عندما ولد نبي الله عيسى ابن مريم (ع) ، المسيح الذي انتظره اليهود طويلا والذي تنبأت به الانبياء منذ موسى وحتى معاصره يحيى ابن زكريا ( يوحنا المعمدان ) الذي كان يكرز في برية اليهودية مبشراً ومنذراً باقتراب ملكوت الله ، كانت الأمة اليهودية تعيش أسوأ حالاتها منقسمة بين ثلاث طوائف دينية رئيسة هم كل من ( الفريسيين والصدوقيين والكَتَبَة) وهؤلاء كانوا الممثلين الرسميين للسلطة الدينية وممثلو هذه الطوائف شكلوا الغالبية العظمى من أعضاء السنهدريم ( المجمع الأعلى لرؤساء الشعب اليهودي) ، وقد مثل الفريسيون ( كلمة من أصل آرامي بمعنى المنعزل ) طبقة الكهنة ورجال الدين المنعزلين باعتبارهم طبقة عليا وهم من المتشددين المتمسكين بحرفية تعاليم التوراة وبشكل جامد الى درجة أوصلتهم الى تقديس الشكل وإهمال المضمون فغابت روحانية الإيمان من طقوسهم وغلب عليهم الرياء وطلب الجاه والسمعة ، اما الصدوقيون فقد مثلوا طبقة النخبة الأرستقراطية الدينية والذين اهتموا بالشأن السياسي وتعاطوا مع الاحتلال الروماني ببراغماتية واختلفوا عن الفريسيين برؤية (حداثوية) للدين أنكروا معها البعث والنشور والملائكة وطوروا عقيدة تتلائم وسلوكياتهم المصلحية ، ومثل الكَتَبَة طبقة مدرسي الشريعة (طبقة العلمائية) وهم ذوو نفوذ قوي ومنهم المفتون ومفسروا التوراة والشريعة الموسوية وتربطهم علاقات قوية مع الفريسيين لكنهم مثلهم غلب عليهم الرياء وغابت روحانية الإيمان من تعاليمهم..
هذه الطبقات وأسلافهم مثلوا خط المحاربة لكل محاولات الإصلاح التي جاء بها الأنبياء في بني اسرائيل ، والتي كثيراً ما تنتهي بتصفية المصلح او تكذيبه وهي السنة التي ذكرها القران الكريم في وصفهم ( كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون) وكان اخر الضحايا هو يحيى الذي ندد بفساد هم وانحرافهم وأضلالهم الناس فتآمروا عليه ليلقى في سجن هيرودس الروماني ويلقى حتفه بعد سنة مقتولا )
كانت مهمة السيد المسيح الرئيسية هي تحقيق الإصلاح الداخلي في الأمة الإسرائيلية وإعادة الروح الى الدين الذي حوله هؤلاء الى طقوس شكلية وابتعدوا عن غاياته ومراميه ولم يهتموا بإدخال الناس في ملكوت الله بقدر اهتمامهم بمصالحهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، جاء المسيح ثائرا ليوقظ أمته من هذه القيادات الفاسدة المنحرفة المتغطية بالدين ، ربما لا يوافق هذا الكلام تلك الصورة النمطية المسالمة التي يرسمها الفكر المسيحي لعيسى ابن مريم ، لكن النصوص التاريخية تؤكد ان المسيح جاء ثائرا وخاض جدالات عنيفة مع هؤلاء المنحرفين وقتلة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، ووصفهم بالأفاعي اولاد الأفاعي ، وحذر الناس من أكل طعامهم ثم أوضح انه ليس عن الخبز نهاهم بل عن الطعام الفكري المسموم الذي يطعمه إياهم هؤلاء الأفاعي اولاد الأفاعي !
شجاعة المسيح الثائر كانت خارقة وهو يتحدى أقوى سلطات أمته التي تمتلك القاعدة الجماهيرية الواسعة والنفوذ والإمكانات والسلطة الدينية التي تمكنهم من قتل نبي بفتوى ( محاربة سلطة الله في الارض !)
انظر اليه في هذا النص كيف يوبخ ويعري هؤلاء بكل قوة ويفضحهم امام أنفسهم وإمام الناس : (على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون. فإنهم يحزمون أحمالاً ثقبلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحرّكوها بإصبعهم. وكل أعمالهم يعملونها لكي ينظرهم الناس. فيعرضون عصائبهم ويعظّمون أهداب ثيابهم. ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع. والتحيات في الأسواق وأن يدعوهم الناس سيدي سيد.. لكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدّام الناس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلة تطيلون صلواتكم. لذلك تأخذون دينونة أعظم. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تطوفون البحر لتكسبوا دخيلاً واحداً. ومتى حصل تصنعونه ابناً لجهنم أكثر منكم مضاعفاً.. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشّرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعلموا هذه ولا تتركوا تلك. أيها القادة العميان الذين يصفعون عن البعوضة ويبلعون الجمل… ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبوراً مبيّضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم أيضاً من خارج تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحوون رياءً وإثماً. أيها الحيّات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم” (متى 23). من اجل ذلك اتحد هؤلاء رغم خلافاتهم العميقة ضد هذا الثائر وقرروا التخلص منه بعنوان كونه خطرا على الأمة اليهودية المخدوعة
لقد اشتمل هذا البيان العيسوي العظيم على مضامين عميقة جدا لا مجال لبيانها في هذه السطور لخصت حقيقة الدين والرسالة السماوية الإلهية التي حملها جميع الأنبياء وحرفها اصحاب المصالح والغايات ، ففي كل زمان هناك فريسيون وصدوقيون وكتبة ، من روحانيين مزيفين وطلبة علم همهم الدنيا وسياسيون دينيون يبيعون عنوانهم الديني عند أدنى مصلحة ، عندها يبرز دور الإصلاح الحقيقي لا المزيف القائم على منابذة المفسدين وتحرير الجماهير من طعامهم المسموم كدور رسالي على طريق الأنبياء والرسل لا سيما أولي العزم منهم كعيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا,