تعتبر الهيئة التشريعية في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية هي السلطة الرسمية العليا وهي التي تعيّن المسؤولين في السلطة التنفيذية، باعتبار أن أعضاء هذه الهيئة هم نوّاب اختارهم الشعب في انتخابات حرّة نزيهة .
لكنها في العراق (الديمقراطي) تحمل مدلولات مختلفة، لاسيما وأن هذا المنصب قد استغل بصورة أو بأخرى من قبل بعض الأحزاب والتيارات السياسية كي يكون غطاءا لعدد من عمليات الفساد المالي والممارسات الطائفية البشعة.
كانت التجربة البرلمانية الوليدة بعد الإحتلال الأمريكي بدائية ومتعثرة لاعتبارات تتعلق بغياب الإرث الديمقراطي وانعدام التجربة منذ بداية العهد الجمهوري، وكان بالإمكان أن تعمل القوى السياسية التي تصدرت المشهد في النظام الجديد على تطوير هذه التجربة وإنضاجها، لكن ما حدث كان مختلفا، فحسب التقسيمة الطائفية الأمريكية – الإيرانية أصبح البرلمان من حصة العرب السنة؛ بدون أي اعتبارات أو سياقات واضحة تتعلق بحجمهم الديموغرافي أو مكانتهم وخبراتهم السابقة في إدارة الدولة، وبالتالي اعتبر رئيس مجلس النواب ممثلا للعرب السنة، وجرى تسويق هذه الصورة من قبل الأحزاب الشيعية الطائفية، ليتم تحويله إلى خصم ابتداءً ، بدل أن يكون حكما ومصدرا للتشريعات المختلفة ومراقبة عمل مؤسسات الدولة، فأصبح هذا المنصب مصدرا للصراع والسجالات السياسية.
وبعد تجربة (الجمعية الوطنية) القصيرة والتي تولى حاجم الحسني رئاستها؛ أصبح محمود المشهداني رئيسا للبرلمان، وكان اختياره قد تم في أجواء سادها الإحتقان السياسي والاحتراب الطائفي، وتم تقديمه من قبل وسائل الإعلام الموالية للسلطة على أنه الممثل الأبرز للعرب السنة في الحكومة الجديدة .
لكن مسار العمل البرلماني في عهده قد تعرض لانتقادات جوهرية حول طريقة إدارته للجلسات، ومحاولاته التقرب من بعض الجهات المتنفذة على حساب من انتخبوه، وتصريحاته المثيرة للجدل، فتمت إقالته من منصبه في 2009 واختير أياد السامرائي بديلا عنه إلى نهاية الدورة البرلمانية، وفي عهد السامرائي القصير تم استجواب وزير التجارة الأسبق عبد الفلاح السوداني من قبل لجنة النزاهة البرلمانية وتم إصدار أمر قبض قضائي بحقه هو وعدد من أشقائه ومساعديه، ليفر بعدها للخارج.
أما أسامة النجيفي والذي تولى رئاسة البرلمان فيما بين 2010 و2014 فقد عزز حظوظه في هذا المنصب كونه الممثل الأبرز لمحافظة نينوى وهي ثاني أكبر محافظة في العراق من حيث الكثافة السكانية، إضافة إلى مكانة أسرته في الموصل، وعلاقاته الوثيقة بعدد من الأطراف العربية والإقليمية، لكن هذه الفترة تعد الأسوأ من حيث الصراعات التي تمت تحت قبة المجلس، والصدامات المتتالية بالسلطة التنفيذية، وعدم رضوخ رئيس الوزراء السابق نوري المالكي لطلبات استدعائه واستضافته، أو مساءلة ضباطه ومسؤوليه، بالإضافة إلى تفريغ القوانين التي شرعت من محتواها، لاسيما قانون العفو العام والذي لم ير النور بسبب تعنّت رئيس الوزراء وولاء قطاعات واسعة له في القضاء والأجهزة الأمنية، وكانت النتيجة هي مزيد من الإعتقالات للأبرياء وفق قانون المخبر السري سيىء الصيت، واستمرار ابتزاز أهالي المعتقلين ومساومتهم على حريّة ابنائهم بمبالغ طائلة، لتأتي بعدها أحداث الموصل.
وفي قراءة سريعة لعمل مجلس النواب منذ بدايته نلاحظ أنه كان باستمرار دون سقف طموح المواطن؛ الذي كان يحلم بأن يكون البرلمان معبرا حقيقيا عنه وعن احتياجاته وتطلعاته، وأن يسهم في تشريع قوانين البناء والإعمار والتنمية ومحاسبة الفاسدين والضرب على أيديهم، لكنه عوضا عن ذلك انشغل بمماحكات الكتل السياسية، وكان أضعف من أن يحاسب رئيس السلطة التنفيذية الذي بلغ من الطغيان مبلغا لم يستطع معه أحد أن يقف بوجهه أو أن يمنعه من ارتكاب مزيد من الجرائم والحماقات.
أما الآن وقد استشرفنا دورة برلمانية جديدة، فلا يفيد البكاء على اللبن المسكوب، ولا على ما ضاع من أعمار العراقيين ودمائهم وعرقهم في تجارب برلمانية بائسة وفاشلة، إذ لا بد من التخطيط السليم للمستقبل كي لا نعيد تكرار نفس الخطايا التي وقعنا بها وكلفتنا الكثير، حتى بتنا على شفير الهاوية وحافة الكارثة.
ولعل أبرز ما ينبغي على السلطة التشريعية أن تقوم به في الدورة الجديدة هي أن تكون حارسا أمينا للحريات العامة، وأن تكون سيفا مسلطا على كل من يريد تجيير الدولة ووضعها في جيبه الخلفي كما فعل سيىء الذكر المالكي، كما أن المراقبة الحازمة والجادة للسلطة التنفيذية ورأسها لا بد أن تكون عنوان المرحلة القادمة، وألا يكون هناك تهاون مع من يضرب بالإرادة الشعبية عرض الحائط تحت دعاوى (سيادة القانون ) .
ينتظر العراقيون الكثير من مجلس النواب الجديد، وعلى رأس ذلك قانون العفو العام الذي عطّل بدعاوى واهية جدا، حتى أصبحت السجون والمعتقلات العلنية والسرية تغص بالأبرياء والوطنيين ممن كانوا ضحايا للمخبر السري، أو ممن رفضوا الخضوع لإرادة حاكم طاغية مستبد، ولا بد أن يكون التعويض المادي والمعنوي لمن اعتقلوا ظلما من أولى أولويات السلطة التشريعية الجديدة، إذ يكفي ما عاشوه من فقدان لنعمة الحرية وسوء العذاب والإهمال.
كما ينتظر العراقيون أن يسهم النواب الجدد في وضع خارطة للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية التي يعيش العراق في أتونها، ووضع تصورات لبناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، ومحاسبة سرّاق المال العام والمفسدين، والضرب بيد من حديد على القتلة والطائفيين مهما كانت انتماءاتهم.
بالإضافة إلى ذلك، لا بد من تشريع قوانين صارمة لحماية المعتقدات الدينية للعراقيين ومعاقبة المتعدين عليها بأقصى العقوبات، لا سيما سب الصحابة وأمهات المؤمنين، والذي أصبح سلعة رائجة لدى الأحزاب والتيارات المتطرفة المنسلخة من دينها وتاريخها.
وتبقى الأمنيات كثيرة والآمال واسعة بحدوث تغيير حقيقي في المشهد السياسي، بكل ما عرف عن رئيس مجلس النواب سليم الجبوري من جدية وأمانة والتزام بالقانون، رغم ما تعرض له من حرب سياسية وإعلامية في السابق.
ورغم أن تشكيلة مجلس النواب الحالية لا تعكس الحجم الحقيقي للمكونات العراقية، بعد ما قام به أزلام المالكي من تزوير مفضوح وممنهج لنتائج الإنتخابات، لاسيما في مناطق حزام بغداد وديالى وبعض المناطق الأخرى، إلا ان المسؤولية الملقاة على عواتق من وصلوا إلى قبة البرلمان تبقى كبيرة وجسيمة، فليكونوا لها أهلا وليقدموا كل جهدهم ووقتهم لنصرة جمهورهم .