-1-
من سمات الطواغيت في كل عصر ومصر ، مبالغتهم الممجوجة ، في بناء القصور الفخمة، وتبديد المال العام في قنوات إشباع نزواتهم ورغباتهم …
انّهم من عُشّاقُ الترف والبذخ والمظاهر الزائفة واصطناع الأبهة والزخارف …
وهم يجتهدون في إضفاء مظاهر العظمة على كل ما يتصل بهم من قريب او بعيد …!!
وهكذا يسعى مَنْ يشعر (بالنقص) و(الدونية)، الى اختراع ألوان التغطية على تلك العناصر الوضيعة الكامنة في نفسه …
وكبش الفداء دائما ،هم الجياع والبائسون والمستضعفون، الذين تُصادَرُ حقوقهم وأموالهم بلا هوادة، لينعم بها الفراعنة والجبارون …
-2-
ومن أخبث الطغاة واكثرهم جرأةً على الله وعلى القيم والموازين، الدعيُّ بن الدعيّ (عبيد الله بن زياد بن ابيه) .
وقد سارع الى بناء (البيضاء) – وهي دار عمّرها بالبصرة يوم كان واليا عليها –
قالوا :
” انه لما بنى البيضاء ، أمر اصحابه أنْ يستمعوا ما يقول الناس “
لا يكف الطغاة عن تكثيف الجواسيس والعيون لاحصاء أقوال الناس ورصد حركاتهم …
والغرض من ذلك واضح معلوم ، حيث توضع الخطط اللازمة لتصفية المعاررضين والقضاء عليهم .
و(ابن زياد) أمر أنْ ترصد له أقوال الناس في (البيضاء) بوجه خاص ، لأنه على يقين من إسرافه الفظيع … وأراد ان يجعل من هذا الإسراف مجسا للاختبار ، يتحسس من خلاله مقدار سيطرته على الناس …
فلو سكتوا جميعا دون اعتراض، أمكن له أنْ يفهم أنّه قد أخمد الأنفاس بعد أن أرعب الناس .
ولو كثُر اللغط منهم وتعددت الأقاويل والانتقادات ،أمكن له أنْ يفهم أنَّ مشروعه الارهابي قد مُني بالكساح …
يقول التاريخ :
” فجاؤوه برجل ،
فقيل له :
انّ هذا قرأ وهو ينظر اليها – اي الى البيضاء –
قوله تعالى :
{ أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون }
الشعراء / 128 – 129
فقال له :
ما دعاك الى هذا ؟
فقال :
آية من كتاب الله عرضت لي ، فقال :
والله لأعملن بك بالآية الثالثة :
” واذا بطشتم بطشتم جبّارين ” الشعراء /130
ثم أمر فَبنُي عليه ركن من أركان القصر “
وهنا نلاحظ :
1 – إنّ الرجل الذي اقتيد للطاغية ابن زياد ، كان قد جعل الاستشهاد بالقرآن مدخله لبيان الاحتجاج على بناء القصر .
ولقد كان استشهاده بالآيتين الكريمتين بليغا للغاية،
أليست البلاغة (مطابقة مقتضى الحال ) ؟!!
2 – انّ مجرد الاعتراض الكلامي يدفع الطغاة الى إنهاء حياة الأحرار من الناس ، وهذا هو منتهى الظلم والطغيان والاستهانة بالانسانية .
3 – وقد عمد الطاغية (ابن زياد) الى قراءة الآية المباركة التي تلت الآيتين اللتين استشهد بهما الرجل،
انه يحفظ القرآن لفظاً ،ولكنّه يُضيع أحكامه ومفاهيمه ..!!
وهذه هي صفة الأدعياء الذين لا يعبدون إلاّ ذواتهم ، ولكنهم يظهرون على المسرح العام متسترين بستار الدين ..
4 – ان الرجل دفع حياته، ضريبة إنكاره على الطاغية عمله ،وهكذا انضم الى قافلة الشهداء الأحرار الذين طرّزوا طريق المجد والحرية بزاكي الدماء .
5 – انّ الحكّام الذين يستهينون بأرواح الناس وكراماتهم ، انما هم من مدرسة (عبيد الله بن زياد) المبنية على أساس المروق الصريح على أهم ما يحملُه الاسلام من معاني تكريم الانسان ، واعلاء شانه ، وابراز محوريته الفريدة .