ما أن أعلن بول بريمر على الصحفيين العراقيين نبأ اعتقال صدام حسين، حتى اشتعلت قاعة المؤتمر الصحفي بالتصفيق الحار، والهتاف والفرح المدوي، بحيث أصيب بريمر وعدنان الباچچي الذي كان يقف الى جانبه ساعة اعلان البشرى بالدهشة والمفاجأة لردة فعل الصحفيين الكبيرة.
نعم..! هكذا كان الأمر في مثل هذا اليوم قبل أحد عشر عاما بالتمام والكمال. ولم يحصل ذلك الفرح في قاعة المؤتمر الصحفي فحسب، إنما حصل أيضاً في كل ارجاء العراق، بحيث يصعب الوصف الآن، ويعجز الشرح والتشبيه لحالة الشارع العراقي السعيدة، بعد تلقيه نبأ اعتقال صدام، خاصة وإنه لم يكن اعتقالاً عادياً مثل أي اعتقال آخر يحصل لرئيس أو مسؤول، او حتى لضابط بسيط في الجيش، إنما كان في الحقيقة اعتقالاً مذلاً ومهيناً ومخزياً، يشبه الى حد كبير إلقاء قبض على جرذ هارب من قط وحشي جائع.
لقد فرح العراقيون كثيراً، وشمت الكثير منهم، بتلك الصورة المخزية التي ظهر بها صدام أثناء اعتقاله، وأظن أنهم فرحوا حين رأوه مهاناً وذليلاً، أكثر من فرحهم بخلاصهم منه، ومن ظلمه وقسوته وعنفه وسلطته الجائرة. لقد كان لمنظر الصور التي بثها الأمريكيون لصدام وهو يخرج من الحفرة مرعوباً وخائفاً، الأثر الكبير في جبر خواطر الملايين من العراقيين الذين قطف صدام أعمار فلذات أكبادهم في الحروب والسجون والمؤامرات، فدفن بعضهم في المقابر الجماعية، وانتهى البعض الآخر بلا قبور تزار أو تذكر. لقد لمست بنفسي هذه الفرحة، وأنا أرى والدي رحمه الله يذرف الدمع فرحاً بإلقاء القبض على صدام بالطريقة المخزية التي ظهر فيها، وكان يحادثني في التلفون وهو يقول (هذي حوبة أخوك خيون وجماعة خيون.. هذي حوبة الصدر والعلماء والناس الأبرياء اللي قتلهم المجرم الكافر صدام بلا ذنب)! نعم لقد كان والدي يحكي ويبكي كما يقولون، بعد أن أعدم صدام ولده العود خيون قبل أكثر من ثلاثين عاماً، دون أن يتسلم جثة ولده الشهيد البطل، بل ولم يجد له اثراً حتى في المقابر الجماعية. وكل ما حصل عليه، شهادة وفاة كتب فيها: سبب الوفاة.. الإعدام شنقاً حتى الموت!!
ويقيناً أن والدي لم يكن الوحيد الذي فرح في هذا اليوم قبل أحد عشر عاماً، إنما فرح معه الملايين من عوائل ضحايا الطاغية صدام.
ويقيناً أن فرح الناس باعتقال صدام، ليس لأنه اعتقال لشخص كان يشغل منصب الرئيس في جمهورية الخوف والرعب فقط، إنما كان أيضاً اعتقالاً لجمهورية الخوف والرعب كلها، وكان إذلاله في ذلك الاعتقال إذلالاً لكل جبروت (الويلاد)، الذين أرعبوا البلاد، وأذلوا العباد بفاشيتهم واستهتارهم. لقد فرح العراقيون أيضاً، لأنهم شعروا بأن الجنود الأمريكيين لم يخرجوا صدام وحده من تلك الحفرة مرعوباً وذليلاً فحسب، إنما أخرجوا معه كل النظام البعثي الفاشي. لذا فهي نهاية سلطة جائرة وموت نظام وحشي سافل. وقبل كل شيء فإن الحفرة التي أخرج منها صدام، كانت بمثابة حفرة لدفن ذلك النظام البعثي الظالم الى الأبد، وهي إيذاناً بنهاية مرحلة دكتاتورية، وبداية مرحلة ديمقراطية، مهما كانت التضاريس والألوان المتخالفة فيها. لقد مضى صدام الى الأبد، وأصبح نظامه وعقيدته ومفردات منهجه، جزءاً من الماضي الذي لن يعود أبداً. رحل كله ولم يبق منه شيء، حتى قبره أزيل بمعاول أبناء الضحايا الذين أعدم صدام أهاليهم. أجل مضى صدام، رغم وجود بعض الفايروسات الفاشية التي أنشأها، وزرعها، وخلفها في جسد الخارطة العراقية قبل رحيله، نكاية بالشعب الذي أنجب (أبو تحسين)، وانتقاماً من الشباب الذين أشبعوا تمثاله أحذية ونعالاً في ساحة الفردوس. فعصابات البعث، وأتباع عزة الدوري (النقشبندية)، وتنظيم داعش، وغلمان عشيرة صدام الذين نفذوا جريمة سبايكر بحق الطلبة العزل، هم بعضٌ من بضاعة صدام الفاشية والإرهابية القذرة التي تركها للعراقيين. فتباً لتركته!! لقد مضى صدام، فانسوه وانسوا مرحلته بكل مآسيها وتطلعوا نحو المستقبل الجميل. أما اليوم.. حيث ذكرى القاء القبض على ذلك الجرذ المرعوب، فهي مناسبة يجب أن لا تنسى بتاتا، لأنها المحطة التي انطلق منها قطار الحرية والأمل العراقي، رغم كل المعوقات التي وضعت في طريق هذا القطار.