا أرضنا الغارقـة

ونفشل فـي الطفو مثل الخشب

تهـلُ علينـا توابيتنا

مـن الغيب مفتوحـة واســــعـة *

*******

ويلتفت إلـى الوراء قليلا” ليرى كل شـيء قد طال كتب أبن رشـد ومكتبته

وعلمـه ، أنهـا تحترق لأنـه قال كل الحقيقـة ، ولم يستطع الأمير أن يحرق

فيه مزرعــة الأمل والصبر والمســـتقبل ، وحتى التواصل المســتمر وأن

يضع أبن رشــد في موضع آخر بعيدا” عن الحقيقـــة ومعلوم لديه أنــه لا

يليق به إلاّ أن ينعم بهدوء وصفاء الضمير على جريان المياه العذبة ..

بين بابي وسيف الأمير

أهتززت

فألقيت ظلك في الباب .

ألقيت’ ظلّي .

وحين أغتســلت’ ،

ورتبت’ بيتـي

تركت النوافذ مفتوحـة للصباح

فلم تنطفيء شمعتي

متى يطرق’ الباب جند’ الأمير

لكي يحرقوني على كتبي **

*********

والدهر يكشـــــف عن أرض أبي العلاء المعري ، الخصم الأبدي للظلم

والظالمين والمندد’ دائما” بالباحثين عن انتهاك أمل الأنسان وأحلامه …..

ففي بغداد يعرضون عليـه أهلهـا أموالهم ويلحّون بقبولهــــا ، لكنة يرفض

ويأبى متعففا” ، ويردهـــا متأففا” ، بالرغم من رقة حالته وحاجته الشديدة

للمال ،.. أنـه رهين المحبســين ، فلا الشـــــموع المضـاءة ’تغنيـه ويضلّ

طريقه بالعثرات ولا يشمئزّ أو يندم بصحبة العصا حين يمشي أو أنه يريد

مبتغاه … أنـــه’ يمشي ولا يمشي على الأرض إلاّ هونا” لأنه يعلم بأنهـــا

تضمّ تحتها أجســاد البـــــشر منذ القديم ولا يعوزه’ إلاّ التأكد من أن تحت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقطع من قصيـدة ( تنويعات على لحن الحرب ) ديوان مكاشفات ما بعد

الرحيل

**مقطع من قصيدة ( كتاب أبن رشد ) ديوان مكاشفات ما بعد الرحيل .

الأرض التي يمشي عليها تخلو مـن هذه الأجســاد..

بين الشموع المضاءة والعثرات

ضللت’ طريقي

فهل جئْت كي تأخذ بيدي

أتركيني ..

أنا ممســـك بالحبال التي ’توصل’

وألمسيني ..

***

أأنت التي ما ينال الأمير

ويحني الفقير ؟

انا : ســيدي

عصاي

وكلُ إنحنائي لقبري *

*******

ويعاتب الزمن بسؤال لحي شعبي تموت فيه العيون والقلوب منزوية فـي

دار غير متسعة أن يأكل الأطفال والأولاد والشيوخ والنساء …

قصيدة ( النزهة ) ** التي وصفها الشاعر سعدي يوسف بأنها ـ شــــــوكة

في العينين ــ وكم الأنسان ’يعاني وكم يصارع الحياة !!… أنها الحياة التي

يسجل فيها الأنسان معنى بقائه أمام كل التحديات :

لماذا ينزل’ أولاد الحيانية *** قبل وقوف الباص ؟

ويقتسمون مع الحرّ ، سريعا” ، أبواب البارات

وأسواق الخضرة والساحات

وحين تنام الشمس على الطرقات

ينتصبون رفوفا” للبارد والحلويات ؟

لا أدري ..

كيف ستحلو النزهــة’ ،

بين الأشجار وأولاد الحيانية ؟ **

********

والطرق الموغلة بالعمق ، تحســب أنّ لها زوايا في أنقاضهــــا الصعبــــة

والأمتحان يكون عسيرا” ، ويفقد’ أباه ويرثيه بقصيدة مؤلمـة كانت أصدق

تعبيرا” من كتب أبياتا” شعرية كمرثيـــــة إلى إنسان عزيز ليخدم العنصر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقطع من قصيدة ـ كتاب أبي العلاء ــ ضمن ديوان مكاشـــــفات ما بعد

الرحيل

** قصيدة النزهة ــ ضمن ديوان الأجنبي الجميل

***الحيانية حي شعبي في البصرة / يطلق عليه حاليـــا” “حي الحسين”

ويسكن فيه معظم الفقراء .

الأنســاني النبيل لحالات قد تحصل في تاريخ الأنسان بتواضعه في عمله

اليومي الشــاق والدؤوب في كل الفصول ويختارها لملحمة تطفو في البرِ

وصدق المشاعر وأستحسان كبير لتؤول كل القصائد في لحن يسري فـي

كل دفقــة قلب :

أمسكت حياتك كالمنجل ،

وفتحت على الشجر اليابس ماء الجدول

في شمس القيظ ،

مكشوف الرأس

أسرعت ’تغطي الشجر الغض

أنظر:

يتأرجح عمرك في الحبل المشدودة

ما بين الفم والدود

يا عبدالله بن الملا حسين

لا تخلع نعليك ، فأنت أتيت إلى الدنيا ،

محمولا” فوق يدك *

*********

وبحالة مأساوية ينقضّ الملاّ الذي أصبح غرابا” شرسا” وحلّق بشــهوة
عارمة ، وينسى كل التراتيل الدينيــــــــــة ويقفل على عقلــــه كل الخطب

والمواعظ الأخلاقيــــة ، ويلغي دروسه في المواليد والأذكار … وتصرخ

الفتاة الصغيرة بين يديه .. ويأتي أفواج الناس لتلتمّ حوله (حول الوسواس

الخناس ) وكان فيما مضى يطلب من النســــوة ديكا” أسودا” وترابا” من

قبر صبي ليفكّ عقد السحر من سلاسله :

تاتيه النسوة ، **

بديوك سوداء

وتراب من قبر صبيّ

بسلاسله المعقودة فوق الأرض يحلُ السّحر ،

ويفتح للدنيا الأبواب

الملاّ :

في الدكان الرطب ،

حلقّ ذات مساء مثل غراب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مرثية (إلى أبي ) ــ ديوان الأجنبي الجميل رحل عناـ وعدنــــا باللقاء

المطبوع بتاريخ 20/3/1990

**قصيدة الملاّ ــ ديوان الأجنبي الجميل ــ وهذه القصة حقيقية حدثت

في ستينيات القرن الماضي ـ هرب إلى إيران ومات فيها وقصتـه هذه

معروفة ومنتـــــــشرة بين الناس ولا زال يتذكرها ذلك الجيل في ذلك

الزمن !!

’مذ عاطت بين يديـه البنت

وألتمَ الناس ،

مثل الوسواس …

*********

وعندما تعلن الآفاق البعيدة ، ببدء أســـترخاء الكون ، يحمل بيده باقة من

الورد ، يضعهـا فوق أطياف الرؤى ليلـــــة الفراق الأخير ، وليبق تدفق

ينبوع الشعر الأصيل على مديات الدنيا الواسعة وبهيبة وسمو وألق منير

في فضاء ات الكون الرحيب

ماتزال أغنياتك زهوتنا ايها الاجنبي الجميل

خالد عبدالله حسين / براغ

أيها الحضور الكرام

توجد لحظات يرى فيها المرء نفسه عاجزاً عن التعبير عمّا يجول في خاطره، أو يريد قوله، أو بما يكنّه قلبه، أو أقله الإحاطة الممكنة بشيءٍ من ذلك التعبير، تلك اللحظات يختلط فيها العقل بالعاطفة، والعجز بالإرادة، ولكن في كل الأحوال يظل الثناء على مواقف أهل الفكر والإبداع قائماً وواجباً، خاصة عند تكريمهم لأقرانهم، والأخص حين يكون المُكرَّمُ راحلاً.

إسمحوا لي أولاً أن أقول لكم جميعاً: شكراً على إقامة هذه المناسبة لتكريم فقيدنا الراحل مصطفى عبدالله إبن الملا حسين، وقد قضى في دار غربته الإجبارية، وأظن في هذه اللحظات أن لسان حاله يقول: آه يا وجع الوطن، كم يكون الرحيل الأبدي في دار الغربة قاسياً، خاصة حين يداهمنا الرحيل فجأةً وكأنه على عجلة من أمره.

أنا أكاد لا أصدق أحياناً ما جرى لمصطفى؛ وأتساءل هل رحل حقاً، وتوقف قلبه المشبع بحب العراق والنخيل والمياه والشط والمطر والبصرة والناس؟.

ها نحن نحتفي بذكرى رحيله الجسدي، وقد مر ربع قرن على ذلك الرحيل الموجع. أرى صورته أمامي تلاحقني كظلي الذي كاد أن ينحني. لقد ارتوت نفسي بتراثه الباقي باغنياته الصامدات بحب الوطن والإنسان ومقاومة الإبادة، التي تعدت الإنسان تشد أزري، وكما جاء بمقدمة ديوانه ـ الخارطة في 27/3/1979. (العمال، الطلبة، الموظفون، الأطفال، النساء ، كلهم تعرضت ضمائرهم للإبادة فقد وقف هولاكو بينهم وبين الخبز. وأكثر فقد تحولت الإبادة الى صفة مطلقة صفة تعدت الإنسان الى الحجر والوقت – مصطفى). نعم نحن نحتفي بذكرى الرحيل والوطن العراق لا زال جرحه ينزف، يا مصطفى فرحنا بسقوط هولاكو، ولكن الأغنيه ما زالت حزينه والإبادة أخذت أشكالاً أخرى، لا أدري كيف ستعبر عنها لو كنت حاضراً، ولكن المفرح والواعد من الأمل الذي نغذي به صبرنا بأننا نستطيع أن نحتفي بك في داخل الوطن، وها نحن نلتقي بك ومعك في بصرتك الحزينه، نعم مع أحبتك وأصدقائك والفقراء وأولاد الحيانيه لا زالوا يتذكرونك ويرددون أغنية الأجنبي الجميل.

كان آخر لقاء بيننا في صيف عام 1978 حين حلَّ عليّ طائراً مع الصديق العزيز سعد ناصر في مدينة براتيسلافا عاصمة الجمهورية السلوفاكية، عندما كنت طالباً في الجامعة التقنية، أخبرني في حينها بأن الأوضاع في العراق تسير نحو الأسوء وعلامات الحزن والقلق بارزتان في عينيه، وعند مغادرته عائداً الى البصرة قال: إن شهر العسل قد إنتهى بالعراق والباقيات إما الموت أو الهروب، وهذا الذي حصل، عند عودته لم يمكث طويلاً في البصره، وإستغل صلاحية جوازه وإجازته وغادر، ولكني لا أعرف كيف تمت طريقة سفره، ولكن خاتمة المطاف كانت في المغرب.

قبل الرحيل:

بعد إستقراره النسبي في المغرب – مدينة القنيطرة باشر عمله مدرساً في ثانوية التقدم، أستاذاً في مادة العلوم الطبيعية، وألف كتاباً في العلوم الطبيعية يدرس في ثانوية التقدم وفي بعض المدارس الأخرى لحد الآن، وأنشأ مختبراً خاصاً بالعلوم الطبيعية في ثانوية التقدم، وبعد رحيله أطلق على هذا المختبر – إسم مختبر مصطفى عبداللة، ولا زال المختبر عاملاً لحد الآن.

إستمرت علاقتنا عبر الرسائل المتقطعة، حتى مغادرتي جمهورية تشيكوسلوفاكيا عام 1983 بعدها وبحكم عدم إستقراري في مكان محدد أصبحت الأخبار بيننا متباعدة وغير منتظمة حتى عام 1987 إستلمت منه رسالة مؤرخة في

10/11/1987 جاء فيها: (كنت خائفاً أن اكتب لك، لا أدري، لماذا؛ صدقني.. فكلما كثر عندي حضوركم ماتت يدي على الورقة.. وأخيراً كان لا بد أن اعرف عنك أنت، فأنت كل من بقي لي، أستطيع منه أن أرى أهلي ووطني. أيها الحبيب، لقد تعبت أنا أيضاً، مثلك تماماً، ولا بد أن أراك مهما كلف الثمن .. أنا لا أستطيع السفر، لإرتباطي بالوظيفة، وثانياً وهو الأمر الأهم، فإن جواز سفري ما يزال تحت المعامله منذ أربع سنوات، لذلك، أرجو أن تفكر جدياً أنت بالمجئ إلينا … فقط فكر بوسيلة للوصول إلينا.. أريد أن أراك …).

ولم تتحقق هذه الأمنيه لعدم توفر الوسيلة. في هذه الرسالة أيضاً عبر عن حزنه وقلقه من الوضع واحتمال النفي الى مكان أخر. (… ولا أكذب عليك فإن الشعر السائد، يثير فيّ حالة من القرف الى درجة كبيرة … ومع ذلك فإنني أجد في الكتابة، أنني أكثر قرباً الى نفسي، رغم حالة النفي المحتمل وقوعها في أي لحظة. أرى أن العلاقات الشخصية وضرب الكتف أصبحتا ظاهرة لا بد من الإعتراف بها … حتى من أقرب الناس إليك، هكذا يتعاملون معك.. وأنت تقول بأنني أضع نفسي في قوقعة … كلا ، ياعزيزي، أنهم يضعوننا في هذه القوقعة، لقد أصبحت الكتابة والصعود أعلى المنابر هذه للكثيرين مع ألاسف … إنهم يقفون أمام كلماتهم .. وهم يتحدثون بدلاً عنها .. إن الكتابة جلست في الظل ومد الشاعر لسانه الى الشمس).

وبعد هذه الرسالة والى حد ما إنتظمت العلاقة والمواصلة بيننا ومع العائلة في البصرة أيضاً، عبر أخينا أنس الذي كان يسكن الكويت، ويجدر هنا الاشارة الى رسالة كتبها وخص بها جميع أفراد العائلة في البصرة مؤرخة في 2/2/1988، وبدايتها خص بها الوالدة رحمها الله: (الى عائدة بنت علي مال اللة .. أم مصطفى و…و…و . الى أمي، الى قطعة الماس والياقوت والذهب والإبريز والزمرد وكل حجارة مقدسة. الى أبد الحب، والعافية. الى البحر، الأرض، السماء بكل لونها الأزرق والأشجار والعصافير التي أطلقت للسماء غناءها الأبيض … الخ، كلهم يقولون، عندما أمر: أكتب يا مصطفى إسم أمك .. إكتبه بحروف واضحة … فأكتب، ويقولون أيضاً، ولا تنس أن تقول تاريخ ولادتها، فأصمت .. متى ولدت يا أمي؛ لقد قرأت كتباً كثيرة عن ميلاد الإنسان .. لكنني لم أعثر على هذا التاريخ .. أغمض عيني، فأرى أول تكوين للماء والأشجار والأرض … وقبلهم جميعاً أراك أنت .. بعيدة، بعيدة مثل هلال أو ومضة شهاب …).

الرحيل وموعد لقاء:

في الربع الأخير من عام 1989 إستقر بي المطاف في مدينة براغ عاصمة الجمهورية التشيكية، وإتفقنا على موعد لقاء طال إنتظارة في نهاية العام نفسه، وكان فرحاً لأن أموره المالية قد تحسنت الى حد ما من خلال عمله في مجال إنتاج الأفلام الوثائقية مع صديقه المخرج كاظم الصبر، ووعدني بإرسال ثمن تذاكر السفر لي ولعائلتي، وحددنا الموعد في شهر كانون الأول/1989.

يوم الأربعاء المصادف 1/11/1989 وبحادث مرور غادر ومفجع في طريق مدينة القنيطرة ـ الرباط راح الفقيد ضحية له، وهكذا رحل مصطفى عنا الى جوار ربه في رحلته الأبدية، لم أبلغ بهذا الحدث إلاّ بعد مرور فترة خمسة أيام من وقوعة. وبهذا كان الوقت متاخراً لحضوري مراسيم التشييع التي تمت بتاريخ 2/11/1989.

دفن الفقيد بمقبرة مدينة القنيطرة في المغرب، وعمل أصدقاؤة ومحبوة قبراً مميزاً له، يظلله قوس على شكل جدارين متباعدين في إنفراجهما نحو الأرض، ويلتقيا من أعلى بانحناءة، قوس مختزل من حيث الشكل، وهو صورة مصغرة لنصب الجندي المجهول، الذي أقيم في الأيام الأولى لثورة 14 تموز 1958.

حضرت الحفل التأبيني الذي أقيم بمناسبة أربعينية الراحل يوم 8/12/1989 المصادف يوم الجمعة في مدينة القنيطرة – ثانوية التقدم، وقد شارك في هذا الحفل كل من: ممثل وزارة التربية الوطنية في القنيطرة، ثانوية التقدم، جمعية الأنشطة الإجتماعية والتربوية، جمعية الأعمال الإجتماعية، جمعية النادي السينمائي، جمعية أساتذة العلوم الطبيعية، جمعية التشكيلين في القنيطرة، وعائلة وأصدقاء الفقيد. في هذه المناسبة وضمن هذا الجمع الكبير شعرت بأن طيف الفقيد كان حاضراً بيننا. إن المبدعين الأحياء منهم والراحلين يجدون عزاءً عظيماً بإعتراف المحبين والأصدقاء وعامة الناس بعصارة إبداعاتهم، ومخاض ولادة كل قطعة من إبداعاتهم. إن الراحلين يبتسمون ويفرحون أيضاً.

من تراث وأعمال الفقيد:

1- إنتاج فيلمين ثقافيين وثائقيين/ العلوم عند المسلمين والعمارة الاسلامية – عام 1988 لصالح المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الايسيسكو) وبالتعاون مع التلفزة المغربية. من أعداد وسيناريو مصطفى عبداللة وإخراج كاظم الصبر ومدة عرض الفيلم الواحد45 دقيقة.

2- إنتاج فيلم للرسوم المتحركة بعنوان زيدان الصياد: قصة مصطفى عبداللة، سيناريو مصطفى عبداللة وادريس الصغير، حوار ادريس الصغير، الإخراج – حميد السملالي. الإنتاج: معمل العين -المغرب. عام 1989.

3- فيلم وثائقي مدته 40 دقيقة عن المخدرات. لصالح المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الايسيسكو) ـ 8/8/1989. من أعداد وسيناريو مصطفى عبداللة وإخراج كاظم الصبر.

4- سيناريو كتاب الاس في حب فاس. وثائقي من أعداد وسيناريو مصطفى عبداللة وإخراج كاظم الصبر.

5- أمس الإثنين وغداً الثلاثاء ـ أعداد وسيناريو مصطفى عبداللة بالاشتراك مع ادريس الصغير وأمين عبداللة.

6- ديوان مكاشفات .. ما بعد الرحيل ـ طبع في دار المدى للثقافة والنشر – سوريا دمشق عام 1999- قدم له وساهم في إعداده مشكوراً الدكتور مجيد الراضي. الاعداد والانتاج خالد العلي.

7- ديوان الأجنبي الجميل: طبع في دار الشؤون الثقافية العامة ـ وزارة الثقافة العراقية عام 2004. قدم له وساهم في إعداده مشكوراً الصديق الشاعر عبد الكريم كاصد. الاعداد والانتاج خالد العلي.

8- لدية ديوان غير منشور لحد الآن (بين الكل) بعض من قصائده نشرت في بعض الصحف العراقية والعربية، وكان له عمود إسبوعي كل يوم ثلاثاء تحت عنوان مكاشفات في جريدة الميثاق الوطني المغربية.

9- في أواسط الستينات نشر الراحل بعض من قصصة القصيرة في الصحف والمجلات التي كانت تصدر في تلك الفترة.

10- إهتم بكتابة الاوبريت، وكتب أوبريت (الطريق) لمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، وقُدِّمَ لمرة واحدة في بغداد. وكذالك لدية سيناريو أوبريت الجرداغ غير منشور.

11- العالي – مسرحية شعرية ـ مستوحاة من قصيدة ناظم حكمت (قصة شجرة الجوز ويونس الأعرج). غير منشورة.

12- الكلام – مسرحية شعرية – 1972. غير منشورة.

13- هناك عدد من القصص والمسرحيات الأخرى التي تركها الفقيد ، نعمل الآن على إستكمال طباعتها، وقريباً سنفتتح موقعاً خاصاً على الإنترنيت ـ صفحة الشاعر مصطفى عبداللة.

وأخيراً، أتقدم اليكم أيها الأعزاء بشكري وإعتزازي وحبي الكبير لكم جميعاً ولمنظمي هذه الفعالية الكريمة، وأقول بهذه المناسبة، بكل ما تحمله من عواطف

جياشة وأفكار نبيلة: إن المبدعين مُلْكُ الوطن وذخيرته، وهم مُلْكُ لكل محبي الكلمة والإبداع، وليس لعوائلهم الصغير فقط، إن فضاء الكلمة الشريفة أوسع فضاء، حيث النقاء والعطر.

ألفُ شكرٍ صادقٍ لمنظمي هذه الفعالية وللحضور الكرام، ويبقى مصطفى بيننا.

قصيدة مصطفى عبدالله / برتقالة محمد مطرود / تشرين الثاني

مقداد مسعود

حين سلمني الصديق العزيز خالد عبدالله مخطوطة (الاجنبي الجميل) العائدة لشقيقه الشاعر مصطفى عبدالله ،قبل ان تطبع وتصدر من دار الشؤون الثقافية وكان ذلك في صيف 2003..أستوقفني الاهداء في قصيدة (الجنازة) فقد أحدث الاهداء ،غرابة لدي !! وحين زرت أنس عبدالله شقيق مصطفى سألته ،هل هي مهداة الى محمد مطرود الذي اعرفه أم لسواه ؟ فأبتسم أبو نواف (أنس عبدالله )وقال لي هو الذي تعرفه ُ فعدت الى سنة الاهداء (10/10/1978) فتيقنت ان الاخبار الدموية التي وصلت مصطفى ،تعني ان اليساريين كلهم في قائمة الشهداء ولم يبالغ مصطفى حين عرف بإعتقال القائد النقابي (هندال جادر) وهو كتب عن قصيدة (زهرة للمواطن ) مذيلة ب( 15/3/ 1979) تاريخ صلاحية القصيدة للنشر، فقد صدر المرسوم الجمهوري المرقم (1024) بتوقيع صدام حسين في القضية المرقمة 1371/ خ/ 983وفق المادة 156وبدلالة المواد 49 و50و 53من ق.ع. وعلى الوزراء المختصين تنفيذ هذا المرسوم ) وهكذا تم تنفيذ الاعدام بكوكبة من المناضلين من ضمنهم القائد النقابي (هندال جادر حاجم)..هنا ينهض الرائي في الشاعر مصطفى عبدالله ويرى ان هندال وماسوف يكون..وهذا ماتوقعه ايضا..بعد اعتقال(محمد مطرود) المناضل اليساري الجميل الوجه والسجايا، الهادىء ذو النبرة الخفيضة والعينان اللامعتان…محمد مطرود قسيم طفولته وصباه وشبابه وقسيمه في زهرة الرمان..وعام 78 هو بداية الاعتقالات العشوائية لكل قوى الخير في العراق ..ولأن مصطفى يعرف حقد النظام على من لم ينضو تحت يافطته….لكن محمد مطرود ..عاش وتألق في الحياة وزهرة الرمان وبعد سقوط الطاغية كان دائم الحضور في الجلنار ..

()

في2/11/ 2014 وهو يفكر بأبنته المريضة كان يتناول البرتقالة هلالا هلالا وكانت عيناه ترى مالايراه سواه ..فأنتهز الغراب اللحظة واندس في هلال من أهلة برتقالة محمد ..!! هل سمعتم بموت بمذاق البرتقال ؟وحياة بسبب نصاعتها لزهرة الرمان : يغتاظ منها الموت ..؟

()

ذات مساء نيساني 2014 كنا معا : محمد مطرود وخالد شقيق مصطفى وأنا ..غادرنا بيت شقيقة خالد في العباسية لنشتري الصمون والفلافل من شارع السعدي ، عدنا الى بيت شقيقة الشاعر لنأكل معا ونحتسي الشاي كان المساء جميلا هكذا شعرنا ونحن نتحدث مبتسمين ممراحين نتحايل على بعضنا ونلتهم الفلافل ساخنة في الطريق ونحن في سيارة محمد وخالد يحدثني عن رأيه في قصيدتي (في كل وقت يقول الشيوعي تصبحون على الخير) التي ألقيتها في احتفالية الحزب في البصرة، يعّقب محمد وقد ألقها في (نقرة السلمان ) في منتصف شباط ايضا.

إنتهزت الفرصة وسألت محمد مطرود عن وقع الأثر وهو يقرأ قصيدة مصطفى التي اهداها إليه..؟ ابتسم كعادته واجاب فرحت بها وهو يغمرني بكل هذا الحب الاخوي وتألمت على ألم مصطفى عليّ ..

(*)..

الكتابة النهائية مثبت تاريخها في نهاية القصيدة (10/11/ 1978) وسيموت محمد مطرود في الشهر نفسه وضمن العشرة الاولى منه ولكن بعد مرور (36) سنة على كتابة القصيدة ..وسيرحل مصطفى بعد كتابة القصيدة ب( 11) سنة ..لكنه يرحل قبل وفاة محمد بيوم ضمن الشهر نفسه ويدفن في يوم وفاة محمد ولكن بعيدا عن محمد..في القنيطرة ..

..الاثنان

الآن ينبضان في قلب القصيدة ذاتها..

ويقتسمان تشرين الثاني نفسه ، شهر ولادة القصيدة ورحيل الصديقين الجميلين

()

الجنازة

…الى محمد مطرود

إنني أنظر للكيلومترات بيننا

هذه السلاسل الطويلة

مُفكراً :

بالمرواح التي تدور في الشتاء

ومقاعد البيبيسي كولا

مُفكرا :

بقلائد الدنلوب الثقيلة

التي وضعوها في رقبتك

وأنت واقف ٌ على رجل ٍ واحدة

لاأدري

من حَفَر َ الآخر

أنا أم خندقي

هذا الجرح المكشوف على خاصرة ِ أرضي

أنني أنظر

لهذين الرصيفين المتداخلين

كشوكة وإظفر

مفكّرا بالجنازات التي توازت في الصناديق

مستقبلة ً بالمودعين

ومودّعة بالمستقبلين

***

كيف أختلفت الغايات

على حافة هذا الخنجر الذي يفصل بيننا

لن تستوي الرايات والأشرعة

لن يستوي المتأهب والمنحني

أعرف ُ هذا

مثلما أشم ُّ رائحتك ياصديقي

بين حدّي هذا الخنجر الذي يفصل بيننا

لقد جلست ُ أمام جثتك الواقفة

مفكرا بمن يستند على الآخر

أنت أم الحبل الذي دار حول عُنقك ؟

ولكن

متى استطاعت المشنقة

أن تصنع َ من الجلاّد بطلاً

10/11/ 1978

خطوات من خطى مصطفى

عبد الحميد السياب

في صمت الظهيرة ..

ونوم القيلولة في جلاّب ..

التي لها بحكم الزمان نصيب !!

يفترش الفتى قلبه ليكتب حرفا

يدسه ُ في جناح طير ٍ فالت في السماء

يبعثه ُ شاعر لقلب الحبيب

كلمات يسطرها في عفوية وشوق عجيب …

يندهش مما رواه..

تستحي الحبيبة ويعلو صوتها الحبيب !!!

الحب يسطو على قلبها…

طريحة الفراش

والهوى غريب …عجيب

دواء وسماعة طبيب

هي الكلمات من عمقه

وكان يصغي لصوت الخطيب

هو يردد من بعيد وقريب

أدوا الصلاة في أواقاتها

يدلف في (الليوان) منكسرا..

يخطي وجهه الحنطي في جريدة ممزقة
يأوي الى فراشه الرطب الكئيب..

هو يدرك ان العراق صعب فيه النضال

ففي كل شباك وباب رقيب

مصطفى لقد حلّ في جلاّب المغيب

هم رفاقك في الدرب

ولرجال الامن صولة

سيكون المستهدف فيها

على رأسها (الرفيق فاضل حميد)

والحبل على الجراّر

وسيكون نصيبك في القريب.. القريب

فأغلق الابواب واستعد

أمك يامصطفى ابن عبدالله

تعودت البكاء وصوت النحيب

ففي العراق ليس هناك من أمر عجيب

يهان عالم عالي الشأن

وبقربه يغتال فنان عجيب أو أديب

توقع ان الصبي في بلدي يشيب

ويصعد في السلم الدنيا

مختال..وضيع.. مريب …

يامصطفى صرت في وطنك للسجون

ومت هناك وصرت الغريب

فأطفأ نار شوقك

باللقاء بصرتك الحبيبة

لم يزل اللظى في قلبها واللهيب

——————————–

حانة على النيل الأزرق

حانة على البحر المتوسط

مقاربة بين قصيدتين

* قاسم محمد علي الإسماعيل

تؤرخ قصيدة مصطفى عبدالله (حانة على النيل الأزرق) حادثة إعدام عبدالخالق محجوب وهاشم العطا والشفيع أحمد الشيخ ورفاقهم بعد فشل ثورة 19 تموز 1971 في السودان، حيث يستهلّ الشاعر القصيدة بإعلان واضح منه:

(أنا ،

أودّعُ مَن لا يجيء معي)

وهو بدايةً يحيلنا عبر إهدائه هذه القصيدة (… إلى سعدي يوسف)، يحيلنا إلى قصيدة سعدي (حانة على البحر المتوسط) المنشورة في ديوانه (نهايات الشمال الإفريقي)، حيث تشترك القصيدتان بحواريّة مع (الآخر) وهو (سيدّة) مفترضة يحاورها الشاعر. كما في نصّ مصطفى عبدالله:

(- فهل تذهبين…؟

أراكِ غداً،

وأتركُ إسمي على دفترك.

وتمشي المحطة.)

وفي نص سعدي يوسف:

(- هل تريدين شيئاً من الملح..؟

* لا ….)

وفي كلتا القصيدتين تستمر هذه الحوارية بإغناء النص عبر سلسلة من الحواريات القصيرة، يقول مصطفى:

(فاكتبي يا صديقه،

وباللغة الأجنبية:

بأن الوصول إلى النيلِ شوقٌ محرّم

وأنّ السياحة صعبه.)

في قصيدة سعدي يوسف، منذ البداية، يهيئ القارئ إلى حدث عصيب سوف يأتي حين يكرر وبشكل متسق: أعتمَ البحر… ، أعتمَ النهر…، أعتمَ الوجه… ليصل بالقارئ في نهاية القصيدة إلى صورة الإعدام بشكل ضربة واحدة سريعة:

(إنّ كفّيه مشدودتان.

إنّ عينيه معصوبتان.

إنّه ، فوق كرسيّهِ…

سوف يُعدم.)

وفي كلتا القصيدتين يعالج الشاعران حدثاً سياسياً هو الإعدام بصورتين متقاربتين جداً، الإعدام الذي يذكره سعدي يوسف في العراق الذي كان يعيش في سنيّ السبعينات – وقت كتابة القصيدة – حالة واضحة من التوتر السياسي عبر التصفيات الجسدية التي مارستها السلطة آنذاك ضد جميع المعارضين ومن التيارات الفكرية المختلفة، فهو من منفاه في الجزائر يستعرض قلب بغداد (باب المعظم) حيث مقر وزارة الدفاع ومديرية الاستخبارات العسكرية العصب الحقيقي للسلطة آنذاك، ليصل في وصفه إلى مشهد الإعدام بعد تأجج المشهد بتكرار كلمة (العيون) خمس

مرات في القصيدة، وتكرار كلمة (المرايا) أربع مرات، لإحالة القارئ إلى المشهد ذاته.

أما (صورة) الإعدام في قصيدة مصطفى عبدالله فتأتي أكثر وضوحاً وإعلاناً وبـ( شاشة) واسعة وبحدث سريعٍ متنام:

(ما مالَ إلاّ وعشرون فوهه

أبرقت، أرعدت دفعة واحده.

وشالوا رصاصاً ولحماً

شالوا حبيبي رصاصاً ولحماً،

شالوا حبيبي)..

وغنائية الفجيعة بعد القتل واضحة في هذا المقطع عندما يكرر الشاعر (شالوا رصاصاً ولحماً.. إلخ…) فهي تبدأ قوية ثم ما تلبث أن تضعف وتتلاشى رويداً رويداً كلازمة… لتظهر لمرة واحدة في نهاية القصيدة. وقد وظّف مصطفى عبدالله في قصيدته الأفعال الماضية مثل: عدّوا، شالوا، قالوا، كنسوا، لوصف فعل الجريمة وفضحها، بينما وظّف أفعال الأمر مثل: إذكري، قولي، اكتبي، للرد – ضمناً – على الجريمة.

في قصيدة سعدي يوسف يظهر بشكل واضح المكان المفترض لرواية الحدث وهو (حانة):

(- هل تريدين شيئاً من الثلج..؟

* لا …)

(- أنتِ لا ترقصين..!

* ربما بعد كأسينِ…)

بينما في قصيدة مصطفى عبدالله يبدو بضبابية:

(أهونُ إذا ما سكرت)

أو: (وثمّ يسامرنا كأسنا

نهونُ إذا ما سكرنا)..

القصيدتان رغم أنهما كُتبتا في نفس العام ومتجاورتان في العنوان إلا أنني أعلم وحسب معرفتي الشخصية الوثيقة بالمرحوم مصطفى عبدالله أنه لم يكن يعلم بقصيدة سعدي يوسف وأن مصطفى اكتفى – عندما قرأ قصيدة سعدي منشورة – بحجب هذه القصيدة (حانة على النيل الأزرق) عن النشر وأضاف الإهداء (إلى سعدي يوسف) أسفل عنوانها. وإنني عندما كُلّفتُ من عائلة المرحوم مصطفى عبدالله بأن أنضّد ديوانه الكامل بشكله الأخير الذي أعدّه شقيقاه خالد وأنس وبجهد كبير وخاص من الشاعرين الصديقين عبدالكريم كاصد ومهدي محمد علي لتقديمه للطبع في وزارة الثقافة العراقية ، وجدت أنّ هذه القصيدة لم تدخل أيضاً ضمن المجموعة المعدّة للنشر، على أهميتها الفنية والإبداعية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات