عندما نسمع قصيدة رقيقة تؤثر فينا فنشعر بأحاسيس عاطفية شتى سارة أوحزينة أو حماسية .. وعندما نسمع موسيقى مناسبة تشحذ هي الأخرى حواسنا بشتى الأحاسيس والانفعالات، وعندما يجتمع الشعر مع الموسيقى يتكون ما نسميه الإنشاد أو الغناء فرادى أو جماعة فيكون التأثير مزدوجا من الشعر والموسيقى، وعندما نسمع القران نشعر بأجواء روحانية متفاوته بين المبهجة والخاشعة والحزينة وعندما يرتّلُ القرآن وينّغم بصوت جميل نحلِّق مع الألحان السماوية.. ومن محصلة هذا الزِّواج عرفنا المقام العراقي والمدائح النبوية والموشح والصهبة (الموشح المكي)والصنعاني (الموشح اليمني) والموشح الحلبي-القدود وألوانا أخرى من الغناء الشعبي..
مع مطلع القرن الماضي ازدهر في مصر إضافة للتجويد القرآني والمدائح تلحين القصائد وغنائها على يد شيوخ ومقرئين، وهكذا ظهرت القصائد المغنّاة لابن النبيه المصري وابن الفارض وابن الدّجاج البغدادي، وغيرهم؛ لحّنها أبو العلا والسفطي ومحمد عثمان وسلامة حجازي وكامل الخلعي وعبده الحامولي وسيد درويش وقد غلب على هذه الألحان الارتجال و لكون جلّ الملحنين لا يعرف النوطة فتجد أن هذه الألحان تتغير من أداء الى آخر فسلامة حجازي مثلا الذي أدخل الغناء الى المسرح للترويح كانت أغانيه تتغير كل مرة، الى أن عرف التسجيل على الإسطوانات وبرز ملحنون أخذوا بتدوين الألحان للحفاظ عليها.
لقد بدأ صعود في القصائد المغنّاة مع تطور الموسيقى على يد عمالقة الغناء المصري من أمثال زكريا أحمد ورياض السنباطي وعبد الوهاب وفريد الأطرش وبدأ التلحين للمحدثين من الشعراء من أمثال شوقي وبشارة الخوري وأحمد رامي وعلي محمود طه المهندس ثم بدأ تلحين القصائد يشيع في لبنان على يد الأخوين فليفل واللذين اشتهرا بتلحينهم للقصائد الوطنية حيث خرجت علينا أناشيد وطنية ازدهرت مع صعود حركة التحرر الوطني في مصر والجزائر وفلسطين.. وتنفرد قصيدة الشابي “إرادة الحياة” التي ألهبت جماهير العرب ورددتها من الخليج الى المحيط، وشحذت الروح الثورية المقاوِمة للاستعمار والصهيونية والطُغم العربية المتسلطة على شعوبها، تنفرد بأهمية كبيرة مع أغاني ثورية ألهبت الجماهير العربية خلال العدواني الثلاثي وما بعده.
وكان للأخوين رحباني دور مهم في تلحين القصائد التي غنتها فيروز أمثال قصائد جبران خليل جبران اضافة لما كتباه بأنفسهما ولحناه لها، شكل هذا الاتجاه تجديداً وتحديثا في
الغناء العربي متأثرا بالغناء الكنسي وآلاته وبعمالقة الموسيقى الكلاسيكية من أمثال باخ وموزارت وبتهوفن حتى بوسع المستمع العادي أن يشخص التيمات وحتى كوبليهات كاملة من موزارت في بعض من أغاني فيروز تحديداً.
كان تأثير المدرسة القرآنية المحافظة وأنغامها الشرقية واضحاً جداً متمثلا في ألحان الشيخ يوسف المنيلاوي(1850-1911) الذي لحن للسلطان عبد الحميد قصيدة ابن الفارض (ته دلالاً فأنت أهل لذاكا)؛ ومحمد عثمان(1855-1900) الذي اشتهر بلحن موشح “أصل الغرام نظرة – من الراست”؛ والشيخ سلامة حجازي (1852-1917) الذي غنى “للخديوي محاسن جمة”؛ والشيخ أبي العلا الذي لحن لابن النبيه المصري ” أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا” غنتها أم كلثوم.
والشيخ زكريا أحمد (1896-1961) العبقري الفطري الذي برع في تلحين الموشحات إضافة الى قصائد هامة لحنها لأم كلثوم، والذي شُغف في استكناه مكنونات مقام الرست والتلحين عليها ألحاناً مبهجة وراقصة من مثل:غنّ لي شوي شوي واخرى شجية! وجل هؤلاء الملحنين بين مقرىء وشيخ أزهري تشرب المقامات الشرقية من دون أني يلّم بكتابة النوطة الموسيقية قراءة وكتابة! ومن يستمع لالحان هؤلاء وتحديدا ما غنته أم كلثوم لهم من قبيل: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا؛ لي لذة في ذلتي وخضوعي؛ الصبُّ تفضحه عيونه، أراك عصيّ الدمع ..سيأتي على مصداقية المدرسة الشرقية في التلحين أو ما اسميه المدرسة القرآنية.
والأستاذ رياض السنباطي الذي لحن مطولات القصائد وأصعبها وأخص بالذات مطولات أحمد شوقي ومدائحه النبوية أبدع ايما إبداع في تلحين هذه القصائد بل وشكل مدرسة مميزة في تلحين القصائد قل من عاصره أو جاء بعده ولم يتأثر بها، ومميزات السنباطي هو كونه امتداد لجيل الشيوخ الذين سبقوه لا سيما زكريا أحمد، لذا جاءت ألحانه شرقية صافية تسبقها مقدمات موسيقية تجسد أبعاد المقام (المذهب) على آلات التخت الشرقي من دون إدخال أيقاعات غربية أو آلات غربية غريبة عن الأذن الشرقية، كما كان لتمكنه من لغة القرآن ودراسته للشعر والمدائح النبوية في أول حياته مكنه من تذوق العبارات الشعرية وترجمتها موسيقيا بشكل مذهل مع طول نفس وإخضاع الشعر للموسيقى من ناحية وتطويع الموسيقى للشعر من ناحية أخرى رغم طول القصائد المغنّاة أمثال: شوقي في “نهج البردة”:
ريمٌ على القاعِ بين البان والعَلَمِ *** أحلّ سفكَ دمي في الأشهُرِ الحُرُم
أو قصيدة شوقي:
سلوا كؤوسَ الطُّلى هل لامست فاها *** وأستخبروا الراح هل مسّت ثناياها
وقصيدة “مولد النبي” لشوقي أيضاً:
وُلِد الهدى فالكائنات ضياءُ *** وفم الزمان تبسم وثناءُ
وهنا أشير إلى أهمية إخراج الحروف من مخارجها، فجرياً على عاميتهم يقلب الثاء الى سين فتُصبح ثناء “سناء” مما يشوه المعنى البلاغي الجميل للمطلع الرائع ويخل بجمال التصوير ويحيله الى ترادف معنوي مكرر باهت بين ضياء و “سناء” فأذهب بحسن المطلع الذي يعتبر شوقي أحد فرسانه فلا تجد مطلعا باهتا عند شوقي قط!
لقد اتسمت القصائد المغنّاة عند السنباطي بهيبة المقامات الشرقية (رست صبا حجاز كرد بيات..) التي لا تتناسب مع موضوع القصيدة وحسب بل ومع البيت وحتى مع معنى المفردة وجرسها، وما يتلائم مع الأبعاد الصوتية لأم كلثوم، بين الميزوسبرانو والالتو؛ فلنسمع الى رباعيات الخيام التي ترجمها غنائياً لا حرفياً أحمد رامي والتي غنتها أم كلثوم على مقام الرست الذي اتسم بالبهجة والوقار معاً الذي يتناسب مع موضوعات فلسفية تبعث على التأمل:
سمعت صوتاً هاتفاً في السحر *** نادى من الغيب: غفاةً البشرْ
هبوا املؤا كأس المنى قبلَ أن*** تملأَ كفّ العمْرِ كأس القدَر
ولا بد من وقفة قصيرة مع الموسيقار المغبون محمد القصبجي (1892-1966)، وينفرد هذا الموسيقار بكونه خريجا لمدرسة المعلمين فهو إذن من خارج الأزهر وإن كان ابناً لأزهري وعلى احتكاك بالموسيقى الشرقية وعلى متابعة للموسيقة الغربية لا سيما الإيطالية حيث رام الدراسة فيها ولم يُسعفه ظرفه القاسي، وهو من القلائل الذين يحسنون التدوين بالنوطة الموسيقية،، إن ثقافته الهائلة التي تدل عليها مكتبته الخاصة وموهبة عزف على العود بطريقته المميزة وتاثره بفيردى تشهد لها الحانه المسرحية وقد لحن لأسمهان ذات الصوت من طبقة السبرانو أجمل الالحان والقصائد التي تقترب من المنحى الأوبرالي، ويعد رائد التلحين للافلام السينمائية (عزيز الشوان، الموسيقا للجميع ص293) ولحن لأم كلثوم رق الحبيب التي لم تكن مناسبة لصوتها ذي النبرة الذكورية قدر مناسبتها لاسمهان التي لو ادتها لابدعت أيما أبداع ولجعلتها واحدة من روائع الغناء العربي على رأس أغاني القرن العشرين، مات القصبجي معدماً كسابقه زكريا أحمد!
إن الحديث عن الموسيقار محمد عبد الوهاب يلزم الحديث عن تطور منحى القصائد المغناة لديه؛ فقد خضع في أول الحانه لتاثير سيد درويش الى درجة التطابق الصوتي واللحني، وقد لحن لشوقي بداية قصائده من المقامات الشرقية مثل: مضناك جفاه مرقده؛ وجبل التوباد حياك الحيا، وكلتاهما من الحجاز، وهذه الأخيرة قد تاثر بأغنية عراقية
سمعها من وديع خندة في لبنان ” يميه يايمة ما اتام ليلي…” فاقتبسها بالكامل، كما لحن “يلي .زرعتو البرتقال” من مقام اللامي ( من ذاكرتي في لقاء إذاعي مع الملحن وديع خندة أو سمير بغدادي قبل نحو من 50 سنة)… أما ياجارة الوادي فهي علامة فارقة في القصائد المغتاة لوجود المنحى التجديدي الذي ما زال محافظاً!
في الثلاثينات بدأ عبد الوهاب منحى جديدا في تلحين القصائد حين خرج من أسر شوقي ليلحن لبشارة الخوري، عدة اغان باسلوب جديد ادخل فيه تيمات وإيقاعات غربية ولا أدل على ذلك من الاغنية النموذجية في هذا المنحى وهي أغنية: جَفنه علّم الغزَل، وأرى أن اللحن قد رفع هذه القصيدة المتهاوية في عدة أبيات، استخدم عبد الوهاب عدة مقامات، العجم والحجاز والبيات ضمن نقلات رائعة كما ادخل إيقاع الرومبا Rumba الكوبي الراقص، وما تلزمه من آلات الإهتزازMaracas (عن معجم بونييه الموسيقي السويدي)؛ هذه وقفة مع القصيدة أو بعضها الأهم:
جفنه علّم الغزَلْ ** ومن العلم ما قتلْ
لماذا من العلم ما قتل، لو قال من الحب ما قتل فهو امر وارد، أما انه وقع في شرك التعبير البلاغي الذي يُعرف برد العجز على الصدر فهو غير موفق! ثم ينتقل انتقالاً بل قفزأ بالمعنى هو الآخر غير موفق، فالفجوة بين المعنين واسعة إن لم تكن هُوّة:
فحرقنا نفوسنا ** في جحيم من القُبَلْ
هكذا ” ولّعتْ” مرة واحدة بدون مقدمات: جحيم من القبل! ثم يتغير المعنى ويتراجع على عقبيه فلنسمع:
ونشدنا ولم نزل ** حُلُم الحب والشباب
حلُم الزهر والندى ** حُلُم اللهو والشراب
إذن اين الحريق والجحيم؟ كله برد وسلام وسنقبل أنه كان حُلُماً
فلنسمع أجمل ما في القصيدة:
هاتها من يد الرضى **جرعة تبعث الجنون
كيف يشكو من الظما ** من له هذه العُيون
ثم العودة الى الحرائق التي حسبتُها حُلما أو هكذا أوحى بها الشاعر وإذا هي تعود مرة أخرى:
ياحبيبي أكلما ** ضمنا للهوى مكان
أشعلوا النار حولنا**فغدونا لها دخان
ولعل من أروع القصائد الرومانسية التي لحنها عبد الوهاب بلمسات رومانسية مطعماً إياها بتيمات وايقاعات غربية من قبيل التانغوالارجنتيني هي قصائد: النهر الخالد والجندول والقيثارة والكرنك.. للشعراء الرومانسيين محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه المهندس وأحمد فتحي .. والتي اشتهرت بمقدماتها الموسيقة الرائعة، حيث تالق عبد الوهاب فم منى ينسى:
ااغضن تلك أم صبايا **شربن من خمرة الأصيلِ
أود ان أشير بل أشيد بعبقرية فريد الأطرش الذي ارتفع وتألق بقصائد بشارة الخوري من ” عش انت” أو “أضنيتني بالهجر” وأحسب انها قصائد ثقيلة يصعب جدا تلحينها لكن عبقرية الاطرش لا تعرف الصعوبة فقد رفع هذا البيت الدموي الى اعلى المصاف:
لو مرّ سيفٌ بيننا لم نكن ** نعرف أجرى دمي أم دمك!!!!
هل هذه بالله عليكم صورة جميلة؟
سيكون الحلقة القادمة مخصصة مع القصائد العراقية المغناة ونقاش مع ملا حظات القراء التي بدأت تترى بين أسئلة ومداخلات..