22 نوفمبر، 2024 11:20 م
Search
Close this search box.

بين الثرى والثريا

بين الثرى والثريا

يكاد يكون عنوان المقال هو الأكثر دقة وواقعية في وصف مشهد المقارنة بين التجربتين التونسية والعراقية بعد سقوط نظامي زين العابدين بن علي على أثر انتفاضة شعبية عام 2011 وصدام حسين عقب الغزو الأجنبي للعراق عام 2003 ، لقد كانت تونس البلد العربي الوحيد الناجي من المصير المأساوي الذي آلت اليه بلدان الربيع العربي فقدمت نموذجا راقيا في التعددية السياسية وقبول الرأي الأخر والتداول السلمي للسلطة والذي توج مؤخرا بفوز حزب نداء تونس في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة .

يمكن لأي متتبع للمشهد السياسي التونسي منذ اندلاع الثورة لغاية اليوم أن يدرك جيدا بأن فوز زعيم ومؤسس حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي بالانتخابات الرئاسية لم يكن سوى تنفيذا لعقوبة قررها سلفا الشارع التونسي بحق الرئيس محمد المنصف المرزوقي حليف حركة النهضة ومرشحها الغير معلن كما عاقب الشعب ذات الحركة في الانتخابات البرلمانية مانحا ثقته لنداء تونس أيضا في الشهر الماضي ، فلماذا حصل ذلك ؟ ولماذا غضب الناخب التونسي على النهضة وحلفائها لهذا الحد ؟ وما الذي ارتكبته الحركة الاسلامية من أخطاء أوصلتها للقطيعة التامة مع غالبية الشعب التونسي ؟

مبدئيا تعتبر حركة النهضة أكثر الحركات الاسلامية وسطية والتزاما بالنهج الديمقراطي التعددي والعمل المدني وأقربها الى الليبرالية سواء قبل السلطة عندما أقرت بالدستور التونسي ومجلة الاحوال الشخصية المثيرة للجدل أوائل عهد بن علي أو بعد الثورة ووصولها لسدة السلطة وباستثناء محاولاتها الخجولة الفاشلة أثناء كتابة الدستور لم تسعى في خطوة ذكية وواعية الى أسلمة الدولة والمجتمع وقبلت بدستور علماني لمعرفتها بطبيعة المجتمع وشكل الدولة في تونس ووقفت مع الجيش والقوى الأمنية في مواجهة الارهاب التكفيري ولم يعرف عنها تشكيل ميليشيات مسلحة ولم تتورط في قضايا الفساد ورغم ذلك فان غالبية التونسيين لم تكن راضية عن

اداء الحركة الاسلامية وهو ماجعلهم يتخذون قرار اسقاطها من خلال صناديق الاقتراع وتمكنوا من اعادتها الى صفوف المعارضة ، ومرد ذلك لمجرد اهمالها (نعم مجرد الاهمال) في مواجهة انتشار حمى الفكر التكفيري الذي أطلق سراح معتنقيه من سجون النظام عقب الثورة وراح ينشر أفكاره السامة في المجتمع ويقوم بتجنيد الشباب وارسالهم للقتال في سوريا ومبايعة تنظيم الدولة الاسلامية بل وصل الأمر الى حد اغتيال المعارضين السياسيين القياديين في الجبهة الشعبية شكري بلعيد ومحمد البراهمي و التمرد على الدولة التونسية واستهداف الجيش والقوى الأمنية في أحداث جبل الشعانبي تحت أنظار الحكومة والتي انحصرردها بقطع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق !!! على أثر ذلك كانت عقوبة الشعب التونسي للنهضة وحلفائها في الترويكا (حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يتزعمه الرئيس المرزوقي وحزب التكتل الديمقراطي الذي يتزعمه مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي) عاجلة وجماعية وتم بالفعل اسقاط حكمها بشكل ديموقراطي والتي فشلت اضافة الى ماسبق ذكره بتحقيق أهداف الثورة في تحقيق التنمية والاستقرار والعدالة الاجتماعية.

عراقيا تبدوا أسباب الغضب الشعبي التونسي على حركة النهضة وحلفائها أقرب الى الترف السياسي وتافهة الى حد ما (بالمنظور العراقي طبعا) فاتهامات الاهمال والتهاون واغتيال معارضين أثنين فقط وعدم تحقيق أهداف الثورة تبدو بسيطة وسهلة بالنسبة لتعقيدات المشهد السياسي العراقي ، والفرق شاسع جدا بين الاداء السياسي لحركة النهضة الاسلامية ونظرائها الاسلاميين في العراق سنة وشيعة والذين غرقوا حتى النخاع في الارهاب وتشكيل الميليشيات المسلحة وتأسيس مافيات الفساد الحزبية التي هيمنت على مفاصل الدولة والعمل على زرع الطائفية بين أبناء البلد الواحد والدخول في محاور اقليمية مزقت هذا الوطن بسبب جعله ساحة لتصفية الحسابات الخارجية ، ولعل الطائفية ومن خلال اللعب على الوتر المذهبي والمتاجرة بالمظالمم القديمة واستعادة الخلافات التاريخية واعادة ترويجها تحديدا هي ما مكنتهم من تخدير الشارع العراقي وجعله يصوت للاحزاب الدينية مرة تلو الأخرى في حركة تنويم مغناطيسي تستحق الدراسة تحصل في كل مناسبة انتخابية ثم يعود الناخبون بعد ذلك للتنديد بتصرفات هذه الأحزاب وانتقاد نهجها الفاشل في ادارة شئون البلاد !!! لتكون حصيلة حكم التيار الاسلامي للعراق مريره طوال عقد من الزمن فقد وصل البلد الى حافة التقسيم وسيطرت الجماعات الراديكالية المتطرفة على أراضيه ونهب الساسة ثرواته واغتيلت أحلام شعبه بالديموقراطية والحرية والأمان والاستقرار ودفع مئات الألاف من شبابه أرواحهم نتيجة موجات الارهاب الطائفي الأعمى المدعوم من الخارج تاركين ورائهم الأف الأرامل والأيتام فيما نزح الملايين من العراقيين داخل وخارج وطنهم .

يمكن القول بأنه لا مجال للمقارنة فعلا بين التجربتين العراقية والتونسية ومآلاتهما ولكن معرفة سر هذا الفرق الشاسع والسعي الى ترميم الفجوة بيننا وبين دولة عربية شقيقة لاشرقية ولاغربية هو أقل واجب ويمكن تلخيص سر هذه الهوة العميقة بين الحالتين بكلمتين هي المجتمع المدني.

يضم المجتمع المدني مجموعة من المنظمات الحقوقية ومؤسسات العمل الخيري والنقابات العمالية والمهنية ونوادي القضاة والاتحادات الطلابية والجمعيات الفلاحية والأدبية والعلمية والأقتصادية وروابط التشجيع الرياضية ووسائل الاعلام الخاصة وتكون ميزتها الأساسية استقلالها عن الحكومة وتهدف الى مراقبة الاداء الحكومي وتشكيل رأي عام ضاغط على الجهات الرسمية في حالة حصول انحراف أو تجاوز لغرض تقويم السياسات ، وتجسد هذه الجهات مجتمعة الهوية الثقافية والوطنية والانسانية وبها ومن خلالها تتعزز هذه الهويات ، هذا المجتمع تحديدا كان هو سر قوة تونس ورائد نهضتها وقبلها مصر فقد وقف سد منيعا في وجه محاولات أخونة الدولة وطمس معالم الهوية الوطنية ، وهذا مانفتقده تماما في العراق فقد أدت عقود الاستبداد السياسي والشمولية وهيمنة الولاءات العشائرية والمناطقية على المجتمع و الطائفية السياسية ناهيك عن غياب الطابع الديموقراطي في مؤسسات الدولة والمجتمع وانقراض الطبقة الوسطى وهي العمود الفقري لنهضة البلدان الى انعدام أي بنية تنظيمية للمجتمع المدني في العراق حيث ربطت المنظمات والاتحادات والجمعيات والنقابات بالحزب الحاكم مما قضى على مهنيتها واستقلالها وأفرغها من مضمونها بينما كان الاعلام موجها في اتجاه واحد وهو ما أدى الى ضعف مناعة الجسد العراقي في مواجهة الدعوات الطائفية التي أنتشرت بعد الاحتلال من كل حدب وصوب وبالتالي وصول الأمر الى ماهو عليه الآن .

كما ترتب على انعدام دور المجتمع المدني وجود أزمة هوية حقيقية لازالت تعصف بنا منذ عام 1921 الى يومنا هذا فالعراق من البلدان القلائل حول العالم الذي ليس لديه رمز وطني وأب روحي واحد يقدره ويحترمه الجميع كما ليس له يوم وطني متفق عليه ولا حتى علم يوحد جميع العراقيين !!! فقد اختلفت هذه الأمور السيادية باختلاف طبيعة النظام الحاكم وهو مايعد ترجمة عملية لمفهوم أزمة الهوية العميقة التي نعيشها ، لقد كانت هوية الدولة العراقية وباقي الدول العربية قومية عند التأسيس كرد فعل على مظلومية العرب نتيجة قرون الهيمنة العثمانية العنصرية على العراق و العالم العربي واستمرت قومية الدولة حتى الاحتلال الامريكي عام 2003 ورغم كون العرب يشكلون 80% من الشعب العراقي لكن الأيدولوجية القومية ظلت عاجزة عن توحيد الصف الوطني العراقي بسبب الفشل في حل المشكلة الكردية وعدم قدرتها على كسب ود الشيعة المتهمين بالشعوبية وترتب على ذلك فشلها وسقوطها رسميا على يد قوات الغزو الأمريكي وبالتالي استحالة القبول بها من جديد ثم جاء الاحتلال الذي عمل على تأسيس دولة مكونات بهويات طائفية وعرقية ممافتح الباب على مصراعيه لاثارة النزاعات الطائفية واحياء النعرات العرقية والتدخلات الخارجية مع وجود هامشي لمنظمات المجتمع المدني وهيمنة وسائل الاعلام الحزبية والطائفية وهو ما أدى الى تغول الأحزاب والحركات الدينية وهيمنتها على المجتمع والدولة لعدم وجود فكرة وطنية حقيقية وراسخة مضادة كما كان الأمر في مصر وتونس .

ان الدعوة الى تغيير الوجوه واستبدال حكومة بأخرى هو حل غير مجدي مع بقاء ذات السياسات واستمرار حالة السبات الشعبي ، هذه المعادلة لن تتغير الا ببناء مجتمع مدني حقيقي وتفعيل دور منظماته وجمعياته في

توعية المواطن على أساس برنامج وطني عراقي وبمشروع وهوية وطنية عراقية بحتة عابرة للقوميات والطوائف ترفع شعار الأمة العراقية لتشكيل لوبي ضاغط على الحكومة ومراقب لادائها وترسيخ مبدأ مدنية الدولة والمجتمع في العراق لان المدنية هي الطريق الرئيسي للوطنية الحقيقية والتي تمثل بدورها طوق النجاة للدولة العراقية وما تونس ومن قبلها مصر والتي لعبت قوى ومنظمات المجتمع المدني فيهما دورا كبيرا في الحفاظ على هوية الدولة وانقاذ المجتمع الا خير دليل على صحة مافي هذه السطور.

أحدث المقالات