في ليبيا كانت سياسة نظام القذافي في بدئها، خليطاً من الإشتراكية الناصرية والتشريع الإسلامي حيث أطلق في بدء الثورة جملة قوانين، ألغى فيها حوانيت الخمور والدعارة، وألغى النظام الملكي ومنح نفسه رتبة عقيد وأصبح رئيس مجلس قيادة الثورة للجمهورية العربية الليبية، حتى العام 1977 لتتحول الجمهورية إلى جماهيرية عظمى ويتحول هو إلى الأخ القائد، وليستبدل الدستور الملكي الليبي الذي سن في العام 1952 بالكتاب الأخضر الذي صاغ من خلاله نظريته العالمية الثالثة والتي كانت مزيجاً غرائبياً من أفكار طوباوية تجمع بين المثالية والإشتراكية والقومية، حاول من خلالها أن يلغي مفهوم الدولة المؤسساتية التي تقوم على الفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة فابتدع ماسماه هو ( سلطة الشعب )، والتي تقوم على فكرة (المؤتمرات الشعبية)، والتي يلخصها القذافي: المؤتمرات الشعبية هي الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية، إن أي نظام حكم خلاف لهذا الأسلوب، أسلوب المؤتمرات الشعبية هو نظام حكم غير ديمقراطي، إن كافة أنظمة الحكم السائدة الآن ليست ديمقراطية ما لم تهتد لهذا الأسلوب، المؤتمرات الشعبية هي آخر المطاف لحركة الشعوب نحو الديمقراطية، المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية هي الثمرة النهائية لكفاح الشعوب من أجل الديمقراطية.1 واستعاض عن الحياة النيابية والديمقراطية بسلطة الشعب من خلال المؤتمرات الشعبية ولجانها العامة والثورية، ليفرض سيطرته على سدة الحكم، وكان العامل الإقتصادي بما حققه تصدير النفط من وفرة مالية للخزينة الليبية بالإضافة إلى العوامل السياسة التي كانت شخصية القذافي المركبة جزء حيوي من صناعتها وبلورتها، في المحيط الإقليمي الأفريقي حيث قدم نفسه وكأنه الأخ الأكبر، الراعي لجمهوريات وممالك أفريقيا الجائعة، قد ساهمت إلى حد بعيد في أن يتحول القذافي بقيادته للسلطة إلى مايشبه الإله المقدس، الذي على الآخرين تقديسه وتحاشي غضبه، ولقد عبر عن ذلك نجله وخليفته سيف الإسلام القذافي في أول ظهور له بعد ثورة 17 فبراير 2011 حين حين خاطب الثائرين على النظام : أما قبول القذافي كجزء من الحل أو اختفاء ليبيا من الخارطة العالمية بفعل ما ينتظرها من حرب أهلية، وكأنه تنبأ بهذه النهاية الكارثية التي ستغدو عليها ليبيا بعد 42 سنة من حكم استبدادي قمعي، لم يكن للشعب فيه أي دور حيوي.
في 25 كانون الأول 1975 انتفض طلاب الجامعات بعد الإنتخابات الطلابية التي جرت حينها والتي رفضها النظام بقوة، ونكل بمن قاموا بها واعتقل قياداتها واتهمهم بانهم عملاء للأجنبي على حد قوله في خطابات له في كانون الثاني 1976 مع استمرار الحملات المناهظة لحكمه، لينهيها باعلان قيام الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية، وليحكم البلاد بقبضة من حديد ونار استمرت لأكثر من أربعة عقود بعد أن كمم صوت الشارع الحقيقي الذي لو أنه سمح له بممارسة دوره الحقيق لما جرى ما جرى عليه وعلى ليبيا.
في تونس والتي كانت خاضعة للإستعمار الفرنسي منذ معاهدة باردو 1830 والتي تحوّلت بموجبها تونس إلى محمية فرنسية، حتى مارس 1956 حين حصلت تونس على استقلالها بموجب اتفاق باريس بين فرنسا وتونس، لتنهي مرحلة من الاستعمار الفرنسي لتونس استمرت 75 عام، تلتها أول انتخابات ديمقراطية لتشكيل أول مجلس قومي تأسيسي فاز به الحزب الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة، الذي قاد حملة كبيرة للنهوض في تونس وإحداث ثورة اجتماعية واقتصادية وثقافية، في مجالات الحقوق الشخصية والمدنية ودعم القطاعات الصناعية والمصرفية، والنهوض بالتعليم وربط الجامعات والمدارس الإسلامية بوزارة التعليم، التي تديرها الدولة، ثم قام في العام 1957 بإلغاء النظام الملكي وانتخب كأول رئيس للجمهوية التونسية وبعدها بسنتين أصدر أول دستور جمهوري للبلاد، وجرت انتخابات رئاسية فاز فيها الرئيس بورقيبة لمدة رئاسية لخمس سنوات ليعود بعد نهاية تلك الفترة الرئاسية ليعدل الدستور وينصب نفسه رئيساً مدى الحياة في العام 1975.
سياسياً وعلى المستوى المحلي حدثت المجابهة لأول مرة مع الحزب الشيوعي، حيث حظر تنظيم الحزب الشيوعي التونسي بعد المحاولة الإنقلابية الأولى التي جرت ضد حكم الرئيس بورقيبة في كانون الأول 1962 واتهم بالمشاركة فيها، وكان الإتحاد التونسي العام للشغل يشكل الدعامة الاساسية التي التفت حولها قطاعات مهمة من الشعب التونسي الذي كان يرأسه حين ذاك الحبيب عاشور والذي تأسس في بداية الأربعينيات من القرن الماضي وخلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ورغم قرب الإتحاد من مؤسسة الحكم إلا أن ذلك لم يمنع التصادم الذي حصل في بداية عام 1978 في أول أضراب عام يقوده الإتحاد ومعه كل النقابات العمالية التونسية وطلاب الجامعات والتي جوبهت بطريقة عنيفة من قبل الميليشيات الحكومية وأجهزة الأمن حيث اعتقل جميع قيادات الإتحاد بمن فيهم رئيس الإتحاد الحبيب عاشور نفسه وسقط المئات من المواطنين والمتظاهرين والمحتجين المطالبين بحقوقهم وحل قيادة الإتحاد وعين بدل عنها قيادة جديدة تابعة للحكومة.
في مقابل التوجه العلماني الذي كانت تسير به تونس وكما كان مٌخطط لها من الرئيس بورقيبة، كان هناك أيضاً اتجاه ديني إسلامي آخر يعمل بالسر وهو عبارة عن تجمع إسلامي سمي بحركة (الإتجاه الإسلامي)، بقيادة تلميذ الناشط والمفكرالإخواني المصري سيد قطب وهو الشيخ راشد الغنوشي، ولقد نشطت هذه الحركة في أوساط الجامعات والمساجد، ومع بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بدء نشاط الحركة يظهر إلى العلن مع تدهور الأزمات الإقتصادية التي شهدتها تونس ودعت الحركة إلى عدة تظاهرات شعبية، على خلفية الأزمات الإقتصادية كان أشهرها تظاهرات أزمة الخبز في العام 1984 والتي حدثت فيها المصادمات العنيفة مع السلطة، واعتقل على إثرها الشيخ راشد الغنوشي، وكان الغنوشي يرى بأن فرصة الإسلام السياسي أصبحت قابلة للتحقيق مع نضج التجربة الإسلامية في مقابل فشل مشروع السلطة : لا يحتاج الاسلاميون للقيام بانقلابات على الدول القائمة لتحويلها دولاً إسلامية فهي دول إسلامية سواء أكان من جهة أن غالبية سكانها مسلمون، أم كان من جهة دساتيرها فكلها تقريبا تنص على أنها دول ليست علمانية معادية للإسلام أو محايدة إزاءه، بل لها دين هو الإسلام وقد تشرح ذلك بأن الشريعة الإسلامية، المصدر الوحيد أو الرئيسي للتشريع وهو شرح مترتب على أصل الاعتراف، بأن للدولة ديناً هو الإسلام، وإذن فما يحتاج الإسلاميون إلا لتفعيل
هذه الحقيقة حتى تمتد آثار هذا الجذع في كل فروع هذه الدولة، ولا تظل مجرد شعار خاو وضربا من النفاق.2
مع وصول زين العابدين بن علي إلى رئاسة الدولة، بعد انقلابه على رئيسه الحبيب بورقيبة في نوفمبر 1987 وهو الرجل الذي عرف عنه اطلاعه المباشر على كل الملفات السرية للدولة التونسية، بحكم شغله للمناصب الأمنية والتي كان أهمها وزارة الداخلية، ورئاسة الوزراء، ولقد حدث الصدام بوقت مبكر بين الدولة والحركة الإسلامية، بعد اتهامها بمحاولة اغتيال الرئيس بن علي، واعتقلت بعض قيادات الحركة وصدر حكم الإعدام غيابياً ضد الشيخ رائد الغنوشي بعد فراره إلى الجزائر، بعدها غيّرت الحركة إسمها إلى(حركة النهضة)، ودخلت حركة النهضة بعد اتساع رقعة نشاطها ومؤيديها في الأوساط التونسية، في صراع مرير مع السلطة منذ بداية التسعينيات، وكانت معظم كوادرها تتعرض للملاحقة والإعتقال والقتل والتعرض لشتى صنوف التعذيب، على خلفية نشاطاتها الدعوية المعرضة للنظام.
في الجزائر كان حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري، هو الواجهة التي انضوت تحتها كل التيارات السياسية، في فترة الصراع مع الإستعمار الفرنسي، وبعد الإستقلال أحكمت الجبهة قبضتها على مفاصل الدولة الجزائرية، بعد انتخاب عباس فرحات رئيساً للدولة وأحمد بن بِلّا رئيساً للوزاء، وفي العام 1967 برز الرئيس هواري بومدين في الواجهة بعد قيادته انقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب بن بِلا، الذي انتخب في العام 1963 لمدة 5 سنوات وفي عهد بومدين تمت المصادقة على الميثاق الوطني، وعلى مسودة الدستور الثاني، وإجراء الإنتخابات المحلية في ظل سلطة الحزب الواحد، في العام 1989 صدر الدستور الجديد للبلاد في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي خلف هواري بو مدين في قيادة الجزائر، والذي أقرّ التعددية الحزبية، فظهر حزب جبهة الإنقاذ الوطني الإسلامي، بقيادة عباس مدني وعلي بلحاج، وكانت الجبهة في بداية تأسيسها عبارة عن خليط متعدد، من التيارات الإسلامية الدعوية التي كانت تتشكل في الجامعات والمساجد، وتعود بمرجعيتها إلى التنظيم العالمي للإخوان المسالمين، وكان أول ظهور لهذه الجماعة من خلال النداء الذي تبناه مجموعة من العلماء في نوفمبر 1982 ووجه إلى الحكومة الجزائرية بضرورة تبني المشروع الإسلامي في إدارة الدولة، ثم تأسست رابطة الدعوة الإسلامية في العام 1989 بقيادة الشيخ أحمد سحنون ليتم بعدها الإعلان الرسمي عن (الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، في شباط 1989 وتدخل الإنتخابات البلدية، وتحقق نتائج ساحقة على حساب الحزب الحاكم في انتخابات 1989 التي دعى إليها الرئيس الشاذلي بن جديد، وكانت النتائج بمثابة الصدمة للحزب الحاكم الذي شعر متأخراً بردائة الأوضاع التي قادت الجماهير إلى انتخاب والإلتفاف حول التنظيم الإسلامي الجديد، وكانت الجبهة الإسلامية بما طرحته من برامج انتخابية البديل الواقعي الذي كان تسعى إليه شريحة كبيرة من الشعب الجزائري، الذي كان يتوق إلى الخروج من أزماته الإقتصادية والإجتماعية الخانقة، بالإضافة إلى غياب العدالة وانتشار البطالة، وهنا يشير الشيخ عباس مدني مؤسس (الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، إلى الأسباب التي دعته إلى تأسيس الجبهة: أنا لم أكن ضد الأحزاب، ضد تكوين الاحزاب، الذين كانوا ضد تكوين الأحزاب هم
إخواننا أولا الشيخ محفوظ رحمه الله، الشيخ محمفوظ نحناح، والشيخ عبدالله جاب الله وآخرون، هؤلاء بعدما تأسست الجبهة أظهروا أنهم ضد فكرة تكوين الاحزاب، اما أنا ياأخي منذ أن حدثت أحداث أكتوبر 1988 في نفس الأيام تلك زارني الشيخ علي بن حاج حفظه الله صحبة الشيخ الهاشمي سحنوني، وكنت ساعتها قادماً من سفر بعيد، أخبروني بما هو حادث في العاصمة، إن الشعب الجزائري، المصلون هنا، أن المصلين هنا هرعوا إلى المساجد وهم يطالبوننا أن نفعل شيئاً، ياشيخ اتيناك لتعطينا رأيك فيما ينبغي فعله في مثل هذه الظروف، فقلت لهم إذا الأمر كذلك فلنكوّن إن شاءالله الجبهة الإسلامية للإنقاذ وهكذا كان الأمر3.
تعرضت قيادات الجبهة وكوادرها، إلى الكثير من المضايقات والإعتقالات، شملت حتى قياداتها التأسيسية حيث تم اعتقال عباس مدني وعلي بن حاج، على خلفية موجة الإحتجاجات التي انتشرت بعد إعلان الإضراب العام المفتوح، الذي دعت إليه في حزيران 1991 وفي الإنتخابات التشريعية التي جرت في ذلك العام، حققت الجبهة فوزاً آخر، حيث وصلت نسبتها إلى 82% داخل قبة البرلمان، وكان من نتائج ذلك الفوز هو الخطر القادم الذي أحسّ به الحزب الحاكم، بعد سحب البساط من تحت قدميه، فأقدمت القيادة العسكرية على قيادة انقلاب عسكري ضد الرئيس الشاذلي بن جديد، وأعلنت قراراً بإلغاء نتائج الإنتخابات وأعلنت الأحكام العرفية، وشنت حملة اعتقالات واسعة ضد كوادر الجبهة وقياداتها فتأسس إثر ذلك ( الجيش الإسلامي للإنقاذ)، الجناح العسكري لجبهة الإنقاذ، والذي اعتبر الحكومة وكل من يعمل في مؤسساتها الأمنية والعسكرية أهداف معادية ويجب قتلهم، وكانت تلك البداية الخطيرة التي مهدت لظهور ما عرف( بالعشرية السوداء)، بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف 1992 والتي استمرت لعشر سنوات، منذ العام 1992 وكلفت الجزائر مئات الألوف من الأرواح والخسائر الإقتصادية، والبنى التحتية في تلك المواجهة العسكرية والأمنية الساخنة، بين الدولة والجبهة الإسلامية للإنقاذ.