لقد تريّثت وتردّدت كثيرا قبل الكتابة حول الهجوم الهمجي الوحشي والآثم الذي تعرّض له مقر الأسبوعية الفرنسية “شارلي هبدو” و عقبته المجزرة المروّعة التي راح ضحيّتها 17 شخصا من بينهم أعضاء هيئة تحرير هذه المؤسّسة الصحفيّة الساخرة ذات التوجّه الفوضوي الذي لا تحدّه حدود ولا يغطّيه سقف، و الذّي كثيرا ما تجاوز الضوابط الأخلاقيّة والأعراف الصحفيّة المعمول بها. وذلك عند نقدها اللاذع والساخر، ليس فقط للساسة الفرنسيين بكل توجّهاتهم الفكريّة بل وكذلك للأديان جميعها بما فيها اليهوديّة، رغم توفّر فرنسا على قانون ضد معاداة السامية.
إلّا أنّي بعد المسيرة التضامنيّة الضخمة ضدّ الإرهاب في العاصمة الفرنسية باريس، وبعد إعادة الرسوم الكاريكاتوريّة من قبل ذات الصحيفة الساخرة، في تحدّ صارخ للمسلمين من باب (مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ)، وبعد تبنّي “القاعدة” لهذه العمليّة الدّامية التي أضرّت أيّما ضرر بالإسلام والمسلمين في كلّ أصقاع الدنيا، ولا سيّما بالجالية الإسلاميّة في فرنسا، قرّرت الكتابة حول الموضوع، بعد أن زاد الإحتقان والتجييش والكراهيّة و تأجيج مشاعر الأوربيين ضدّ المسلمين، حتّى أصبحت أخجل من إنتمائي إلى العالم العربي الإسلامي، الذي لا يذكر
ويكون حديث الساعة في مختلف وسائل الإعلام العالميّة، إلّا مقترنا بالإرهاب وسفك الدماء لمن يخالفنا الرأي سواء كان من بين جلدتنا أو كان من غير عالمنا العربي الإسلامي، ولا سيّما إن كان من العالم الغربي الديمقراطي الليبرالي الحرّ. فهذه الحادثة الأليمة مثّلت عندي صدمة الوعي ويقظة الوجدان، والإنتباه إلى حقيقة جهلنا وتعاسة وهزالة ومساوئ ومثالب موروثنا الحضاري الفكري والثقافي، ونخصّ منه الفكر التكفيري الإلغائي الساذج المنغلق والمتكلّس، الذي لا يفرز بالنتيجة إلّا الكوارث والفواجع لذواتنا وللآخرين بمقادير مختلفة. ولو لم يكن ذلك كذلك لما كانت فلسطين ومصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن، بل وحتّي لبنان، على ما هي عليه اليوم من تفكّك و اضطراب واحتراب وإرهاب وفقر مدقع. ولهذا فمن اليسير تنزيل هذه الحادثة الأليمة لأسبوعيّة ” شارلي هبدو” ضمن هذه الرؤية السوداويّة القاتمة للعالم وللفكر العربي الإسلامي ولا سيّما للفكر الديني المتطرّف ممثّلا في الفكر الوهابي الأجوف الذي يسارع إلى التكفير والحكم على المخالفين بالإدانة والتجريم والردّة وما يستتبعها بالضرورة من هدر للأرواح . وهو بهذا المعنى يلحق الإساءة بالإسلام أكثر مما يلحقها به الأعداء، فضلا عن تهديده جدّيّا للنظام الإقليمي القائم اليوم.
كما يمكن تنزيل مذبحة “شارلي هبدو” في سياق تصوّر الفكر السياسي الغربي المعاصر للقوى العالميّة النافذة في عصر ما بعد انهيار المعسكر الشيوعي وتفكّك وتشظّي الإتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين كما يراها منظّرو هذا التصوّر وأبرزهم أحد أقطاب المحافظين الجدد المفكّر الأمريكي “فرانسيس فوكوياما”( Francis Fukuyama) ومواطنه “صأمويل فليبس هنتنغتون” (Samuel Phillips Huntington).
فامّا فرانسيس فوكوياما فإنّه إعتبر في كتابه ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير ” أن تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد إنتهى وستحلّ محلّه الرأسماليّة الليبراليّة أو الاشتراكيّة الديمقراطيّة، وأنّ الإسلام قد يكون القوّة الضاربة التي تقف بندّيّة أمام العالم الغربي الليبرالي وقيم الديمقراطية الغربية. وذلك وفق منطق الثنائية الدياليكتيكيّة للتاريخ التي
طرحها وأكّد عليها هيغل سابقا في كلّ كتابته. وهو ما يعني بالنتيجة وجوب التوقّي من الإسلام، بل ومحاربته في كلّ مكان.
وأمّا صأمويل فليبس هنتنغتون فإنّه يرى في كتابه ”صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي” أنّ الحضارات هي من سيحلّ مستقبلا محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة حيث أنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة ستكون كثيرة جدّا وشديدة العنف. كما أنّ محرّكها الأساس سيكون حتما العامل الثقافي و الحضاري الذي سيحلّ محلّ العامل العقدي الذي كان سائدا في خضمّ الحرب الباردة. حتّى أنّ المؤرّخ البريطاني “جون أرنولد توينبي” أقام عليه نظريّته التاريخية الشهيرة المعروفة ب”التحدِّي والاستجابة”، والتي اعتمدت بالأساس على الدّين. وضمن هذه المقاربة فلا نستغرب ما جاء في موقع “انترناشونال بيزنس تايمز” من أنّ « الموساد الإسرائيلى رغب فى الانتقام من تصويت البرلمان الفرنسى لصالح فلسطين… فقام بالهجوم على مقر الصحيفة لإلصاق التهمة بالمسلمين». وأكّد الموقع «أن الموساد استأجر مسلمين من أصول عربية لتنفيذ الهجوم لزيادة العداء ضد المسلمين في العالم ».
ولعلّه، وفي سياق متّصل، يمكن الإشارة إلى قراءة ديموغرافية تحليلية للمجتمع الفرنسي، من جنس الخيال السياسي ، تحذّر من إحتمال أن تحكم فرنسا سنة 2022 من قبل رئيس مسلم يقرّ لباس الحجاب ويسمح بالزواج بأربع نساء و… وهي مقاربة صدرت أخيرا في رواية جديدة بعنوان “استسلام” (Soumission) للكاتب المثير للجدل والصدمات “ميشال ويلبيك” (Michel Houellebecq)، الحائز على جائزة غونكور (Goncourt) (، والتي قال عنها صاحبها “إنني أختزل فيها تطورا هو بنظري محتمل”. والعنوان ذاته مستوحى من الإسلام، الذي إعتبره الكاتب سنة 2001″أحمق ديانة”، مضيفا أن “كره الإسلام ليس نوعا من العنصرية”. وهو ما يعدّ إستفزازا جديدا للمسلمين. وقد صرّح الرئيس الفرنسي “هولا ند”، أيّاما قليلة قبل الهجوم على “شارلي هبدو” أنّه سيقرأها، بما يعني ضمنيّا أنّه يروّج لكتاب يحرّض على المسلمين. فيما ذهبت زعيمة اليمين الفرنسي المتطرّف إلى أنّ المسلمين سيمثّلون %40 من المجتمع الفرنسي 2020. ما يعني سيادة التخوّف الشديد على
مستقبل فرنسا من التواجد والتكاثر الديموغرافي للمسلمين الذي قد يؤدّي إلى أسلمتها. هذا، وقد أثارت الرواية سجالا محتدما في الساحة الأدبية الفرنسية ، حتى قبل صدورها الأربعاء 7 يناير 2015، وهو تاريخ الهجوم على “شارلي هبدو”. و أحسب أنّ حدوث ذلك لم يكن إطلاقا من باب الصدفة المحضة!!
ولا بدّ هنا من أن ألاحظ، في نهاية التحليل، أنّ الفكر السياسي عموما، يبقى في مطلق الأحوال، فكرا بشريّا حرّا و مجرّدا وغير مقدّس، تجوز مناقشته في كلّ آن ومكان. وهو ليس فهما ساذجا أو تأويلا غير عقلاني لنصوص مقدّسة يحتكره بعض الماضويين الذين يعيشون خارج التاريخ، كما هو الشأن بالنسبة للفكر التكفيري البغيض. تأسيسا على ذلك فإنّي أسائل هؤلاء -ولا أكتفي بالتساؤل- كيف يستهينون قتل النفس التي حرّم الله قتلها إلا بالحقّ؟! معتمدين -على الأرجح- على حديث رواه البخاري( 3031 )، ومسلم ( 1801 ) يفيد أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ : أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ )، وربّما على الحديث القائل على لسان رسول الله “أمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى”. فيما غفلوا أو تغافلوا عن الحديث الصحيح ” مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ “. لا بل إنّهم صرفوا النظر عن قول الله تعالى((وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) ويتجاهلون قوله الكريم ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) )) [سورة النحل : 125: 128]. ثمّ هم لماذا لا يتّعظون بقوله تعالى (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئين) [ الحجر: 95]، حيث تكفّل الله وحده بمعاقبة المستهزئين ؟!
إنّها أسئلة اطرحها فقط على معتنقي الفكر التكفيري دون أن أنتظر منهم إجابة. لأنّهم ببساطة ليست لهم القدرة المعرفيّة على ذلك. فهم أقلّ إدراكا من أن يفهموا ويتدبّروا المعاني الحقيقيّة لما أوردته أعلاه، من آيات كريمة وأحاديث شريفة تناقض تماما وبوضوح صارخ ما يذهبون إليه من تأويل ساذج جعل منّا “أمّة ضحكت من جهلها الأمم”.