هجرة الطيور مستمرة في أسراب طويلة وعلى مديات متفاوتة في الارتفاع . فأوطانها الموسمية حين تهاجرها الى أخرى هي أيضا موسمية . لكنها وبعد انقضاء موسم ترجع إلى ذات المواطن التي هجرتها .
هنالك حنين دافق حنين الى هذه الأوطان ، التي تقضي شتاء بها مليئا بالمفارقات . تقطع آلاف الأميال عبر الجبال والبحار والمسافات . ربما تفقد بعضها في هذه الرحلة العذبة لكنها في نهاية المطاف تبلغ الوطن . حيث الفت تقلبات المناخ ، واعتادت على تعسف البعض وتجاوزه عليها .
– انظر أبي الى هذه العصافير .؟
– لا يا حبيبي إنها الإوز طيور الإوز .. إنها تغادر موطنها الشتوي .
– وهل ترجع العصافير ؟
– ترجع الإوز حين الشتاء القادم .
الطيور تودع المكان بان تطلق أصواتا بين فينة وأخرى ، كأنها تنأى عن الهجرة .؟ لولا الظروف التي تحتم ذلك ،
– متى نرجع .. ؟ عندما نرجع الى البيت أريد ان ارسم سربا من الطيور .
– آمل ذلك يا ولدي ونرسم سربك الجميل هذا معرشا في ربوع الوطن . ليس في أجوائه مغادرا , مودعا الماء السماء الأرض فالوطن .
– وكل الطيور هذه كانت لنا ؟
– اجل يا حبيبي .
– وهذه الأرض أيضا لنا ؟ يطأ الأرض بشئ من القوة , ويده الصغيرة في راحة أبيه المتوترة في حين امتلأ وجهه بشرا
– والسماء أيضا لنا يا صغيري . تنفرج أسارير الأب وهي تنم عن بارقة امل .. تأتي عربة مجنزرة بسرف هائلة من الحديد المفصل على هيئة قطع تتعشق حول محاور ثابتة وكان لطنينها من الهول ما ليس يصم الآذان فحسب إنما ليزعزع الثقة في نفوس الآهلة وينتزع الألفة والسلام . مرقت عليهم لتبتعد فبدت كتلة من الحديد , تركت على الشارع المعبد اثر السرف . يعيق حركة السير ويعزز كراهية الناس . لإرهاصات الخراب والدمار .
تلاشت امامهم والصغير لا يزال مذهولا مما رآه . فكرر السؤال الذي طرحه على أبيه في لجة صرير الآلة المزعج .
– أين يأخذون الحفارة ؟ ولم يحظ بإجابة من والده الذي بدا مغتما .. متألما ..
بلغا مفترق الطرق حيث تجمعت عشرات المجنزرات العسكرية , كانت آليات مزودة بصواريخ ومدافع .
– ابي هل سيحفرون الشاطئ .
– نعم يا بني حتى يكون هناك متسعا للدم الذي سيجري …
– الدم !! تفوه الصغير وعلى وجهه اكثر من علامة تعجب .
تلاشى كل شئ امامهم الان , وانفرط الزمن بسرعة وخيم الليل بعد ان طغى رجع من الهدوء والسكينة .
الطفل الذي يكتشف ما حوله وبكل عفوية مني بها ، يحاول ان يحسب النجوم فتثقل خطاه .
– يكفي الى هنا يا ابي اشعر بالنجوم .. بالـ ـ بالنعاس ، يحمل الأب صغيره إلى صدره ولا زال يتساءل ( هل هذه النجوم لنا ) والطفل محمول الى صدر الاب محاط بجو من الدعة والطمأنينة .
هو يتمنى ان يكون مكان ابنه الآن .. حيث لا يعي قدر المسئولية الملقاة على عاتق ابيه .
هل تبقى شجرة السدر الفارعة والكروم معرشا حول العريشة ، متسلقا تلك المسافة بين السقيفة عبر باحة الدار .
عندما ادرك السوق كان كل ما هناك يشي بالحرب . وان الهجرة باتت حتمية وانه بعد ايام يصبح من العسير عليه الخلاص . اذ لا جدوى من بقائه او عدمه .
تجمعات كبيرة من الجند بلباسهم القتالي ، بينما احتشدت تلك الآليات بما تعكسه لدى عامة الناس من انطباعات قاسية حول معنى الحرب وقدر الدمار الذي سيحل . اذا دقت نواقيس الخطر !. اقترب من محل كان يقصده في شراء حاجيات البيت
– السلام عليكم
– وعليكم السلام كيف الحال . قال صاحب المحل .
– والله اكذب اذا قلت بخير .. ان القضية ليست على ما يرام تماما هذا واقع الحال .. لكن بشرني هل من تطورات جديدة تشي بالخير ولو ببارقة امل .
– لا .. الاخبار ( ابا علي ) جدا متأزمة . أجابه صاحب المحل وعلامات عدم الارتياح مطبوعة في وجهه .وأردف .. بين عشية وضحاها تفنى المدينة عن بكرة ابيها .
– كلامك من مصدر موثوق .
– لا هو لسان حال الشارع انظر ؟ وأومى برأسه تجاه قطعات عسكرية تجحفلت مع بعضها وأصبحت قطعة عسكرية متأهبة لخوض معركة .
– الاخبار جدا لا تبشر بخير .. كرر صاحب المحل ، وكان منشغلا في تصفيف بعض المواد الغذائية . وتحضير حاجيات النزر اليسير من الزبائن كان ابو علي واحدا منهم .
– اذن علينا الرحيل . فاه ابو علي بهذه الجملة وكأنه لم ينتظر جوابا من احد . حيث كان ساهما وبنظرة رثاء تفيض أسى .
– ها , اجل اجل غداً سأبرح المكان بالامس رحلت العائلة ، وبقيت انا وحيدا .
– آمل تصريف هذه الموجودات . أشار الى السلع المصففة على ارفف المحل .
– وهل تستطيع ان تغادر بسهولة . تترك بيتك وما به من أثاث وسلع عرضة للسرقة .. للدمار .
– لا أستطيع البقاء دون عائلتي لكن هنالك من سيبقى .
– ومن هو ذلك الذي سيبقى ؟ قال أبو علي ذلك بطريقة تبعد الشبهات ، حول اهتمامه بالموضوع .
– لا ادري على العموم أنا غدا سأذهب لان البركان الذي ترى دخانه الان .. هو على وشك الثورة .
– اعني هل يستطيع المرء ان يترك وطنه بهذه السهولة .
– عمّ ماذا تتكلم يا أبو علي ..
– لا شئ فقط مسألة الهجرة جدا شائكة بالنسبة لي . ولا استطيع تصورها ولو لبرهة من الزمن . فكيف الحال ، اترك هذا المكان واغادر . ابرح خزانة الذكريات الى أراضي القفر وشوارع المجهول . فلا حمام استحم به بعد اليوم ،أو ارتشف فنجانا من الشاي تؤطرني شجرة السدر بظلالها . هل استطيع ان اهجر بيتي مرة اخرى.
بدا ابو علي منفعلا باشد حالات الحنق . وهو يتكلم وكأن الطفل الذي كان يحمله قد جعله ينأى عن الإشارة والتلويح بيديه مما جعله اكثر تغضنا ومكابدة للالم .. لو فكرت انياً بالمسألة يا ابا نوفل فانك حتما ستذعن للحقيقة . البيت الذي أسعدك اكتماله بعد مشقة وعناء
– أنا أفهمك يا أبا علي واعــ…
– لا تفهمني لا أريد ذلك .. كأنه استعد لشئ ما حين وضع الصغير على الكرسي قربه . وأردف مسترسلا
– اظن بأنك لا تعي معنى الحرب او تقدر حجم الدمار الذي سيحل من جرائها ..
فلم تخلف بيتا بأثاثه وراءك ، أو تفقد عزيزا غاليا . لكن يجب ان تندب حظا عاثرا صيرك إنسانا في هذا الوطن .
– صوتك يا أبا علي ، إذ لا أجيد الخوض في أمور السياسة . قال أبو نوفل وكان يحاول إنهاء البانوراما فيما بينهم .
– الموت الهجرة الفاقة كلها من مسميات الحرب . لقد سبق وان هاجرت لحرب حدثت تاركا كل أشيائي لأبدأ من جديد ..
ولكن ما فائدة الهجرة وارض الوطن كلها نذرت للحرب . اذ لا مناص من هدنة لحرب مؤجلة .. او محادثات تزيد حدة الصراع , وتنمي النزاعات الأيدلوجية بينهم.
– مرة اخرى الى السياسة قال أبو نوفل وهو يتلفت حيث كان كلام ابي علي طارئ جدا بالنسبة إليه .
– الحرب تركت الكثير من الناس الى المدارس والعرصات وبيوت الطين والبردي التي نسجوها على ارض لا تحمي كرامتهم . تصوروا في تلك الأثناء وبرؤية الإنسان الخام من انها نزوة وان الأمور ستسوى في أيام على الاكثر . وان حالة الفوضى التي يعيشونها انذاك .. هي مسألة وقتية ابدا ستنقشع تلك الغمامة في غضون أيام . او اشهر كاقصى ما يمكن . لكنهم نسوا كل شئ ربما تسألني انت لماذا هم نسوا .. لان بشاعة الحرب وما فيها من انتهاكات , والأثر النفسي العميق الذي تخلفه في ذات الإنسان , كان له الدور البارز في ابتعادهم رغم حنينهم الى مراتع الصبا والطفولة .
– ولكن ما باليد حيلة قال أبو نوفل بعد ان كان يصيخ السمع بأيماءة من رأسه او بكلمة نعم مرة ورثاء او تعجب مرة أخرى
– علينا ان نحافظ على أوطاننا يا صاح , ان نتجذر بأطنابها قال أبو علي ذلك ونوبة مرة من البكاء تستحوذ عليه.
ـ اجل علينا ذلك . مواسيا الموقف.
ـ انظر إلى هذه الأطيار المهاجرة بين الحين والآخر تطلق أصواتا حزينة يا ترى ماذا تقول ..
كانت أسراب الإوز المهاجرة الى حيث وطن آخر يسعها .. حين تنأى الأوطان .. ترى هل ترجع مرة اخرى ؟ .
– ها أكيد .. أكيد .. انظر الشمس تغيب وعلي ان اذهب الآن .
كان الطفل الصغير قد استيقظ على وتيرة صوت أبيه ، وانفعالاته في خضم تعامله مع صاحب المحل وقد شاكلته نوبة عميقة من البكاء .. سنعود يا حبيبي الى البيت .
– هل العصافير موجودة . سأل الصغير أبوه بأنفاس غالبها البكاء.
– موجودة وهي بانتظارنا عندما نعود .
كان صاحب المحل قد أغلق أبواب محله ، وطفق يسير بخط يعاكس وجهة سير الأب والابن وكانت مسألة الهجرة التي تحاورا بها … تجتث آخر املا له بالبقاء اكثر من الغد ..
ومع إطلالة الفجر المريرة كانوا قد حزموا أمتعتهم البسيطة التي يسعهم حملها ، بينما كان الصغير يمشي بينهم مشرقا بهيا في ربيع طفولته لم يجد بدا من ان ينهنه الدمعة التي حفرت نهرا جديدا في الغضون المرتسمة من أعباء السنين … يضاف هذا العبء ..
ثلاثة أفراد تركوا منزلهم للتو .. الصغير كأنه في سفر يستنطق الأشياء… الجماد … ولا يفقه من ذلك شيئا .
– أترك كل شيء وأرحل هكذا كان يقول صاحب المتجر عليك الخلاص أما أن تنفذ بجلدك أو …
ارتفعت الشمس قليلاً . ترسل خيوطاً دامية . نظر الى بيته النظرة المعتادة وكأنه هذه المرة أيضاً يريد أن يتأكد من إغلاق الباب ..
– أنها الهجرة عليك أن تمشي تجاه هدف غير مسمى ، ومع خط السير الذي رسمته الطيور المهاجرة كأنها كانت تحثه أن يتبعها أو على الأقل أن يتخذ وجهة سيرها .
أسراب من الأوز مهاجرة الى أوطان ، واناس يهاجرون الى هدف غير مسمى ، وعربات عسكرية أحالت التراب الى ذرات صغيرة في سرفها وتطاولت على شعاع الشمس كاسرة أياه ، وعلى أسفلت الشارع تركت حزوزاً وطفل أبنُ الخامسة كثير الأسئلة مهاجر يمشي وسط أبويه ، في نزهة لاينفك من أن يبادر ويسأل ، أين تذهب طيور الوز هذه .
– طيور الإوز .. الم اقل لك انها تغادر موطنها الشتوي .
– في الشتاء القادم ترجع اليس كذالك يا ابي ؟
– اجل ياحبيبي سنراها معرشة في كل مسطح مائي هو لنا .. وسوف أتسلق العريشة أجني ثمار الكروم الناضجة كما أعتدنا كل عام وأسقي زروعنا الخضراء ، أشذبها وأهتم بها في كل وقت الا توافقونني في هذا – نظر إلى زوجته ثم إلى الرصيف فالشارع الذي ازداد اتساعا وطولا وامتزج سواده مع الليل ، وبدا يلف الكون .صمت،ظلام ،هجرة .انفضت ساعات النهار سنين ثقيلة وتجسد بؤس الشارع في ليله .كان قاتما وهو يرى وطنا حقيقيا يمتطي صهوة أحلامه ، يجره بسلام يشبه ما يوحي به سرب من الإوز أو على الشجر صوت اليمام ، وقد شاكلته نفس الرغبة والحنين ان يرى بيته ولآخر مرة وكأنه أدرك ذلك عندما حانت منه نظرة عصف الوجد كله بها والانكسار .
شباط 2003
ضمن مجموعة المصور وقصص اخرى