سأطرح مشروعا من جانب شخصي، لحل جذري للمعضلة العراقية، واعتقد ان هناك من يشاطرونني نفس الرأي، الا انهم لا يجرأون البوح به، اتوقع ان أتلقى ردود افعال عنيفة، ربما تصل حد الشتائم من بعض المتاجرين بالوطنية، لابأس أنا مدرك لذلك تماما، لأن ليس لهؤلاء حل عملي لما تعانيه الشعوب العراقية منذ عقود، اذ ان كل ما يطرح لعلاج المرض العضال الذي يعاني منه العراق، ما هو الا حلول ترقيعية، او عاطفية، لكنهم لايمسون جوهر الموضوع، خوفا وارتيابا من ردود الافعال المغالية في (الوطنية) كأنما الوطن كحدود مرسومة على خارطة حديثة الترسيم، أهم لديهم من حياة
الانسان، الذي بدونه لا معنى حقيقيا لوجود الوطن (الواحد الموحد!).
حقيقة الامر الذي يعرفه العالمون ببواطن التاريخ، وهم يتغافلون عنه ويحاولون اخفاء تلك الحقيقة التاريخية عن الاجيال الجديدة من العراقيين وهي، انه قبل الحرب العالمية الاولى، ومنذ الاف السنين لم تكن هناك دولة بحدودها المصطنعة الحالية بأسم العراق، بل كانت هناك في الازمنة الغابرة عدة ممالك متناثرة هنا وهناك في البقعة الجغرافية التي تسمى العراق اليوم، ففي الشمال كانت المملكة الاشورية وفي الوسط المملكة البابلية وفي الجنوب المملكة السومرية والاكدية، ولم تكن تربط تلك الممالك بعها بالبعض أية روابط ادارية بل كانت مستقلة بعضها عن بعض
تماما، حتى كانت تجري احيانا حروب وغزوات من أجل التوسع فيما بين تلك الممالك. بعد الغزو الساساني للمملكة البابلية وازالتها عن الوجود اصبحت المملكتان البابلية والسومرية تحت السيطرة الساسانية، بعد ذلك تحولت الساسانية الى الفارسية، واصبح كسرى ملك الفرس حاكما لبلاد فارس وتوابعها ومنها العراق الحالي. بعد الفتح الاسلامي للمنطقة جمعت تلك الكيانات المتناثرة والحقت بالامبراطورية الاسلامية، نرى من خلال العصور الاسلامية جميعا ابتداء من عصر الخلفاء الراشدين ومرورا بالعصرين الاموي والعباسي، لم يعين ولا واليا واحدا من ابناء ما يسمى
العراق الحالي كحاكم على العراق، فكل الولاة كانوا من بلاد الحجاز، اما اثناء الدويلات الصغيرة التي حكمت اجزاء من هذه البقعة (الخروفان، السلاجقة والبويهيين) ثم الامبراطورية العثمانية كلها الحقت العراق الحالي بممالكها وامبراطورياتها ولم يحكم هذه البقعة المسمات بالعراق ولا حاكم واحد ايضا من ابنائها على مر تلك العصور، دلوني ايها السادة عن أية وثيقة تاريخية تثبت انه كانت هناك دولة بحدودها الحالية يحكمها ابنائها المحليين تسمى العراق! بل كان جزء منها يسمى العراق.
بعد انتهاء الحرب الكونية الاولى، عقدت اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة، حيث رسمت خرائط جديدة للمنطقة وتم توزيع ممتلكات الامبراطورية العثمانية الى دويلات تقاسمتها بريطانيا العظمى وفرنسا، وكانت حصة العراق الحالي لبريطانيا، لقد استورد الانكليز ملكا من الحجاز نصبوه على العراق الحالي، كأنما لم يكن يوجد على هذه البقعة التي رسموا حدودها شخص مؤهل لينصب ملكا عليها، وقد جاء في مذكرات الملك المسكين صنيعة الانكليز فيصل، انه لم يجد شعبا حقيقيا في العراق بل وجد قبائل وعشائر وحتى محلات تتقاتل وتتنازع فيما بينها، وهذه هي عين الحقيقة.
نستنتج من كل تلك المعطيات التاريخية، انه لم تكن هناك دولة موحدة لها الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الاولى، تسمى العراق يحكمها حاكم واحد وادراة واحدة من ابنائها، فلماذا هذه المغالات في التغني بوحدة العراق؟ وأين هو العراق في صفحات التاريخ؟.
فمنذ تأسيس ما يسمى بالحكم الوطني (جزافا) في العراق، فشعوب هذه البقعة تتناحر وتتقاتل فيما بينها، ربما يقول البعض ان تلك الصراعات كانت من صنع الحكام، لكن التاريخ يثبت بأن المكونات التي تعيش في العراق بحدوده الجديدة لم تتعايش بصورة حقيقية، لكن تلك الصراعات لم تأخذ طابعها المكشوف الا بعد سقوط آخر الجمهوريات ما بعد الملكية المستوردة، حينما احتل الامريكيون العراق، في نيسان عام 2003 وأزالوا النظام الدكتاتوري البعثي الذي هم جاءوا به عبر انقلابين في 8 شباط 1963 و17 تموز 1968، عند ذاك رفع الغطاء عن ما كان مستورا، بسبب القمع الذي مارسه الحكام
بحق ابناء ما يسمى العراق. بدأ التناحر والخصومات تطفو على السطح، وظهر جليا الانقسام المجتمعي، ووصلت الامور الى حد الاقتتال، على من له الحق في قيادة هذه البلاد، فالشيعة يقولون بأنهم قمعوا واضطهدوا على مر القرون مع انهم اغلبية السكان، باعتراف الجميع، وانهم ورثة أهل بيت الرسول الاكرم، فعليه لهم الحق في زعامة وادارة البلاد، لكنهم مارسوا التعامل بالمثل مع المكون الثاني، في الاقصاء والتهميش وهم السنة، الذين يقولون انهم ورثة الامبراطويات الاسلامية، العربية منها والعثمانية وهم الذين بنوا هذ البلاد فلهم الحق في الاستمرار على زعامة
البلاد، واعادة الامور الى ما كانت عليها قبل سقوط الدكتاتورية، بكل الوسائل حتى الدموية منها، وقد انخرط عدد كبير من ابنائهم في صفوف المنظمات الارهابية ( صرح السيد مسعود البارزاني مؤخرا، ان اكثر من مئتي الف عربي سني من المناطق المتنازع عليها انخرطوا في صفوف تنظيم داعش الارهابي التكفيري) ربما جاء انخراط معظم هؤلاء بسبب المظالم التي تعرضوا لها. اما الكرد فوجدوها فرصة تاريخية لتأسيس دولتهم وهم القومية الكبيرة الوحيدة على وجه الارض منعوا من تأسيس دولة لهم، ويقولون ان معاهدة سايكس بيكو، ومعاهدة لوزان، التي الغت اتفاقية سيفر، التي
نصت بتأسيس دولة كردية لهم، وزعتهم على اربع دول وهي العراق وتركيا وايران وسوريا وذاقوا الامرين على يد العرب والفرس والترك، ولا يريدون ان يبقوا مرة اخرى تحت ظلم تلك الحكومات، في العراق على الاقل في الوقت الراهن بسبب المتغيرات التي حدثت على الارض، بعد احتلال داعش الارهابي لمعظم المناطق المتنازع عليها في 10 حزيران 2014 ( ذكري لاسماء الطوائف لا اقصد بها الشعوب وانما النخب السياسية المتنفذة ذات التوجهات الاثنية والطائفية).
نستخلص فيما تقدم بأن لا حل حقيقي للمعضلة العراقية، لا بالفيدرالية ولا حتى بالكونفدرالية، الحل الحقيقي هو بأعادة رسم الخارطة العراقية من جديد واعادتها كما كانت عليها في العصور القديمة، ذلك بتقسيم العراق الحالي الى ثلاثة دول مستقلة، دولة ذات اغلبية شيعية ودولة ذات اغلبية سنية ودولة ذات اغلبية كردية، واختيار اسماء جديدة لتلك الدول المستقلة، ربما اطلاق اسماء مستنبطة من الاسماء القديمة، كبلاد مابين النهرين على احدى تلك الدولتين وبلاد الرافدين على الدولة الثانية وتبقى كردستان على تسميتها الحالية. سينهض العديد من المتمسكين بهذا
العراق الممزق فعلا ويعدون كلامي هذا كفرا، اقول لهم ان لم يطبق هذا الحل وان لم يبادر اهل العقل والحكمة لتبنيه، بعيدا عن المزايدات، فستبقى الدماء تسيل والاموال تهدر والبنى التحتية تتحطم، وتحرم الشعوب العراقية من ثرواتها. حيث ثبت فعلا ان امكانية التعايش بين هذه المكونات اصبحت مستحيلة. وسيبقى السياسيون المتنفذون من كل جهة الاتكاء على الجيران لتغليبهم على الآخر، وستبقى الصراعات مستديمة الى ما لا نهاية.
عندما يرفع اسم العراق (العظيم الذي الصقه به صدام)، ولا زال البعض يردده كالببغاء، من الخارطة لا تنقلب الدنيا، ولدينا تجارب عديدة في التاريخ القريب، فالاتحاد السوفيتي الذي اصطنع كدلة بعد الثورة الاشتراكية عام 1917، وكنا نردد نحن اليساريون عبارة (العظيم) بعد ذكرنا للدولة السوفيتية، كانت ثاني اكبر دولة في العالم، وتفتت قبل قرابة العقدين ونيف من السنين، واستقلت كل قومية وكونت دولتها، لم تنقلب الدنيا، واعتقد جازما ان مجموعة الدول المستقلة وروسيا، افضل حالا مما كانوا عليه ايام الحكم السوفيتي، وقد استعمل القادة الروس العقل ورضخوا
للامر الواقع ولم يستعملوا القوة لمنع استقلال تلك الشعوب، ولنا مثال سيء على تفتت الدول المصطنعة، وهي التجربة اليوغسلافية، هذه الدولة التي جمعت من عدة اثنيات، لكنها فشلت في الجمع بينهم، وركب الصرب الذين كانوا يشكلون القومية الكبرى رأسهم، استعموا اقسى انواع العنف للحفاظ على هيمنتهم على شعوب يوغسلافيا الاخرى وحدثت اثر ذلك مجازر دموية ذهبت ضحيتها الاف الانفس، وبالتالي تقسمت يوغسلافيا، وهذه الجمهوريات تعيش حاليا بسلام ووئام، وقد ازيلت اسم يوغسلافيا من الخارطة وذهبت تلك الدماء هباءا منثورا.
واهم من يتصور بأن الاستقرار والوئام سيعودان للعراق، بعد الانتهاء من قصة داعش! وهي ستنتهي حتما بسواعد المقاتلين البواسل، كذلك حين تنتفي حاجة من صنعهم اليهم، كما فعلوا بصنائع اخرى في المنطقة، كالنظام الفاشي البعثي الصدامي، وانظمة دكتاتورية صنيعة اخرى، والقيت بتلك الانظمة في مزبلة التاريخ غير مأسوف عليها، بعد تنفيذها لرسالة غير مشرفة في المنطقة.
رغم الظروف العصيبة والمنعطف التاريخي الخطير الذي تمر على هذه البلاد، نرى بأن صيحات التظلم لم تتوقف، وهناك الى الان من يعتبر ما يحدث هو ثورة سنية على الحكم الشيعي، وليس ارهابا، والمشاركين الاخرين في الحكم ما انفكوا يرددون بأنه ان لم يستجاب لمطاليبهم سيعيدون النظر في المشاركة في الحكومة، في مقدمة هذه المطاليب، هو اصدار قانون العفو العام، بصريح العبارة، اخلاء السجون من نزلائها، الابرياء منهم والمذنبين، على حد سواء، والادعاء بان الاعترفات اخذت منهم قسرا، كذلك الغاء قانون المساءلة والعدالة ومطالب اخرى، رغم قناعتي وقناعة كثيرين
غيري، بأن قانون المساءلة وقبلها قانون اجتثاث البعث لم يطبقا بعدالة وانما طبقا بأنتقائية على اسس طائفية واحيانا بطريقة يشوبها الفساد المالي والاداري. من جانب آخر يعد القائمون على السلطة، ان تنفيذ تلك المطاليب هو العودة الى النظام السابق واعادة الاعتبار الى ازلامه، رغم كل الجرائم التي ارتكبوه بحق الشعوب العراقية، وجرهم البلاد الى الويلات والحروب العبثية المدمرة. فمنذ استحداث الكيان العراقي الحالي عام 1921 على يد بريطانيا العظمى، لم تتمكن كل الانظمة التي تولت على دست الحكم من جمع المكونات الرئيسية الثلاث وصهرها في بوتقة الدولة
المستحدثة، بالاخص بعد سقوط الدكتاتورية، حيث اصبحت الهوة اعمق ومن الصعب ردمها، فماذا نصنع اذن؟ هل العودة الى سياسة القمع واستعمال القوة التي اثبت التاريخ بعدم جدواها او الاستمرار في سياسة الصفقات المحاصصاتية الوقتية ما تلبث حتى تنفجر الاوضاع مرة اخرى، اذن بعد ما تقدم ما هو الحل؟.
الحل الامثل هو التقسيم كما اسلفت اعلاه. ربما سائل يسأل، ماذا عن المناطق المخنلطة؟ وهو سؤال وارد، أجيبهم بأن في معظم دول العالم توجد أقليات اثنية وطائفية، تعيش بسلام وأمان، واذا اختلفت الاراء على منهم الاكثرية في هي المنطقة او تلك يتم الاعتماد على سجلات الاحوال المدنية، قبل يوم واحد من سقوط النظام بالنسبة للسكان العرب من كلا الطائفتين، حتى لا يقال ان تغييرا ديموغرافيا حدث بعد التغيير، اما بالنسبة للكرد، فتطبيق المادة 140 من الدستور، ذلك بأجراء تطبيع واحصاء واستفتاء في المناطق المتنازع عليها. كل تلك الامور يتم تطبيقها برعاية
الامم المتحدة، والزام الدول الجديدة باحترام حقوق الاقليات ومساواتهم بالحقوق والواجبات مع اكثرية السكان حسب المواثيق الدولية، وتطبيق عقوبات مشددة على اية حكومة تخرق تلك الاتفاقيات، ليكون رادعا لها عن أية ممارسات مناهضة لحقوق الانسان.
حين ذاك سيناضل سكان كل دولة من هذه الدول، من أجل ضمان حقها في التمتع بحرياتها وحياة كريمة لها، بمختلف الطرق، وسوف لا يتذرع الحكام بأن هذه التحركات الجماهيرية هي من صنع الطائفة او القومية او الدين الفلاني، لأن الحكام من نفس فئة المجتمع.
لا ادعي بأن الامور ستكون على ما نتمناه من تعايش سلمي بين هذه الدول المستحدثة بين ليلة وضحاها، وانما ستعود العلاقات الى مجرها الطبيعي بمرور الزمن، ربما بعد عقد من السنين، اما اذا استمر الوضع المأساوي على ما نحن عليه، فلا سلام ولاوئام لعقود طويلة من السنين، وسيحدث التقسيم حتما بعد انهار من الدماء.
ليكن شعارنا: دم وحياة الانسان أقدس واسمى من خارطة الاوطان.