-1-
حين نقرأ ما قاله أحمد بن عبّاس القرطبي عن نفسه ، لا نستطيع الاّ ان نتهمه بضرب من الجنون .
هذا الضرب من الجنون هو ما نسميه بجنون العظمة لا الجنون الذي يُفتقَدُ معه العقل بالكامل …
والسؤال الآن :
ماذا قال ؟
ليَ نفسٌ لا ترتضي الدَهْرَ عُمراً
وجميع الأنام طُرّاً عبيدا
لو ترّقتْ فوقَ السماء محلاً
لم تزل تبتغي هناك صعودا
انه تجاوز كل الحدود بما وصلت اليه نفسه، من انتفاخ وغرور واستعلاء ، فلم يَعد يرضى ان يكون الدهر عمراً له ..!!
هذا الدهر على طُولِهِ وامتداداتِهِ السحيقة البعيدةِ المدى ، لايقبل به عمرا..!!، وكأنّه يريد ان يكون وجوده ممتداً من (الأزل) الى (الابد) ..!!
وهذا ما لم ينله حتى الأنبياء والأوصياء ..!!
فضلاً عن الملوك والرؤساء والزعماء على اختلاف الأقطار والاعصار..!!
والمتنبي حين يقول :
واذا كانت النفوس كباراً
تَعِبَتْ في مُرادِها الاجسامُ
فانما يشير الى أنَّ النفوس الكبيرة يعانقها شوقُ الإبداع و تُحرّكُها الهمة العالية، للنهوض بالأعباء الكبرى والمهمات الجِسام ..، وتطمح لارتقاء القمم، بما تملكه من فضائل وسمات ، لا أنْ تشطّ في التقدير فتأبى أنْ يكون لها الدهر عُمرا ..!!
ثم كيف استساغ القرطبي أنْ يتجرأ على البشرية بأسرها حين أعلن بكل صراحة ووضوح :
انه يُريد أنْ يكون الناس جميعاً عبيداً له ، ومع ذلك فلن يكون راضيا عنهم ..!!
ولك ان تقول له :
من أنت حتى تستعبد الناس ؟!
-2-
وهناك من وصل في غفلة من الزمن ، الى مواقع سلطوية عالية ، لم يكن جديراً بها، فأغرق البلاد بالفساد، وأرهق العباد بأزمات اثر ازمات، امتدت لتشمل كل النواحي الامنية والسياسية والاقتصادية، فمُنح درجة (الفشل) بامتياز ،ولكنه – كالقرطبي الشاعر – في تصوراته عن نفسه ظلّ مسكونا بالأوهام ، والحنين الى تلك الأيام ..!!
وأطرف الطرائف :
انه مازال مصرّاً على عصمته من الخطأ ..!!
بالرغم من كلّ الخطايا الرهيبة .
وأنه مازال يعتقد انه لا يصح أنْ يُقاس بغيره ، فلن يرتقي اليه أحد..!!
-3-
ومن نافلة القول التأكيد على أن علماء الاخلاق يعتبرون اتهام الذات هو منطلق الصلاح عند الانسان، وهو ما يبعدها عن العجب والغرور،
والقرطبي وأضرابه لا يُحسنون الا فنّ المبالغة المنكرة، في تضخيم الذات واشتمالها على أعظم الصفات …
والاحرار لن يكونوا عبيداً لغير الله …
ان العبودية لله هي الحرية الحقيقية حيث تُطلق الانسان في كل الأغلال والقيود …
وحين يضع (القرطبي) نفسه في هذا الموضع ، يذكرنا (بفرعون) حين ادّعى الربوبية وكان من أمره ما كان ..!!
ويبدو أنّ (القرطبي) تمنّى ان يشق الفضاء ، لكنْ لا للبحث العلمي عن (القمر) أو (المريخ) ، بل لأنه لا يرتضي أنْ تكون السماء سقفاً له ..!!
ان المبالغة الفظيعة في حجم الذات هي التي أوصلته الى ما وصل اليه من طغيان وهذيان ..!!
واذا كان قد امتطى صهوة الشعر، وتخيّل أنه يستطيع ان يقول عن نفسه ما يشاء، فقد كان واهما أيضاً ، لان كبار الشعراء لم يقولوا ما قاله على الاطلاق … لا عن أنفسهم ولا عن غيرهم ممن امتدحوهم من كبار الرجال وعظمائهم …
-4-
وحين نستعرض الكوارث التي حلّت بالأمة عبر التاريخ، نجد أنَّ صانعيها هم أصحاب النزعة الذاتية من السلطويين ، ممن لا يؤمن الاّ بنفسه ، أما المواطنون فعلى رؤوسهم التراب …!!
-5-
ولن يُتاح لأمة من الامم ، أنْ تذوق طعم السلامة والكرامة اذا استسلمت للسلطويين، الغارقين الى الآذان ، بمهمات الحفاظ على مواقعهم وامتيازاتهم ومكاسبهم، على حساب الأمة، ولا سبيل لها للخلاص من كل تلك الكوابيس، الاّ بان تكون قوية الادارة في رفضها لكّل ألوان الخداع ورموزه، وأنْ تدرك انّ فرسان الاحتراف السياسي يبرعون بشراء الذمم
والضمائر فلا تقايض مصالح الدين والشعب والوطن، بالمال والاغراءات الدنيوية الأخرى .
-6-
وحين يقع المرء فريسة الخداع مرّة بعد مرّة ، فلا بُدَّ ان تكسر برأسه الجرّة .