قراءة في ( أعمل الآن قرب مقبرة ) لمنذر عبد الحر
أن معطى النظر الى استنطاق تجربة الشاعر الذهنية و الحسية لا كحدث و صورة حصرا ــ بل عملية تحول انتقائية و استثنائية غير محددة وهي تقودنا الى جوهر معرفة معادلة اختيارية ذلك الارتباط الحاسم في شبكة دوال النص و مداليله الذي يؤسسه الشاعر كي يعطي لمدركاته الخلفية و الادواتية ذلك الانفتاح و الإزاحة في وحدة مؤشرات النص العضوية في ابعاده الصورية و الدلالية الداخلية كشكل تأثيري ما في دائرة خطية التعاقب الوصفي و التشكيلي القائم على تأليف الوجه الموضوعي لفكرة الاستنباط المتآتية من حدود أفق علامة انشطارات الوعي و اللاوعي في مضامين الانتقالات التشكيلية التي هي داخل ضرورات الكتابة الزمنية و التي لا يمكن اعتماد صياغتها إلا في حدود تمظهرية الافتراض الاستنطاقي المحتمل في دوال النص .و هذا الامر بدوره يعد معادلا متكاملا في مؤشرات و مقتضيات امكانية تعامل الشاعر الايقونية مع رصيد مخزوناته الداخلية المقترنة بوجه العوالم و الأشياء و الأصوات و الحالات في معنى أختيار القصد الشعري المغيب في مكامن جملة التصور الحسي الحاضر في كتابة ذاتية شعرية التنصيص ..من حدود هذه الاستشرافية المقدماتية من دراسة مقالنا نقف على برقيات مشهد شعرية مجموعة قصائد ( أعمل الآن قري مقبرة )
للشاعر الصديق و الحبيب الأستاذ منذر عبد الحر . و القارىء لنصوص هذه المجموعة سوف يلاحظ جملة الأحساس بمعاني دلالة الأشياء في غيابها الحاضر و في حضورها الحلمي الغائب مع بوحها الشفيف الذاتي وصولا الى نمذجة الإفصاح الناتجة عن خلفيات العلاقة بين صفات الصورة الشعرية و بين فضاء تشكيلها و شروطها و تحولاتها و انعكاساتها و موراوياتها و أحلامها في فضاء احتمالية المدلول و قصدية الدلالة التشكلية في المتن النصي :
راح ما راح من سنين الألم ( قصيدة : همسات)
وذوت نجمة الانتظار
وصار النغم
باقة من أنين
بكف العدم .
يفتح الشاعر منذر عبد الحر صفحة الحواس الناطقة و غير الناطقة في مدارية لغة الزمن عبر مجلى فضاء إبقاء عنصر الوصف بدلالة ( راح ما راح ) وصولا الى مسارية حركة الاحتمالية في فعل الاكتشاف المركون عبر آليات فحوى عتبة الزمن و سؤاله الذي يقود الأشياء نحو علامات مكوناته الحلمية و التشكيلية ( و ذوت نجمة الانتظار / وصار النغم / باقة من أنين / بكف العدم ) في قصيدة و شعرية ( منذر عبد الحر ) هناك عالمان للذات الشاعرة ، أولهما : العالم الغائب المألوف في أجزائه الواسعة و مكوناته اللافتة حضورا . و ثانيهما : العالم الحضوري الذي تهيمن عليه مجموعة الغيابات المحسوسة و الغرائبية في أفق حسية التصدير المتخيل ، ليحتله في الآن نفسه ذلك الفعل المخالف في دلالة بنية
اللاوعي الساكنة في مؤثرات المنظور الاستفهامي و البياضي و الموضعي و الفراغي .فعلى سبيل المثال ، نعاين شأن حبكة هذه الموصولية بين دال ( راح ) و بين دلالة جملة ( سنين الألم ) و بين دال ( ذوت ) و بين جملة دلالة ( نجمة الانتظار)و بين ( و صار النغم ) و بين ( باقة من أنين ) و بين ( بكف العدم ) نلاحظ أن جملة تعريفات دوال الجمل و أفعالها في فضاء دليل أفق الدلالة قد حلت بروح تعريفية نمط الانجاز الانفتاحي السائر ضمنا نحو مصاحبات تنويعة موضوعية ذات أبعاد عصية عن يد معين الملائمة القابعة داخل مؤشرات احتوائية موحدة في الدليل و في تحيينية التمظهر الاستدلالي . و هذا بدوره ما راح يفسر تجربة هذه القصيدة على أنها تحتاط بمعطياتها انطلاقا من عنصر تشكيلي منسحب و حدود قراءة مشهد الحالة الصورية في شكل غيابات و حضورات خطاب النص المشرنقة . أي بمعنى ما تبدو هذه الحالة و كأنها طريقة لا منتمية تضع جملة اشكالها البوحية في نسق طرائق خيالية استثنائية أقرب ما تكون الى حالة خلق منظور تعبيري انشطاري الاسلوب و الجوهر و التيمة و المحتوى .
في المساء الذي أفلت الليل من غرسه
جلس الحب فوق بوح الخراب
و شدا باكيا لصدى أمسه
غير أن الغراب
وهو يفتح نافذة الحرب
جرجر الصبح رأسه
ومضى في الغياب .
القارىء هنا من أمام هذه المقاطع لربما يجد ذاته القارائية منفتحة على إعادة انتاج دلالات مستفيدة بطبيعة الحال من كل أحوال الأفكار و القيم و الآليات التي تقترحها ذاتية الشاعر المغذية لحساسية الصورة الشعرية الفائقة الخصوصية و التي تحتاج الى وعي مضاعف كي يؤول منها مستوى طاقاتها الجمالية في ظل تفعيل التفاعل و التظافر و التداخل بين شبكة الدوال المطروحة في النص وصولا الى إقامة كثافة التحصيل البؤري في الولوج الى شاشة الاندماج الآفاق المتعددة و أفق شرطية مقتضياتها القصدية : ( في المساء الذي أفلت الليل من غرسه ) أننا في دلالة هذه المقطعية نشاهد فضاء المدى التضامني المشترك في النص وهو يحمل لذاته تصدير صيغة تعبيرية ما ذات مستوى مستجيب و حدود كينونة جزء لا يتجزأ من المتن النصي العام من قصيدة ( همسات ) إذ تتكشف الدوال السابقة لنا مع الدلالة اللاحقة وصولا الى تضامنية منظور تشكيلية واحدة في الخطاب الشعري :
( همسات + راح ما راح = سنين الألم = ذوت نجمة الانتظار =وصار النغم = باقة أنين = بكف العدم ) و تبعا لهذا التصدير التتابعي تتمظهر لدينا من جهة ما خلاصة إلتحام عضوية المتن النصي في وجه أغراض القصيدة ، بحيث تتداخل عتبة العنوان مع عتبة حساسية دلالة الرؤية
الحاصلة بين دلالة ( راح ما راح ــ المساء الذي أفلت ) و بين ( سنين الألم ــ و شدا باكيا ) و بين ( نجمة الانتظار ــ جلس الحب ) و بين ( وصار النغم ــ بوح الخراب ) و بين ( باقة من أنين ــ يفتح نافذة للحرب ) و بين ( جرجر الصبح ــ ومضى في الغياب = غياب ــ حضور / حضور ــ غياب ) و يجدر بنا من أفق هذه التصديرات أن نقول أن رؤية الشاعر قد تمت هنا بالاتفاق بين ( الذات الشاعرة ) و بين ( تجربة
الدال) وصولا الى مخطوطة ( فضاء التشكيل ) بعد قلب مرحلة الأسئلة الى جملة تلميحات و تشظيات موغلة في تنصيصات سلطة القصد و الإيحاء المتشكلة في مقاربات دوال القصيدة .
( اللحظات الحاضرة في ظل الغياب الحاضر )
أن الرؤية في شعر الشاعر منذر عبد الحر يصعب القبض عليها و إحضارها حتى في حين وضوح دلالتها و لغتها .. أنا في قولي هذا لربما أقصد شفرات منحى قصيدة الشاعر في جل علاماتها الاختلافية القصوى و على وجه الخصوص في مجال الملائمة و المقاربة و أيقونة الرسم لحالات الأشياء المحتملة . و هذه الأسباب هي ما جعل قصيدة الشاعر تبدو رؤية في صياغة نص غير مباشر .. نصا يحمل صور الأشياء داخل تقاسيم معادلة ( حضور + غياب = حضور غياب ) فالقارىء لبعض قصائد المجموعة يواجه ثمة موضوع غريب من وظيفة ( غياب / حضور ) في النص الشعري و دون وجود نظام ثابت من علاقة غياب ذاتها و الحضور ذاته . فالغياب في دلالة حالات النص نجده أحيانا عبارة عن خواص حاضرية معبئة في تراكيب قابلة للكشف في جدل معنى الغياب و أحيانا أخرى نعثر عليها بنيات منشأة دلالة غيابية خالصة في أيقونة دال مستوى الحضور في فضاء التشكيل حصرا و ليس في معنى تفاعلية قراءة قصدية بنية المكون الحاضري أو الغيابي من زمن دليل الدال نفسه .
في الأرض التي لا تؤوي أحدا ( قصيدة :أعمل الآن قرب
مقبرة )
ثمة أحلام
ثمة قرى هربت من الخرائط
ومنسيون أججو خصبهم
وهم يقضون نهاراتهم بالرحيل
ولياليهم بالتعلق بالنجوم
المعاول ..
التي حفرت أخدودا
أخذت قيلولتها
حين جرى الماء
وهو يرفع إصبعه
ليسكت الخرير
و يسير بالسر الى المقبرة
المعاول ذاتها
جرحت خد الأرض
فسالت منه طوائف
و أضرحة .
لابد من الاشارة في هذا السياق الى أن دلالات هذه المقاطع من وجه غيابات / حضورات تشكل معنى ما و مقصدا يجسد وساطات تركيبية و تشكيلية و بنائية و ضمائرية و شيئية وتوصيفية خاصة . فعلى سبيل المثال نقرأ هذه المقطعية :
( في الأرض التي لا تؤوي أحدا / ثمة أحلام ) فهذه التدفقية الضدية المتشكلة في حدود حيوية ( غياب / حضور ) أخذت تنعكس بذاتها الى آفاق كفاءات تشكيلية الاستجابة الخطية و اللاخطية وصولا الى مقياس تشظيها في التواصل الاقتراحي ، كما هو الحال في شكل هذه الترسيمة ( الأرض التي لا
تؤوي أحدا = غياب = عتبة إحالة عكسية = أفق انغلاق = اللاجدوى ) أما الحال في المدى الدلالي المقابل مع مقطعية
( ثمة أحلام ) فالأمر معها يساوي المساحة الحضورية في دليل ( حضور = اللاحضور ) و يمكننا متابعة باقي المقاطع المنصوصة على هذا الشكل من الدوال و التناسب الإحالي ما بين حضور / غياب أو غياب / حضور . و يتضح الأمر بهذا الشكل الأفتراضي منا ( قرى هربت من الخرائط / قرى =حضور / هربت = غياب / الخرائط = غياب اللاغياب = حضور اللاحضور ) و الكيفية بهذا الشأن تبقى في مجال قراءة شكل المعنى وحده دون دليل ما ، و دون اللجوء الى خاصية الملفوظ المنصوص في يافطة النسق البوحي :
( منسيون = غياب = غياب اللاغياب / أججو = حضور = مرايا اللاحضور / خصبهم = معنى ضدي بين صفة غائب / حاضر ) فثمة حجاجية خاصة هنا في محتوى دال الغياب و الحضور عند الشاعر ، لربما مصدرها الحقيقي هو ماهية المقاصد و ركائز أدوات محايثة الدليل الآخر ، كما الأمر في حال هذه المقطعية ( وهم يقضون = حضور = نهاراتهم =
قياس = مقصد = تشكيل = غياب غير معلن = حضور غير معلن / بالرحيل = مواضعة زمنية = علاقة غياب اللاغياب = أولية عودة = الأبتعاد و التلاقي = غياب التلاقي = حضور الأبتعاد = فضاء = احتمال = نص )
( تعليق القراءة )
مجموعة ( أعمل الآن قرب مقبرة ) للشاعر الحبيب منذر عبد الحر تأتي للقارىء بؤرة مهيمنة على مخطوطة غياب الحضور و حضور الغياب ، كما و تأتي حقيقة بوحية جميلة
تدعمها انفتاحية الخطاب و إزاحة فضاءات الذات الشاعرة المشغولة و الموزعة بين تجربة الدال و فضاء رابطية
التشكيل .
لا أعرف المارة ..
وهم يصطادون بعيونهم طيور صمتي
عرباتهم تئن
وهم يدفعونها الى مصير مجهول
هم أشد عوقا من خيولهم
و أنا ..
أشد التصاقا بخيبتي .
هكذا وجدنا قصائد ( أعمل الآن قرب مقبرة ) للمبدع منذر عبد الحر عبارة عن حالات نفسية و ارهاصات عاطفية تتجه نحو لحظة غياب و حضور علاقات الأشياء في مواقعها الأصلية لتحل في صور شعرية أخذت تجادل مواطن لحظات الشعور القرائي و تشاكس غربة مفردات الواقع و حميمية الأوشاب اليومية المملة في الذات الشاعرة .. أن الشاعر منذر عبد الحر في قصائده هذه راح يشغل مساحة تجربة الذات و نبضها و حسيتها في مخطوطة تجريدية و غير تجريدية و غيابية و غير غيابية و حضورية و غير حضورية .. أنها مرايا شفرات الأشياء العابرة في قصيدة حلمية غياب الأشياء في مرايا حضورها الغائب .