تعد أزمة الكهرباء واحدة من أشد الأزمات التي تقض مضاجع العراقيين وتنغص عليهم راحتهم وتتسبب في الكثير من مشكلاتهم اليومية منذ أكثر من عقدين من الزمن، وقد وصلت هذه الأزمة الى ذروتها في نيسان من العام 2003، بعد ان دمرت الآلة الحربية العديد من منشآت إنتاج الطاقة، وما تبعها من أعمال النهب والسرقات لعدد غير قليل من محطات الكهرباء وخطوط نقلها وأبراجها.
ولم يكن مفاجأ أن تتصل القوات الأميركية المحتلة فور انتهاء العمليات الحربية (وهي تعرف علماؤنا وخبراؤنا أكثر منا!!) بالدكتور المهندس كريم وحيد حسن أحد أمهر الخبراء العراقيون والعرب في صناعة الكهرباء، لتكلفه بإستلام ملف الطاقة الكهربائية سعيا وراء أصلاح ما دمرته الماكنة العسكرية.
فما الذي حصل ؟
جاء مجلس الحكم المحلي (أحد مؤلفات الإحتلال) وشكل أول وزارة عراقية بعد التغيير ووفق تقسيمات المحاصصة الطائفية التي بدأت أدوارها منذ ذلك الحين، (مُنحت) وزارة الكهرباء الى مكون مذهبي يختلف عن مكون (الدكتور كريم وحيد)، فتم إستيزار المقاول الأميركي (أيهم السامرائي)، ولم تمض أسابيع حتى فاحت رائحة الفساد في كل مفاصل الوزارة، وجرت محاكمة الوزير السامرائي بعد أن تصاعدت الأصوات الإحتجاجية ضد فساده، فحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، فتدخلت القوات الأميركية وتم تهريبه كونه يحمل الجنسية الأميركية، وعندما بدأ الحراك لتشكيل الوزارة الثانية وجهوا الدعوة مجددا للدكتور كريم وحيد ورشح للوزارة، لكن حسين الشهرستاني (صاحب النفوذ الحوزوي) وقف ضد هذا الترشيح، لا لمصلحة وطنية عامة بل لرغبته في إستيزار صديقه (كندي الجنسية) المهندس (محسن شلاش) ودارت الدائرة من جديد وظلت الأزمة تراوح في مكانها، ولم يفلح الوزير الثاني (لعدم خبرته) في تقديم أي علاج لحل أزمة الكهرباء، غير تحويل داره في المنطقة الخضراء الى دار ليالي حمراء، لتمر شهور أخرى ولم يجدوا بدا من إستيزار الدكتور كريم وحيد عند تشكيل الوزارة الثالثة بداية العام 2006، ليكون أول وزير تكنوقراط وربما آخر وزير بعد عام 2003 بسبب استمرار وفرض آلية المحاصصة السياسية والطائفية المقيتة في تشكيل الحكومات المتعاقبة.
ولمن لا يعرف الدكتور المهندس كريم وحيد، ولمن إختلطت عليه الأوراق نتيجة الضغط الإعلامي مدفوع الثمن، أو من وقع تحت تأثير التهم التي تطلق جزافا، نود أن نسوق هذه المقدمة قبل فتح الملف الأكثر جدلا في العشر سنوات الأخيرة.
للدكتور كريم وحيد تاريخ طويل مع كهرباء العراق، واشتهر أسمه بشكل خاص بعد أن شارك كأحد أبرز الخبراء ضمن فريق عمل لإعادة منظومة الكهرباء العراقية الى العمل بعد انتهاء حرب الخليج الثانية في العام 1991 ، لينجح بوقت قياسي وبما توفر لديه من البدائل والمواد الإحتياطية، بإعادة تأهيل أغلب المحطات الكهربائية، وهو ما دفع الحكومة العراقية آنذاك الى إقامة إحتفال للإشادة بطاقم العمل العراقي الذي حقق ذلك الإنجاز برغم ظروف الحصار الكامل الذي ضرب حول العراق، وقيل أن رئيس النظام السابق صدام حسين فاجأ المحتفين بقوله وهو يحيي الدكتور كريم (حيّوا معي فارس الكهرباء)، ولم يتوقع الرجل أن هذا اللقب سيسبب له في المستقبل العديد من المشاكل غير المتوقعة، وصار من السهولة عند بعض ضيقي الأفق أن يطلقوا عليه أوصافا ليس أقلها أنه (من أرباب النظام السابق).
وجد الوزير الجديد نفسه محاصرا بوكلاء ومدراء عامين فرضتهم عليه المحاصصة السياسية (بينهم مدرس رياضيات وآخر لديه قيد جنائي لضبطه سارقا في التسعينيات), ولما كان الدكتور كريم وحيد قد أعتبر ان هذا التكليف شرفا وطنيا قبل ان يكون معركة أثبات وجود فقد تحمّل بمرارة إشتراطات هذا (الواقع) أملا في خدمة وطنه وتحقيق إنجاز آخر يضمه الى إنجازاته السابقة.
وكان من ضمن الضغوط التي واجهها الوزير قبول طلبات التعيينات تلو التعيينات – التي يبعثها إليه النواب والمتنفذون – لجيش من غير المؤهلين وغير المنتجين الذين أصبحوا عبئا ثقيلا على موازنة الوزارة، بل كانوا أحدى أدوات الفساد الإداري، وعلى سبيل المثال لا الحصر، إخترعت كل جهة وكتلة سياسية نقابة خاصة بها في الوزارة وخصص لكل نقابة مكتب وعدد من المركبات وقطع سلاح وهواتف مجانية لأفرادها العاطلين عن العمل، وأغلبها مدعومة من قبل مكتب رئيس الوزراء لأغراض التسويات السياسية !!، فكانت إحدى تقاطعات الوزير مع قيادة الحكومة!.
ورب سائل يقول (ما الذي يجبر هذا الوزير على تحمل كل ذلك؟ أما كان من الأجدر به أن يعتذر عن هذا المنصب؟).لكن الذي يعرف الدكتور المهندس كريم وحيد سيجد أكثر من جواب على هذا التساؤل، كانت وطنيته هي الغالبة على جُلّ سلوكه، كان يريد أن يمضي بلقبه – كخبير أول – الى النهاية، كان يريد أن يحقق إنجازا لوطنه يفخر به ويحفظه في سجله الشخصي، معتبرا أن كل تلك المنغصات
هي نوع من التحدي ولن تضعف إصراره، ولم يتراجع حتى بعد أن تعرض لعدة محاولات إغتيال له ولعائلته، فقد إستهدف أبناءه في جامعاتهم (ولازال أحد أبنائه يعاني من عوق شديد في جسده، فتوجب عليه إخراج أبنائه من العراق ليوزعهم طلابا للعلم في جامعات الدول المجاورة، فيما سكنت زوجته في العاصمة الأردنية ليبقى هو وحيدا في بغداد.
أصبحت منشآت وزارة الكهرباء وشخص الوزير والخبراء والفنيين هدفا مهما للعصابات الإرهابية، وعلى مدى سنتين (بين العام 2006 والعام 2008) كان منتسبو الكهرباء يعملون وسط ميدان (حربي!)، فأغتيل وأصيب ما يزيد على ألف منتسب بين مستشار ومدير عام وخبير ومهندس وعامل فني وعنصر حماية.
وعلينا ألا نتناسى نقطة غاية في الأهمية، فوسط هذا المناخ الأمني المتدهور سيكون من الصعب بل من المستحيل إقناع أي من الشركات الأجنبية على العمل داخل العراق، لذلك لم تبدأ الوزارة عملها الجدي والملموس إلا في حزيران من العام 2008 .
كان الميدان الثاني الذي على الوزير مواجهة (نيرانه) هو صراع الكتل السياسية ونياتهم المبيتة لإضعاف رأس الحكومة وتفويت الفرصة على تحقيق أي منجز يسجل للحكومة والذي ليس للوزير في هذا الصراع أي ناقة أو جمل، وبرغم ذلك وظّف خبرته الفنية والإدارية ومنذ بداية إستيزاره باستحداث غرفة العقود المركزية باعتماد لوائح وتعليمات دقيقة بإحالة عقود المشاريع حصرا للشركات المصنعة واستبعاد الشركات (النفعية والوسيطة) وهذا ما اضعف تدخل بعض الكتل السياسية وواجهاتها (الاقتصادية)، فكان لهذا الإجراء الشجاع ردة فعل عرضته لهجوم عنيف من قبل هؤلاء، فاستخدموا منابرهم الإعلامية الخاصة وخطبهم الرنانة، إضافة للإستجوابات في مجلس النواب والتي تابعنا سجالها عبر الأجهزة الإعلامية, كل هذا من أجل أرباك عمل الوزير والتشكيك بذمته، لكن الرجل كان كريما في دفاعاته وحيدا في معركته لعدم وجود كتلة سياسية تدعمه أو تدافع عنه أو تدخل في (مساومات) كما هو الحال مع الآخرين !!، ناهيكم عن المعوقات الفنية الرئيسية المتداخلة في العملية الإنتاجية ومنها معضلة توفير الوقود اللازم لتشغيل المحطات الكهربائية، وعدم استثمار الغاز الطبيعي الذي لازال يحرق يوميا بكميات تكفي لتشغيل محطات الكهرباء (1)، يضاف الى ذلك بالتأكيد المعضلة المالية.
لقد تابعنا منذ شهور قليلة عدد من المقالات التي نشرت في موقع (كتابات) وموقع الدكتور كريم وحيد الشخصي، وفيها من الإجابات ما يوفر علينا جهد إعادة الحديث عن ظروف عمل هذه الوزارة والانجازات التي قامت بها والمعوقات والصعوبات
التي واجهتها والتي أخرت إنجاز المشاريع الإستراتيجية التي كان الوزير وحيد قد عرضها على مجلس الوزراء والبرلمان العراقي في حينه.
على أن الجميع قد أدرك اليوم أن تظاهرة الكهرباء (السياسية بإمتياز) التي إفتعلتها إحدى الجهات في صيف عام 2010 في محافظة البصرة لم تحقق أهدافها في تحسين واقع الكهرباء (كما كانت تهدف!)، بل هي كشفت بوضوح عن عمليات إستهداف قطاع الكهرباء وقائده التكنوقراط الذي كان ضحية صراعات سياسية.
لقد وضع الوزير الدكتور كريم وحيد الأسس الرصينة لصناعة الكهرباء العراقية وباشر ببناء مؤسسة كهرباء حديثة اعتمدت فيها التكنولوجيا المتقدمة في المشاريع الجديدة المجهزة من أرقى شركات صناعة الكهرباء في العالم، وكانت ستعطي ثمارها نهاية 2011 ولتنتهي أزمتها نهائيا في العام 2013.
فما الذي حصل بعد إستقالة هذا الوزير التكنوقراط؟
لقد تحوّل هذا القطاع الحيوي الى متراكم من الفوضى والمشاريع العبثية التي تقودها الشركات الوهمية، وتحولت مقرات الوزارة الى (دواوين) للكتل السياسية!، لتنضم بدورها الى قائمة المؤسسات التي تنوء تحت وطأة المحاصصة السياسية والطائفية، وليكون المواطن في النهاية هو الخاسر الأكبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أشارت المرجعية الرشيدة الى ذلك في خطبة الجمعة الأخيرة بتاريخ التاسع من شهر كانون الثاني الحالي من العام الجديد 2015.