عاش الإنسان من غابر العصور والدهور، ومرّ في الفيافي، وتنقل في الوديان، وارتقى الجبال، وركب البحر، وتعامل مع الحجر والمدر والحيوان، وطوّع لحاجاته اليومية بعض الفلزات وغير الفلزات، واستعمل الدابة في الحرث والحركة، وظل لفترة طويلة على هذا المنوال، وفي كل مرّة يكتشف الجديد به يتطور ويطوّر، وعلى يديه تتسارع مراحل الحياة، وفي كل فترة زمنية تشهد الأرض طفرة علمية تتناسب والوضع الاجتماعي العام والأمداء العقلية التي بلغتها البشرية، حتى وصلنا وما وصلنا اليه من تطويع للذرة التي لا ترى بالعين المجردة، والتي بها يُضرب المثل لضاءلة حجمها، ودخلت في كل مفاصل الحياة السلمية والحربية، وهذا التطور السريع الطفرات يشهد يوماً بعد آخر ارتفاعاً في الخطوات واتساعاً في الخطو، حتى بات العلم في بعض أجزائه خطراً على الحياة وعلى عموم البشرية والكرة الأرضية بما تحمل من جبال ووديان وانهر وبحار ومحيطات وبما تحيط بها من طبقة أوزون واقية.
ولم تخل دائرة من دوائر الحياة من توسع قطرها بالاكتشافات والإبداعات والاختراعات، بما أودع الله من سنن في باطن الأرض وخارجها، وهي سنن فوّض إلى الإنسان أمر استخراجها من خزانة المستور، بما جعل في عيبة جمجمته من عقل ينشد الصقل كلما علاه الصدأ أو ران على قلبه الرين.
ولم تكن صناعة الكلام، بما قذفته الألسن والأفهام وأسالته المحابر والأقلام، بمنأى عن سنن التطور، وفي حقل القوافي والأوزان شكّل الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى عام 175هـ، معلماً فارقاً ومميزاً في إرجاع الشعر العربي الى تلازم تفاعيله المشكّلة لوزنه وبحره، فكانت التفاعيل ثمان، وهي: (فعولن، فاعلن مفاعلتن، متفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتُن، مفعولاتُ)، ومن هذه التفاعيل جاء الفراهيدي بالبحور الخمسة عشر: الطويل، المتقارب، البسيط، الرجز، السريع، المنسرح، الكامل، الوافر، المديد، الرَّمل، الخفيف، الهزج، المضارع، المقتضب، والمجتث، وكلها مستخرجة من دوائر خمس هي: المختلف، المتفق، المؤتلف، المجتلب، والمشتبه، وزاد الأخفش سعيد بن مسعدة المتوفى عام 215هـ ببحر المتدارك.
وظلت براءة اكتشاف بحور الشعر مقفولة على الفراهيدي، حتى جاء القرن الخامس عشر الهجري، لا ليكتشف الأديب والمحقق والفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي بحوراً جديدة من بطون الشعر
العربي، كما فعل الفراهيدي، وإنما ليستحدث دوائر شعرية جديدة بلغت 43 دائرة وليبدع بحوراً جديدة بلغت 210 ابحر من اثنتي عشرة تفعيلة أخرى هي: (فعْلن، مفاعيلتُنْ، مفاعلن، مفتعلن، مستفعلتُن، فعلاتُن، فاعلاتتُن، متفاعلتن، مفتعلتُنْ، مفعولنْ، مفعولاتُنن متفاعيلتُن)، وهذه الدوائر والبحور قيّد براءة استحداثها في ثلاثة كتب صدرت في عام 2011م هي: “هندسة العروض من جديد”، “الأوزان الشعرية العروض والقافية”، و”بحور العروض”، وحتى يضع الأديب الكرباسي عشاق الأدب العربي وطلابه ودارسيه في جو البحور الجديدة عمد الى وضع ديوان “ظلال العروض في ظئاب المطالع والملاحق” في ثلاثة أجزاء، ضم كل قصيدة مطلعاً فيه تفعيلة البحر الجديد (التام والمجزوء والمنهوك) وأبدع الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شبين في إتمام مطلع القصيدة بملاحق من سنخ التفعيلة والبحر والوزن والروي في مئات الأغراض الشعرية توزعت على (639) قصيدة بديعة، ضم الجزء الأول (199) قصيدة، فيما ضم الجزء الثاني الصادر حديثا (2014م) في 424 صفحة من القطع الوزيري عن بيت العلم للنابهين في بيروت، من (200 قصيدة) والبقية تأتي في الجزء الثالث والأخير.
تفعيلات وتفريعات
يتركب البحر التام من ثمان تفعيلات متناصفة بين الصدر والعجز، ومن تراكيب التفعيلات يتحدد نوع البحر، والتفعيلات التي جاء بها الكرباسي الى جانب تفعيلات الفراهيدي خلقت هذا العدد الكبير من البحور ضمن متواليات هندسية تشكل التفعيلة العمود الفقري لها، وإذا حُذفت تفعيلة من الصدر ومثلها من العجز صار البحر مجزوءاً، وإذا لحق الحذفَ تفعيلتان صار البحر منهوكاً، وبهذا صارت البحور 210 أبحر ومثلها المجزوء ومثلها المنهوك، وهو ما يعطي فسحة كبيرة للشاعر والناظم في اختيار البحور وتفريعاته، كما يفتح طريق التفكير أمام شعراء الحداثة والحر والنثر المقفى أكثر من مرة للعودة الى حضن الشعر العمودي القريض الذي يتسيد قصر الشعر العربي وحوله الأبيات والأبحر.
وكمثال على التفعيلة التامة والمجزوءة والمنهوكة التي استحدثها الأديب الكرباسي، هو بحر المرجوز التام وتفعيلته:
مستفعلن مفاعيلن مفاعيلن مستفعلن … مستفعلن مفاعيلن مفاعيلن مستفعلن
ومثاله قصيدة بعنوان (الحكام باعوا وبايعوا)، يدين بشدة احتلال البلدان الإسلامية بسبب عمالة بعض الساسة وانبطاحيتهم، ونموذجه العراق وما حصل فيه ويحصل اليوم، ومطلعها:
مالى أرى العِدا في أرضنا جوراً قد سارعوا … والحاكمون قد باعوا مغانينا أو بايعوا
وألحق الدكتور عبد العزيز شبّين المطلع بعشرة أبيات يقول فيها:
الأرضُ لي وغِربانُ الصدى في صمتٍ حوَّموا … غدراً على نواحي الحُزن فيها بَوْحٌ نازعُ
ثم يضيف:
أين الصِّبا؟ خضيلَ الرَّبْعِ، كنّا في نَيْسانه … والآن صُرِّمَت وُرْقُ الضحى لا طيرٌ ساجعُ
ويختم ملاحق المطلع بالبيت التالي:
يا عاصفاً بريحٍ جُنَّ فيها غدرٌ جارحٌ … منهٌ التظى بساحٍ النار مفجوعٌ أو فاجعُ
أما تفعيلة بحر مجزوء المرجوز، فهي على النحو التالي:
مستفعلن مفاعيلن مفاعيلن … مستفعلن مفاعيلن مفاعيلن
ومثالها قصيدة بعنوان (رزايا الحسين لا تنطفي)، يقول الأديب الكرباسي في مطلعها:
هذا الحسينُ مازالت رزاياهُ … تطفو كأنَّها تجلو قضاياهُ
ويلحقها الشاعر شبين بعشرة أبيات يقول في بعضها:
هذا الغليلُ في طفٍّ تُناديه … عند البلا دِماً تَغلي وأمواهُ
يا أرضُ كربلا لِلحُزنِ تاريخٌ … فيك اشتعَلتُ حُزناً لستُ أنساهُ
ويختمها بقوله:
يخطو النخيلُ نحو الخُلد لم يَهزُزْ … هُ العصفُ كلّما مارت صحاراهُ
وأما تفعيلة بحر منهوك المرجوز، فهي على النحو التالي:
مستفعلن مفاعيلن … مستفعلن مفاعيلن
ومثاله قصيدة بعنوان (العروبة)، رأى فيها أن العروبة مشتقة من العرب ومأخوذ في معناها الواقعي الإبانة والفصاحة لا المعاني الضيقة والتوظيفات السيئة لها في مقابل التعالى على الأقوام والمجتمعات والأمم الأخرى، جاء مطلعها:
لي في عروبتي رأيُ … يُقصى الدَّنيُّ والمِرْيُ
فيما ألحقه الدكتور شبين بأبيات عشرة، وفيها:
معنى عروبتي ضادٌ … يزكو بلوحه الوحيُ
ضاءت حروفها ليلاً … منها الصباحُ والهديُ
ويختم بقوله مشدداً على أهمية التقوى في فهم العروبة:
إنّ العروبةَ المُثلى … تقوًى رياضُهُ الفيُّ
وجرت البحور جميعها بتامها ومجزوئها ومنهوكها على ذات السياق، ولكن عدد أبيات الملاحق تختلف من قصيدة لأخرى إلا أن القاسم المشترك لها هو مطلع مع أبيات عشرة، وذلك أن معيار الأديب الدكتور محمد صادق الكرباسي في القصيدة المتكاملة عشرة أبيات وما دون العشرة مقطوعة، وما دون المقطوعة قطعة ثم البيت الواحد.
أبعاد وأغراض
لديوان ضلال العروض وما حواه من قصائد متألقة، أبعاد وأغراض مختلفة تعكس قدرة الأديب الكرباسي والشاعر شَبِّين على توظيف الكلمة والقافية والبحر في أغراض شعرية كثيرة توزعت بين الاجتماع والسياسة والدين والشريعة والتاريخ والسيرة والحكمة والنصيحة والمشورة والكرم والعطاء والبذل والحب والعشق ومودة الآل والوطن والزمان والأطلال والآثار، وغيرها كثير. فمن بحر المرمول التام وتحت عنوان “الكريم يُقصد” في إشارة الى المنقذ المهدي الذي تهوي اليه أفئدة الناس لنيل كرمه والخلاص من الظلم والطغيان على يديه، فينشد صاحب المطلع:
قاصدٌ بيتَ الكريم الذي يلي أمورنا … إذ يفي بالوعد دون الورى يَعي صدورنا
ثم ينشد صاحب المطالع:
معبرٌ قد بتُّ أسعى اليه والمدى هبا … ءٌ يصدُّ الليلُ فيه بمكره عُبورَنا
إذ يطير القلبُ شوقاً الى رفيف ظلّه … حيثُ غيثُ الكَرْمِ يروي من الظَّما طُيورَنا
ويختم بقوله:
أشعريه أنَّنا في اصطبارنا ثوابتٌ … أيقظَ الإلهامُ عبرَ انصبابه شعُورنا
ويُلاحظ في أبيات الملاحق فطنة الشاعر في استخدام فن الجناس لتنتهي كلمة القافية من جناس اللفظ الأولى من كل بيت، فجاءت الأبيات العشرة في مقدماتها وقوافيها على النحو التالي: (معبرٌ- عبورنا)، (يطيرُ – طيورنا)، (يُزهر- زهورنا)، (أبدرت- بُدورنا)، (هُجِّرت- هجيرنا)، (سعَّرت- سعيرنا)، (عبِّري- عبيرنا)، (أبصر- بصيرنا)، (أضمر- ضُمورنا) و(أشعر- شعورنا).
ومن مفارقات الحياة أنك تجد انساناً يشكو لك الفراغ وسأمه وطول النهار وهمّه، ينتظر الليل ليلتحف حالكه ويتوسد دامسه، بانتظار يوم جديد لعل شيئا ما يبدر او حدثا يصدر يغير من رتابة الحياة ومللها، وما أكثر العاطلين النائمين على وسادة الفراغ، ولكن الكرباسي في قصيدة بعنوان “صراعُ الوقت” من بحر مجزوء المتضارع، يشكو من قلة الفراغ، فهو والزمن في صراع دائم، يسارع عقارب الساعة وتسارعه أيهما يلحق بصاحبه، بل إن هذا الديوان وأكثر من ستة عشر ديواناً آخر بين مطبوع ومخطوط، تنضّدت عقودها في لندن على وقع أقدامه التي تنقله صباحا الى المركز الحسيني للدراسات قادماً من منزله وتعيده عصراً ويراعه يسطر الأبيات على وريقات يدسها في جيب جبته يستلها عند ذهابه وايابه يحبرها شعراً، يسرق الزمن ولا يدعه يغلبه، في دورة يومية يتحرك بها ضمن خارطة “أدب الطريق”، فينظم:
أنا والوقتُ المعنّى في صراع … فلا أدري سارقٌ لي أم كُراعي
فيلاحقه الدكتور شبّين ناظماً:
على درب الدهر حرٌ أم أسيرٌ … وعبرَ الأيام يزداد اتباعي
ثم يختم بالبيتن:
فؤادي لا تتبع السهوَ انزياحاً … يريدُ الدنيا عن الأمر المطاعٍ
حلا لي عزفُ الهوى لمّا انجلى غيـــ … ـــــهبي يا نفسُ استعدي لن تُراعي
وحيث توزعت قصائد الجزء الأول في مطالعها وملاحقها على 75 بحراً جديداً مبتدعاً، فإن قصائد الجزء الثاني توزعت على 74 بحراً آخر، هي التالية حسب الحروف الهجائية: (المتحلّف، المتخلّع، المتدارك، المتدرّك، المتراجز، المتراكب، المترجّز، المتركّب، المترمّل، المتزايد، المتسارع، المتسرّح، المتسرّد، المتسرّع، المتشابك، المتشارك، المتضارع، المتعاكس، المتقابل، المتقارب، المتقاسم، المتقبّل، المتكامل، المتمازج، المتمايز، المتوازن، المتوافر، المتوفّر، المثمّل، المجاز، المجتث، المجمع، المجمل، المجموع، المجوز، المحلّف، المحمود، المخالط، المخصب، المخصّص، المخصوص، المخفف، المخلط، المخلوط، المخلوع، المدق، المديد، المذلّل، المرتجز، المرجّز، المرجوز، المركّب، المركوب، المرمّل، المرمول، المزاد، المزج، المزوّد، المزيج، المزيد، المستجمع، المستجمل، المستحدث، المستحلف، المستخلص، المستخلع، المستدرك، المستدق، المسترجز، المسترمل، المستزاد، المستزيد، المستشبه، والمستضرب.
في الواقع لن يدرك جليل ما جاء في ديوان ضلال العروض إلا حين يتنقل المرء بنحل ناظريه ومشاعره بين مشاتل العناوين وأغصان البحور وورود القوافي، وحسب تعبير الأديب والأكاديمي اليمني الدكتور محمد مسعد العودي وهو في تعليقه على الديوان كما جاء في الجزء الأول منه الصادر في العام 2014م في 360 صفحة، بعد أن يتحدث عن أدب الطريق الذي انتهجه الكرباسي منذ سنوات طوال: (اكتملت أدوات الإبداع في يد الشاعر فراح يصوغُ من الخواطر الدُّرر، ومن قبسات فكره العِبَر، يتسامى بنيانُ الشعر شموخاً في محرابه، لا تطوله غربان الظلام، وتمتد بأعناقها إليه أطيار النور، هو الكوثر الذي تحوم حوله عطاشُ المواهب، تلتمس منه معينُ الرُّواء). مضيفا في بيان ما أنتجته قريحة صاحبي المطلع والملحق واستخدامهما المتنوع للمفردة: (نحا الشاعران في تعاملهما مع المعجم اللغوي منحىً مجازياً، يعطيها أكثر فسحة للتصوير، ويهبُها أرحب خيال في التعبير، ويجعلها أكثر ليونة على استيعاب التجربة الشعرية الرائدة التي يخوضها الشاعران الكرباسي وشبّين كسابقة فريدة في شعرنا العربي، هذا الديوان “ظلال العروض” صنع اللغة عجينة من ورق في الفضاء يداعبها النسيمُ كيف شاء، وينقلها إلى حيث يريدُ).
وخلاصة الأمر، فكما أن كتاب “هندسة العروض من جديد”، وتمظهراته في “الأوزان الشعرية” و”بحور العروض”، تمثل عدة كل باحث عن منافذ الأدب المنظوم، ومرجع كل دارس في كليات الأدب ومعاهدها، وأدوات كل شاعر ينشد القريض من عيونه الرقراقة، فإن “ضلال العروض في ظئاب المطالع والملاحق” هو التطبيق الشعري لتفاعيل البحور المخلّقة من ماء الإبداع الأدبي.