يكاد يجمع المراقبون للشأن العراقي على أن سنة العراق فيما بعد الإحتلال الأمريكي قد خرجوا من (مولد العملية السياسية بلا حمص) باستثناء ديوان الوقف السني، الذي تشكل منبثقا عن وزارة الأوقاف؛ التي حلّت كباقي وزارات ومؤسسات الدولة على يد الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، لكن حتى هذا المكسب الوحيد لهم لم يسلم من تدخلات السلطة المستمرة ومحاولات الهيمنة عليه وتوجيهه بما يخدم خط الأحزاب الطائفية التي تمسك مقاليد الأمور في البلاد.
ولعل السؤال المهم هنا هو: لماذا هذا الصراع العنيف للسيطرة على هذه المؤسسة؟ وماذا يمثل الوقف بالنسبة لسنة العراق وحكومته؟
واقع الحال يقول أن الوقف السني يمثل مصدر القوة الأهم لسنة العراق حاليا، بأملاكه الكثيرة وميزانيته التي تتفوق على موازنات دول كاملة، واستقلاله شبه الكامل عن إملاءات السلطة عبر السنوات الماضية، رغم أن إدارة الوقف قد رضخت لضغوط الحكومة في ملفات عدة، كان من بينها تبديل رئيسه الأسبق الدكتور عدنان الدليمي الذي لم يرق أداؤه السياسي للأحزاب الشيعية ولا مناصريها فدفعوا باتجاه استبداله بشخصية أخرى يسهل احتواؤها، فكان الدكتور أحمد عبد الغفور السامرائي، لكن رئيس الوقف الجديد هذا لم تنجح محاولات إدخاله تحت عباءة السلطة، فظل مستقلا بشكل كبير عن محاولات تسييس العمل الحكومي الذي يندرج الوقف تحت إطاره، وظل خطابه العام رافضا للكثير من ممارسات الأحزاب الشيعية وديوانهم في اغتصابهم للمساجد واعتدائهم على علماء الدين وأئمة المساجد، فجرت محاولات كثير لعرقلة عمله أو توريطه في المادة المحببة لشيعة السلطة (4 إرهاب) لكنهم لم يفلحوا في مسعاهم هذا، إلى أن تم دفع عدد من (سنة المالكي) لتلفيق قضايا فساد ورشوة لتسقيطه، ونجحت هذه المحاولة في سحب يد الدكتور أحمد عبد الغفور من رئاسة الوقف، ليأتي نائبه الدكتور محمود الصميدعي على سدة الإدارة، لكن الرئيس الجديد كذلك لم يسلم ولا سلم الديوان بشكل عام من تهديدات معلنة ومبطنة باستبداله بشخص يكون أكثر (ليونة) و(تعاونا) مع المتنفذين من شيعة السلطة.
الأملاك الهائلة للوقف السني وميزانيته الكبيرة جعلته محط أطماع العديد من القوى السياسية، حيث تمتد أملاكه من شمال البلاد إلى جنوبها، حتى في المحافظات الشيعية، بل إن أملاك الوقف السني في كربلاء مثلا تزيد عن أملاك الوقف الشيعي، وكذا الحال في محافظات أخرى.
ورغم أنه شأن سني بحت، إلا أنه خضع لمحاولات فرض مرشحين بعينهم من (سنة المالكي)، حيث بدأ بعضهم كعبد اللطيف الهميم وخالد الملا ومهدي الصميدعي بإثارة مشاكل في وسائل الإعلام ضد إدارته بالتوازي مع حملة من بعض السياسيين، كصالح المطلك وأحمد الجبوري وآخرين.
وواقع الحال أن شيعة السلطة يريدون الإتيان برئيس للوقف من على شاكلة خالد الملا، البعثي المتلون وعضو المجلس الوطني في العهد السابق، والذي انقلب على تاريخه من التملق لصدام حسين وتدبيج المقالات في مدحه وإسباغ صفات العظمة عليه، إلى خطيب مفوه يتغنى بفضائل الخميني وإنجازات (الثورة الإسلامية) في إيران، حتى أصبح ضيفا دائما على احتفالات السفارة الإيرانية والمؤسسات التابعة لها، كما لعب دورا مشبوها في الأزمة الأخيرة في تبرئة المليشيات الشيعية الطائفية من ممارساتها الوحشية وهدمها وحرقها للمساجد في حزام بغداد وديالى وشمال بابل والفلوجة، بل وأصبح يدافع عنها بلسان أكثر فصاحة حتى من قادتها، أو مهدي الصميدعي الصديق الحميم لنوري المالكي وقيس الخزعلي، والمشارك في احتفالات واستعراضات مليشيا عصائب (أهل الحق) الطائفية، هذا هو (السني الجيد) بنظرهم وهو (السني المثالي) الذي ينبغي أن يتبوأ مقاليد الأمور في أخطر مؤسسة تمثل أهل السنة في العراق!!.
أما الآن وقد احتدم الصراع لا سيما في الغرف المغلقة حول من يتولى رئاسة الوقف خلفا للصميدعي، فإن قوى عديدة بدأت في طرح أوراقها ومرشحيها، صالح المطلك شحذ أسلحته وقدم عروضه (التخديرية) كالعادة، وخالد الملا يقوم بإطلاق مزيد من تصريحاته المذلة والمستفزة لأهل السنة والمستخفة بجراحاتهم، وعبد اللطيف الهميم يواصل اتصالاته بالأحزاب الشيعية لتقديم ضمانات بأن يكون الوقف السني في جيبهم حال توليه رئاسته، رغم أن اختيار الرئيس القادم للوقف هو حق حصري للمجمع الفقهي لكبار العلماء حسبما أقر دستوريا، إلا أن هؤلاء المتنافسين يسعون لاستغلال بعض الثغرات القانونية أو إثارة البلبلة حول المرشحين الذي يحظون بتأييد المجمع الفقهي الذي يمثل أكبر مرجعية لأهل السنة في العراق.
ديوان الوقف السني وهو المؤسسة الوحيدة التي فتحت أبوابها لأهل السنة بعد الإحتلال بعدما أصبحت معظم وزارات الدولة حكرا على المكون الشيعي؛ من الوزير وحتى عمال النظافة، هذه المؤسسة تحتاج أن تكون رئاستها القادمة على قدر التحديات التي تواجه سنة العراق، حيث المساجد المغتصبة والمستباحة، وملايين النازحين الذين يبيتون في العراء بعدما خربت مدنهم وأصبحت ميادين للحرب بين (داعش) والمليشيات، يحتاج السنة أن يكون الوقف لسانهم الناطق والمبادر للدفاع عن ممتلكاتهم ومساجدهم، وألا يكون ورقة تفاوضية بيد المتنافسين على السلطة، وأن يعيد لهم جزءا من اعتبارهم بعد اثني عشر عاما من الحرب على هويتهم ووجودهم .