17 نوفمبر، 2024 10:44 م
Search
Close this search box.

اقليم البصرة بين الوهم والواقعية

اقليم البصرة بين الوهم والواقعية

علينا جميعا ان نعترف اولا ان (ادارة مدينة البصرة)  لم تكن في اي يوم من الأيام منذ نشوئها حتى اليوم إدارة عادلة او متمكنة لضمان حقوق مواطنيها.

لم يكن بمقدور هذا المواطن أن يكون سيد قراراته في ظل الانظمة المختلفة التي تعاقبت عليه وعلى مصيره . كانت المناسبات التي مرت على البصرة من دون ضغوط واضطهاد نادرة جداً، محدودة جداً.

 المجتمع البصري في الحاضر والماضي ظل مجتمعا مقهوراً لم يعرف الحظوظ ولا الخطوط التي رسمتها جمهورية افلاطون، ولا التي رسمها سان  سيمون في ادارة الدولة ..كان السبب في ذلك هم اصحاب السلطة السياسية ،الشرعية منها وغير الشرعية ، من المحتلين الأجانب أو من أهل البصرة ذاتها.

الحقيقة التي يجب التذكير بها أن البصرة واجهت حالة من المطالبة بشكل من اشكال (الاستقلالية) في زمان سابق لم تكن فيه (افكار الفيدرالية) و(الحكم الذاتي) و(ثقافة اللامركزية) و(مصطلح الاقليم)  قد انتشرت ،بعدُ،  داخل الحركة السياسية او الاجتماعية في البصرة و العراق. كان ذلك عام  1921 .

في 13 حزيران من ذلك العام ، أي قبل قدوم الملك فيصل الأول وتتويجه، تقدمت مجموعة من وجهاء البصرة وقادتها في تلك الفترة بطلب خاص إلى السلطة البريطانية المحتلة ، موقع من قبل:  (طه السلمان، وعبد الرزاق النعمة ،وعلي الزهير، واغا جعفر، والشيخ ابراهيم الزبيري، وسليمان الغماس، وعبد السيد العويد، وكباشي السعد، واحمد الصانع، وعبد اللطيف المنديل، وعبود الملاك، وسليمان الزهير ، ويوسف عبد الاحد عن المسيحيين ويعقوب نواح عن اليهود ). هذه المجموعة من قادة البصرة في تلك الفترة وجدت ان استقلال مدينتهم عن المركز في بغداد هو نوع من الترسانة القانونية التي تضمن تطور مدينتهم تطوراً حراً سريعاً بافتراض تقاربهم مع السلطات البريطانية (العسكرية – السياسية)  المسيطرة على كل العراق ، أنداك،  املين انهم اذا ما حصلوا على ترخيص بريطاني بهذا النوع من الاستقلالية وتحويل البصرة الى (ولاية) متكافئة الصلاحيات مع (الولاية العراقية المركزية) في بغداد. بهذا التكافؤ يمكن للبصرة، من وجهة نظرهم، أن تضمن لنفسها حالة من التقدم في جميع المجالات.

 فقد جاء بعريضة وجهاء البصرة المقدمة الى السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق ما يلي:

1 – (من المعلوم جيدا  ان الميزات الخاصة بالبصرة كانت سببا في تباينها منذ اعوام عديدة عن الاراضي العراقية الواقعة شمالها وهي التي سيطلق عليها فيما بعد اسم العراق الى هذه الاعتبارات – ولما كانت البصرة بحسب موقعها الطبيعي ثغرا تتبادل فيه التجارة الدولية لذلك أمـّها منذ اعوام عديدة عدد ليس بالقليل من  ابناء العرب وغيرهم من الاجانب ولا يزال عددهم ينمو نموا متواليا والمرجح ان يزداد ازديادا عظيما جدا في المستقبل القريب وقد كان من دوام الاختلاط بالشعوب الاجنبية تأثير على اهل البصرة ذهب بهم الى الاعتقاد بأن تقدمهم سيكون مخالفا في نوعه وسرعته لتقدم العراق).  انظر صفحة 308 من مذكرات سليمان فيضي – دار الساقي 1998 .

2 –  (رجاؤنا هو أن تصير مقاطعة البصرة مقاطعة منفصلة تحت اشراف أمير العراق او اي حاكم ينتخبه اهالي  العراق وتكون هذه الرابطة بين البصرة والعراق وحدة يطلق عليها اسم ولايتي العراق والبصرة المتحدتين ). نفس المصدر السابق.

3 – (يكون للبصرة مجلس تشريعي منتخب خاص بها يكون لهذا المجلس السلطة التامة في التشريع المختص بالشؤون المحلية المحضة ولحاكم الولايتين المتحدتين الحق في رفض او طلب تعديل اي تشريع يمس بمصالح اهل العراق). نفس المصدر السابق ص 309 .

هذه ثلاثة مطالب رئيسية  من مجموع 23 مطلبا  تناولت فيها عددا من القضايا الادارية والضريبية والدفاعية وردت في عريضة حملت نوعا من التلميح الصريح الى ضرورة تمتع مقاطعة البصرة بـ(الحكم الذاتي).

لكن هذه المطالب لم تجد لها مؤيدين من كل وجهاء البصرة فقد وجد البعض منهم ان مفهوم استقلالية البصرة كما ورد في العريضة هو مفهوم معقد الى حد بعيد في الظروف التي تمر على البصرة والعراق ومنطقة الشرق الاوسط كلها . لذلك اعلنوا عن معارضتهم لهذه العريضة، التي لا تطابق الواقع ، وبالتالي فأنها ليست في صالح اهالي البصرة لا اداريا ولا مدنيا ولا قانونيا ولا سياسيا . كان المعارضون لهذا المشروع كل من : (محمد زكي، عبد العزيز المطير، عمر فوزي، محمد امين باش اعيان، الحاج احمد حمدي الملا حسين) ، علما بأن احد القادة الانكليز الذي كان يقف الى جانب المطالبين بالاستقلالية قد هدد المعرضين بالاعتقال بسبب موقفهم هذا .

 

يمكن للقارئ الكريم النظر الى عريضة مجموعة عام 1921 المطالبة باستقلالية مدينة البصرة، المتحدة مع العراق من الناحية الجوهرية ،وليس الشكلية، مقارنة مع المطالبة عام 2014 بـ(إقليم البصرة) من حيث الاعتماد على الظروف الخاصة لمدينة البصرة، ومن حيث الوضع القانوني لهذه المطالب، ومن حيث الحرية والعدالة كأداتين لتحقيق التقدم والتطور. في كلا الحالين يجد المواطنون نوعا من الجدل والحوار بين مجموعة من (الافراد) و(المجتمع) ، بين مجموعة مسئولين في محافظة البصرة والحكومة المركزية والبرلمان العراقي.

في الوقت الحاضر كان بعض اهالي البصرة ، من الحكام والبرلمانيين،  منذ عام  2003 وما قبله حتى اليوم،  يعتقدون ان الدولة العراقية تنقسم الى قسمين: (أعلى) و(أدنى)..  الأعلى هم الحاكمون في بغداد ، والأدنى هم الحاكمون في مجلس محافظة البصرة . أما غالبية اهل البصرة فقد  ظلوا يعيشون في مجتمع اشد تخلفا من جميع المجتمعات في المحافظات  العراقية كافة ، رغم ان البصريين ينتجون ، كل عام،  نفطا من اراضيهم يموّل 90 بالمائة من الميزانية العراقية العمومية. احيانا يخالجهم شعور المتعة بهذا المقدار من الإنتاج باعتبارهم  أصحاب الأرض الأغنى في بلاد الرافدين، خاصة بعد تدهور الثروة الزراعية بهبوط انتاجية محاصيل النخيل هبوطا مريعاً ، خصوصاً منذ عام 1980   . في غالب الاحيان يخالجهم أيضاً   شعور سلبي محبط حين يدركون  بأنهم مضطهدون ومستغلون الى الحد الاقصى ، حتى في ظل نظام ديمقراطي معلن بنى نفسه بعد سقوط النظام الدكتاتوري – القمعي – الاستغلالي في نيسان عام 2003.

الواقع المأساوي الذي يعيشه اهالي مدينة البصرة جعلهم يلقون لومهم ليس فقط على (حكام الفوق) في بغداد، بل على (حكام التحت) في محافظة البصرة ،ايضا ، وهم في هذا اللوم محقون تماما لأن حكام الفوق والتحت خلال السنوات العشرة الاخيرة  كانوا مهتمين بشهواتهم المادية ،الذاتية ، بعد ان تملكت اغلبهم نزوات غير طبيعية انهكوا بها اقتصاديات المدينة  بمشاريع وهمية أو ثانوية، وفرطوا بمصالح الناس، خاصة الناس الفقراء  مهملين بذات الوقت اي بناء للقوى الاقتصادية التحتانية الهادفة الى رفع مستوى معيشة المواطنين. أهدرت بذلك مليارات الدولارات بأبواب من المصروفات الخلفية والامامية واضاعت بالتالي جميع امال الجماهير الشعبية.

من دون شك ، كان هناك في البصرة قليل من الحاكمين مخلصين لوطنهم العراق.  يريدون للبصرة التقدم ولأهاليها العيش الكريم. كانوا قد ركبوا خلال عشر سنوات سفينة اصلاح ما افسده دهر نظام صدام حسين، لكن السفينة حملت اشرعة حزبية عديدة ، متصارعة ومتنافسة ومتناقضة،  في طقس بلا رياح فسيطر كثير من الفاسدين على أموالها واعمالها في سبيل تحقيق اهدافهم الشريرة لمزاولة نهب المال العام  بمهارة وبأساليب متقنة من دون اي ضمير او احساس بالمصلحة العامة كما هو الحال في جميع محافظات العراق .

انشأت في مدينة البصرة خلال  السنين العشرة الاخيرة  شهوات شلّة من الفاسدين في نهب المال العام وايقاف سطوة القانون  وانتشار النزوات لدى المسيطرين على دفة الامور من الرأسماليين الجدد ، المتخفين وراء الدين الحنيف بشعارات الاسلام السياسي، الذين سرعان ما امتلكوا ملايين ومليارات من الدولارات حوّلوها إلى حساباتهم في البنوك الأجنبية . يقابل هذه الظاهرة على النطاق الجماهيري مظاهر أخرى:

1-    نشوء (سخط  جماهيري شديد) على تقصير الحكومة المحلية في (مدينة) البصرة وعلى نطاق جميع الاقضية والنواحي.

2-    نشوء حالات من (التشنج) الجماهيري الشديد بسبب انعدام معظم  الخدمات، وعدم تطوير مؤسسات الخدمة الاجتماعية والاقتصادية ،وهدر المال العام، وارتفاع نسب البطالة،  وخضوع دوائر المحافظة لمصالح الرأسماليين التجاريين والمقاولين .

3-    بسبب (السخط) و(التشنج) نتج عنهما (توتر شديد) في العلاقة بين (الجماهير) و(الحكومة ) مصحوباً بأنواع مختلفة من المظاهرات والإضرابات والاعتصامات المحدودة،  كانت قادرة على التعبير الجماهيري المناهض لمواقف  وخطط الحكومة المحلية الفاشلة والفاسدة، لكنه ظل تعبيراً لا يسمعه أحد ، لا في حكومة بغداد ولا في حكومة البصرة، ولا حتى من المطالبين بالتحول إلى إقليم، من مثل وائل عبد اللطيف و خلف عبد الصمد اللذين كانا بوظيفة (محافظ البصرة) لفترة من الزمن.   

من الطبيعي ان (السخط) و(التشنج) و(التوتر) يجعل الناس بالنتيجة يائسين من الحصول على حقوقهم أو تلبية مطالبهم في العيش الكريم،  خاصة وانهم يرون بأم اعينهم تصاعد حالات الفساد المالي الى جانب التدهور المتسارع في توقف المؤسسات العامة عن تقديم الخدمات اليومية المطلوبة على يد الطبقة الرأسمالية الجديدة المتسلطة على رقاب الناس الفقراء . لا همّ لدى أغلب الحاكمين في المدينة، المنكوبة بالفقر والجهل والمرض، غير اصطياد الفرص التي تزيد من ثرائهم.

 بعض التشكيلات الوظيفية في محافظة البصرة المتكونة من بعض اعضاء مجلس المحافظة ومعهم بعض اعضاء مجلس النواب كانوا قد بلوروا قيماً قانونية معينة من قيم الدستور العراقي الجديد   فاطلقوا عام 2008 – 2009  موضوع تحويل (محافظة) البصرة الى (اقليم) ظناً منهم ان تحويل العناوين يكفي لتغيير حال الناس.  لكنهم لم يدركوا أن مجرد تلفظ او سماع كلمة (اقليم) لا تضع البصرة على طريق التطور من دون  تطوير الشخصية الانسانية والثقافية لأهالي البصرة عموما ، ولقادة محافظتها خصوصا.  فمن دون إخلاص وطني عال المستوى للإنسان القيادي ، الحاكم والبرلماني ، يبقى أمل تطوير حياة سكان البصرة مجرد خيال او سوء استعمال لخيال بعض قادة المحافظة، الذين يدعون هذه الايام، من جديد،  على الشاشات التلفزيونية الى تحويل (محافظة) البصرة الى (اقليم) ظنا منهم ان بإمكانهم تقليد تجربة (اقليم كردستان) التي تطورت تدريجيا عبر تاريخ كفاحي طويل خاضه الشعب الكردي بوسائل سلمية تارة وبالسلاح ضد الدكتاتورية ، تارة اخرى. لم يكن تحديث إدارة  اقليم كردستان عملية استنباطية مجردة وليست مسألة اشتقاقية مجردة،  بل هي نتيجة ظاهرة حياة نتجت عن وعي الانسان الكردي، القومي والسياسي،  الذي عومل طيلة تاريخ ما يسمى بالحكم الوطني في العراق منذ عام 1921 حتى عام  1991 بمواقف العنف والإهمال والقهر من الحكومة المركزية ، حتى كانت انتفاضة الشعب العراقي في آذار عام 1991  قد اجتازت بثوريتها حدود الغموض فيها وفي اسبابها .أصبح التصور الشائع لدى المواطنين الكرد كلهم ان ساعة الخلاص من دكتاتورية نظام صدام حسين قد حلت وقد كانت ماكنة الامم المتحدة والولايات المتحدة تعمل بتأثير منقطع النظير من اجل المساعدة في تحرير شعب كردستان العراق من ظلم الدكتاتورية، صانعة مجازر حلبجة والانفال واعطي ناتج الانتفاضة  لكردستان واقعاً إدارياً جديداً تحت اسم (اقليم) .

لا بد من الاشارة اولا الى ان كلمة (اقليم) قد دخلت إلى القاموس السياسي والقانوني العراقي حديثاً. كذلك لا بد من الإشارة إلى أن كلمة (إقليم) هي ليست كلمة عربية أصيلة وليست مرتبطة بمعاني الديمقراطية ،  بل هي معربة عن اللغة اليونانية عن كلمة ( KLIMA  ) ذات الدلالة المناخية حيث قسّم العلماء العالم الى اقليم استوائي واقليمين معتدلين واقليمين قطبيين. وقد دخلت هذه الكلمة في ما بعد الى مجالات اخرى منها اقتصادية وسياسية .كلمة معربة من الكلمة اليونانية klima ذات الدلالة المناخيةكلمة معربة من الكلمة اليونانية klima ذات الدلالة المناخية

بعض البرلمانيين البصريين  بقيادة القاضي وائل عبد الطيف حاولوا قبل سنوات نفخ عنوان البصرة من (محافظة) الى ا(إقليم) ثم جاءت اخيرا مجموعة اخرى بقيادة محمد الطائي وجواد البزوني  بمخيلة ان تبديل العنوان هو تطوير للتطبيق الديمقراطي استنادا الى بعض مواد الدستور العراقي، التي اجازت موضوعية التحول من محافظة الى اقليم في مجرى التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وصولا الى حالة معينة من ذلك التطور يصبح بحاجة فعلية الى تصحيح جوهري لمساره اللاحق بالتوجه الى بناء (اقليم البصرة)، الذي يتطابق ، حينئذ ،  مع رغبات الناس ومع متطلبات العيش الافضل وفق ملامح سياسية محددة عقلانيا .

هذه الدعوة وغيرها في محافظات اخرى لم تكن استجابة واقعية في تطور المجتمع العراقي تتيح الاندماج مع جوهر الحياة  الديمقراطية . لكنها طرحت وتطرح بناء على تطلعات بعض قادة الاسلام السياسي لتحويل البصرة  من (مدينة – محافظة) الى (مدينة – اقليم) وربما يعتقدون ان مدينتهم لا تتطور ولا تتقدم إلا إذا حملوا القاباً جديدة (رئيس الاقليم، ووزير الاقليم، وبرلمان الإقليم ، ومستشار الاقليم، وحمايات مسئولي الإقليم ) وغير ذلك من المناصب والألقاب ، مما يزيد في التكاليف المرهقة للميزانية السنوية . الدعوة إلى الاسراع في تشكيل اقليم البصرة  لا تعتمد الا على  استدراج بسطاء الناس بثقافة تحويل العنوان من (محافظة) إلى (إقليم) بينما اصحاب الدعوة انفسهم لم يستطيعوا خلال عشر سنوات من وجودهم في حكومة البصرة أو في عضوية البرلمان تقديم أي منجز اجتماعي أو عمراني أو اقتصادي غير تبذير مليارات الدولارات في اعمال ليست في صالح جماهير الفقراء وهم غالبية سكان البصرة. مثال ذلك تبذير مليار دولار لتشييد ملعب البصرة الدولي، الذي ظل وسوف يظل عاطلا عن العمل تنهشه الاوساخ من الداخل وتعذبه الامطار من الخارج.

 لمعلومات القارئ البصري الكريم اقول له انني اعيش الان في مدينة صغيرة تعود بلديتها الى محافظة لاهاي في المملكة الهولندية ، التي هي في عداد الدول الاقل ثروة من العراق، لكنها الاكثر ثراء في معيشة السكان . منطقة سكني الحالي صغيرة.  أصغر بمساحتها وبتعداد سكانها من حي المعقل بالبصرة،  لكنها اجمل من اي حي من احياء البصرة وبغداد والقاهرة وبيروت ودبي. تحيط بها انهار وبحيرات اصطناعية من كل جانب ومكان . تتوفر فيها الخدمات الصحية والثقافية والمدارس وغيرها من الاسواق (المولات) المتكاملة والنوادي الرياضية والمسابح . خطط وأيادي وإرادة الهولنديين حولتها الى مدينة متطورة يعيش سكانها متمتعين بالراحة والكرامة التامتين. كلما ننتخب نحن سكانها مجلسا بلديا جديدا تتطور اكثر ،بسرعة اكثر. يعيش فيها سكانها من مختلف الطبقات . تجد وزيراً بيته يقابل  بيت عامل البلدية البسيط. يعيش المواطن الهولندي البسيط  بقرب اكثر الشخصيات البرلمانية الهولندية تهديدا من قبل قوى الاسلام المتطرف في هولندا وأوربا من دون حماية، لا من جيش ولا من شرطة لأنه محمي مثل باقي ابناء الشعب. البلدية خصصت لكل مواطن من ذوي الاحتياجات الخاصة سيارة تحت الطلب مستعدة لنقله  مجانا لأي مكان يشاء في هولندا كما خصصت البلدية سيارة اخرى له  لانتقالاته كافة داخل حدود مدينة لاهاي وهي متاحة في كل قرية ومدينة ومحافظة . الطبيب يزور مريضه العاجز في البيت حال حاجته إليه. سيارة الاسعاف تصل الى بيت من يطلبها خلال عشرة دقائق إذا ما استدعاها أي مريض  . العاطل عن العمل يستلم شهريا راتب الحد الادنى الى حين حصوله على فرصة عمل جديدة . كل هذا ولا احد يطالب بتحويل هذه المدينة الى محافظة او اقليم لأن الشخص الهولندي المسئول في البلدية والدولة يجسد واجباته اليومية في التطبيق التام لمهماته على ضوء الابحاث والدراسات والاموال المتاحة التي تحتاجها المدينة وفقا لأولويات تطويرها سنويا .

 من الصور المثالية في (نظم الادارة اللامركزية)  و(الاداء العالي) للمسئول الحكومي اريد التأكيد ان الحاكم في (محافظة) او (قضاء) او (ناحية) يذهب الى الوهم حين يريد تكبير حجم مسئولية المسئولين عن ادارة  المحافظة وتغييرها الى اقليم ، وتغيير القضاء الى محافظة ، وتغيير الناحية الى قضاء. أنهم يعتقدون بأن بعض نجاحات البناء والتعمير في كردستان مرده وجود عنوان الاقليم وليس لوجود ممارسة ديمقراطية أوسع من ديمقراطية البصرة . كردستان العراق لا تخلو لا من حالات الفقر ولا من حالات الفساد ولا من حالات ” وجود الفضائيين ” في اجهزة الدولة وحتى في البيشمركة كما صرحت للصحافة ، يوم أمس، النائبة شيرين رضا عن التحالف الكردستاني، لكن لا بد من التأكيد أيضاً أن ديمقراطية كردستان ، في التطبيق،  أوسع من ديمقراطية البصرة.   

التطبيق الديمقراطي  بإمكانه أن يدفع أي مسئول في البصرة أو في أربيل، سواء في ظل (محافظة) أو (أقليم)  إلى  استخدام صلاحياته اللامركزية المتاحة أمامه باعتبارها حقيقة قاطعة في العمل الوطني – الدستوري ، ثم بإمكانه استخدام اساليب  اللامركزية الدستورية في الحياة اليومية للدولة ولمواطنيها وتنمية درجات المعرفة في العمل الجماعي..  فالتقدم الاجتماعي – الاقتصادي هو نظير كل عـِلم ينظر الى الواقع بتحليله ومقارنته على ضوء  اخطائه ونجاحاته ،على ضوء روابط الحكام وأخلاقيتهم ومستواهم العقلي .  ان تغيير الواقع من متخلف الى متقدم يعتمد بالدرجة الاساس على تغيير (المنهج) و(الاساليب) وان يصبح هذا التغيير شغلا شاغلا للحكام والمسئولين   ، فالإنسان هو الانسان سواء كان يعيش في مدينة اسمها (محافظة البصرة) او اسمها (اقليم البصرة) بإمكانه ان يصيغ ملامح عصره ومسئوليته بالعمل الجاد والمخطط وفقا للفرص المتاحة أمامه في مدة زمنية معينة.. الإنسان الحاكم اذا لم يتغير وينجز اليوم  تحت اسم (محافظة) لا يمكن ان يتغير وينجز غدا مهما امتلك من صلاحيات، مركزية او لامركزية، تحت اسم (اقليم) .

ان عضو البرلمان العراقي، سواء كان من البصرة او الحلة او الرمادي او الموصل او اربيل أو من أي بقعة عراقية  يجب عليه ان لا يتخلى عن (منصة الوطنية العراقية) لينزل الى (منصة المناطقية) والتهديد بغلق حدود البصرة أو إيقاف تصدير نفطها، فذلك لا يؤدي الى تحسين حياة المواطنين في مدينته بمشهد سياسي او اداري منفرد عن باقي المحافظات . يجب ادراك ان برواز الباب الوطني العراقي ينبغي ان يكون ملائما ومتكاملا  من جميع الجهات ليكون قادرا على إدخال نور التقدم الاقتصادي  الى كل زاوية من زوايا الوطن بجهود جميع الوطنيين العراقيين وتطوير كل منصة ادارية في كل بقعة من بقاع الوطن العراقي لخلق شروط التقدم الاجتماعي كافة . خلاصة القول أن أحزاب الاسلام السياسي غير قادرة على تغيير الحال المزري لمدينة البصرة وتعمير العراق كله بالاعتماد على التصورات والأدعية الدينية والمذهبية ، بل يتم ذلك بأداء حضاري عالي المستوى ، قائم على العلم والتكنولوجيا وثقافة الجماهير الشعبية المتحررة من كل قيد يعيق التطور.

مما يثير الاهتمام حقا بموضوعة عنوانها اقليم البصرة ان تعرف في البداية: هل هي نزعة جديدة او انها نظرية جديدة او انها مطلب جديد النوع في مواجهة اهالي البصرة المالكين والمنتجين لأهم ثروة طبيعية على وجه الارض..؟ لا شك ان امر المطالبة بإقليم البصرة يدعو اليه ويفكر به اناس كرماء طيبون من اهالي البصرة نفسها لكن بعضهم لم يتصوروا – كما يبدو – ان ما آلت إليه حال مدينة البصرة، الغنية بثرواتها،  الى حال افقر مدينة عراقية، هو نتيجة حاصل أفعال واهمال أناس لا أشك أنهم طيبون  كرماء أيضاً، حكموا البصرة خلال السنوات العشر الاخيرة لكن اصبح الكثير منهم متهمين بالفساد وبتبذير مردودات الثروة. اهملوا تطبيق القوانين والاعمال الصالحة ولم يكافئوا العمال والكادحين البصريين المنتجين. لم يكونوا ديمقراطيين بالفعل لا بالكلام المجرد.  لم يوفروا عدالة توزيع الثروة المنتجة لينتشلوا الكادحين البصريين من الفقر المدقع . كما أنهم لم ينقذوا المواطنين من القتل والحرق والتفجير والاختطاف واغتصاب النساء  ولم يوفروا طيلة  10 سنوات اية رابطة بين ما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي وقضائي في مدينة البصرة.   لكننا اليوم نشاهد ان من بين اسماء المطالبين بإقليم البصرة بعض من كان هو المسئول الاول عن مغامرة العدوان على الحرية والعدالة في مدينة البصرة خلال سنوات حكمهم  2003 – 2014  . لا ندري هل يمكن احتساب بعض هؤلاء  ضمن عدالة المطالبين بإقليم البصرة أم انهم خارج الظلم الذي وقع على (محافظتهم )..؟

 من هذا الواقع نتج انقسام بين قادة الاسلام السياسي في  البصرة . بعضهم يريد تحرير البصرة تحريرا كاملا من قيود ونظام (المحافظة) ونقلها الى الكيفية الدستورية التي نصت على امكانية التحول الى (اقليم)  لتحويل البصرة الى منطقة موانىء عالمية او الى منطقة نفطية – غازية بمستوى عالمي أو افتراض تحويلها الى منطقة سياحية عمرانية بمستوى مدينة دبي .  لقد بين التاريخ الانساني في كل مراحله انه ينحاز الى الجماعة ،الى الشعوب، والى قيم الحرية والديمقراطية ، كلما كان النظام العام محققا للتوازن الاجتماعي. فهل تمر البصرة الان بظروف انسانية تفرض الضرورة القصوى لتحويل (محافظة) البصرة الى (اقليم) من دون مخاطر اجتماعية – اقتصادية متوقعة..؟ هل وصلت مدينة البصرة الى مستوى الحس السليم الخالص لقيادة نفسها بنفسها بعد 10 سنوات من الفوضى والتخبط وسوء التقدير ..؟

مع الاسف الشديد ان الكثير من اعضاء البرلمان العراقي – من البصرة – يتخلون عن صفتهم البرلمانية الاساسية باعتبار عضو البرلمان ممثلا للشعب العراقي كله وليس ممثلا لناخبي دائرته الانتخابية او لمحافظته فحسب،  كما نشاهد ونسمع تصريحات بعض النواب البصريين، الذين انتخبوا في دورات سابقة او في الدورة البرلمانية الاخيرة.  بينما جوهر الديمقراطية البرلمانية المطبق في السويد والمانيا وبريطانيا والجيك  وهولندا وفرنسا وغيرها تجعل عضو البرلمان حال أدائه القسم مستقلا تماما عن ناخبيه أبان فترة نيابته حين يقسم بخدمة الوطن كله وبمصالح الشعب كله . فالهولندي المنتخب ، مثلاً،  ليس ملزما بتقديم نتائج عمله البرلماني امام جماهير منتخبيه في الدائرة المعنية بانتخابه.  كما انه ليس من حق هؤلاء عزله . هذه قضية نابعة من اعتبار العضو ممثلا للشعب كله وليس ممثلا للمحافظة . بمعنى ان اي عضو برلماني من البصرة  في اثناء تكوينه البرلماني أن يكون بقدرٍ عالٍ من (الروح الوطنية) ليتساوى مع زملائه من نواب محافظة دهوك والسماوة وصلاح الدين وغيرها كي تكون مطالب جماهير كل المحافظات العراقية متساوية بنظرهم جميعا ، من دون تفضيل مصالح مدنهم ،التي ولدوا فيها او انتخبوا منها  على مصالح المدن العراقية الاخرى .

ان الشعب في النظام الديمقراطي هو مصدر السلطات جميعا . لذلك تتولى المجالس النيابية السلطة التشريعية اما منفردة ،كما هو الحال في نظام  ديمقراطية الولايات المتحدة الامريكية واما بالاشتراك مع رئيس الدولة كما هي الحال في المنظومة الديمقراطية في انكلترا . لكن بكل الحالات لا يلتبس الواقع التاريخي على اي عضو برلماني ولا ينقطع عن مصالح الوطن كله ، مهما كانت ذاتيته الطبقية وفلسفته الرأسمالية الاستغلالية .

من هنا ينبغي التمييز بين نظام (الديمقراطية النيابية) وغيره من النظم الاخرى على اساس طبيعة العلاقة بين الناخبين والمنتخبين ،إذ يكون في النظام الديمقراطي البرلماني عضو مجلس النواب ممثلا لكل الشعب ومعبراً عن مصالحه جميعها. يعني هذا المبدأ الديمقراطي أول ما يعني ان لا تتغلب (القيم المناطقية) على (القيم الوطنية). العدالة هنا تجبر البرلمانيين البصريين على ان يبقوا وطنيين عراقيين بالدرجة الاولى وليس  مواطنين بصريين. المبالغة بالاستقلال الذاتي وتغليب (هوية المدينة) على (هوية الوطن) لا تحقق للمتشكي من تخلف البصرة تقدما لها ، خاصة في ظل ظروف سياسية – اجتماعية لا تتطابق مع نجاح تحويل البصرة من (محافظة) الى (اقليم) طالما ملامح الديمقراطية لم تتكامل ، حتى الآن،  في بنى الدولة العراقية ،بما فيها البنى في محافظة البصرة نفسها، إذ لا يكفي الاندفاع الفطري لبناء الفيدرالية العراقية من دون تحكيم الفكر الوطني – الاجتماعي. كما يجب ان ندرك جميعا ان الاعتماد على الجماعات العشائرية أو على الجماعات الطائفية لا تمثل محسوسات تقدمية عند مطالبتها بإقليم البصرة أو بأي اقليم آخر.

الضمير الوطني وليس الضمير المناطقي او المذهبي او الاثني هو المثل الاعلى الذي تنبثق معه ومنه المثل السياسية والتنظيمية العليا، بما في ذلك المثل العليا الخاصة بالنشأة التعاقدية الاجتماعية وفقاً على (نظرية العقد الاجتماعي) التي مصدر الارادة فيها ارادة الشعب كله، بما في ذلك نشأة الظروف التاريخية  الخاصة، المترابطة بالوعي الاجتماعي – السياسي، الذي قد يتوافق في المستقبل مع مصالح تحويل هذه او تلك من المحافظات الى اقاليم ، كصورة من صورة السلطة الحاكمة المنظمة، التي لا تقوم على اختصاص ديني او مذهبي ، بل تقوم على وفق مبدأ أن (المحافظة) او ا(لإقليم) سواء بسواء ، كلاهما جزءا من الدولة العراقية . الشعب وحده في ظل ظروف تاريخية معينة يملك حقوقا فعلية على (الإقليم) مثلما على (المحافظة) .

أحدث المقالات