((وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)) سورة النحل الآية 68- 69
ان اربعينية الامام الحسين هي آية لقوم يتفكرون, وهي معجزة اذهلت العقول وحيرت الالباب , فمن غير الممكن ان تجد تفسيرا لما يحصل في هذه المظاهرة العظيمة من معجزات وتحطيم لكل الارقام القياسية , بالإضافة الى ما نلاحظه من تغيير وتحول وانقلاب في الصفات الشخصية لدى الكثير, بحيث نجدهم على غير ما نعهدهم في زيارة الاربعين, فالبخيل تحول الى كريم معطاء والمتعصب المتشدد اصبح متسامحا ليناً والخائف الهلوع صار جريء شجاع والكسول صار نشيط والعاجز الهزيل نجده مسرع متقد الهمة, كل ذلك لا يمكن تفسيره الا انه تم بإيحاء من الله سبحانه وتعالى الى عباده بالتوجه الى قبلة الاحرار ومنارة العاشقين (الحسين عليه السلام) .((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) سورة فصلت الآية 53 .
من يتدبر الآية اعلاه من سورة النحل ويمعن النظر فيها يجدها تنطبق على زيارة الاربعين من عدة اوجه فالناظر الى كربلاء تحفُ بها الزائرين من كل حدب وصوب يجد تشابه كبيرا بينها وبين خلية النحل , فكما الخلية هي قبلة النحلة تشدها اليها مهما ابتعدت عنها , خاصة اذا ما علمنا أن النحلة هي أكثر المخلوقات، بعد الإنسان، بإمكانها تقدير المسافات, كذلك كربلاء هي قبلة للعشاق الذين يقطعون مئات الكيلو مترات مشياً على الاقدام لينهلوا من رحيق العشق الحسيني برغم الارهاب والصعاب باذلين الغالي والنفيس؛ المهم هو تحقيق هدفهم والوصول الى كربلاء (( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)) سورة الاحزاب الآية 23 . وهكذا النحل لا يترك مملكته حتى يقتل دونها.
اما وجه الشبه الاخر هو ان الخالق عز وجل اوحى الى النحل ان اتخذي بيوتا , ((وأوحى ربك إلى النحل )) أي : ” ألهمها وقذف في أنفسها ، ففهمته , والإلهام هو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ” هذا ما جاء بكتب التفسير ؛ كذلك اوحى الله سبحانه وتعالى الى الناس ان ابنوا بيوتا وحسينيات ومواكب لاستقبال زوار الحسين , يقول الكاتب والمفكر المسيحي السوري انطون بارا ” إن لهذه الزيارة سحراً إلهياً خاصاً، يعجز الإنسان عن وصفها ,ويعجز العقل عن استيعاب فكرة ملايين من الناس يتركون منازلهم ويقطعون آلاف الكيلومترات متحابون فيما بينهم لا ترى سوى الإحسان والخدمة الجميلة التي تزداد سنة بعد أخرى، قاصدين زيارة الحسين (عليه السلام) والتبرك بالشباك المقدس” …
يقول ابن كثير في تفسيره لهذ الآية: ” ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة ، أي : سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها ، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة “
وهناك اشارات ودلالات اخرى في هذه الآية نستطيع ان نتلمس منها ان هناك قصد اخر تشير اليه الآية الكريمة غير النحل الواضح من ظاهر الآية , بعض هذه الملاحظات ذكرها الاستاذ احمد عباس احمد في موسوعة الاعجاز العلمي وهي :
اولا : ورد لفظ النحل في الآيات الكريمة مؤنثاً (اتَّخِذِي، كُلِي، فَاسْلُكِي، بُطُونِهَا) بَيْد أنه في اللغة العربية مذكر, حيث نقول هذا النحل وليس هذه النحل، ومثله تماما لفظ النمل، في قوله تعالى ” يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ” جاء لفظ النمل مذكراً, ولم يأتي مؤنثاً مثل الحال مع النحل, ولكنه كلام الله بلسان عربي مبين، فكيف يصح ذلك ؟؟!! هذا ما ذكره الاستاذ احمد .
وللإجابة عنها : ان الآية تشمل المذكر والمؤنث كما جاء في تفسير القرطبي: ” والنحل والنحلة يقع على الذكر والأنثى ، حتى يقال : يعسوب . والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز ” اما ملتقى اهل اللغة فيقول: ” ان العرب أنثوا هذه الألفاظ من قديم الزمن، واصطلحوا عليها، وسادت هذه التعابير لديهم، واستقرت في لغتهم، وهو تأنيث لغوى لفظي، لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي” .
ثانياً : يقول الاستاذ احمد عباس:” (( مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)), حرف الجر (من) أفضل وأدق من حرف الجر( في) حمل معنى الجزئية والكيفية والمكانية, فحشرات النحل تستخدم الأجزاء المحيطة بالعش كدُعامات له، تقيها قسوة الظروف المناخية”., ” ((وَمِمَّا يَعْرِشُونَ))، معنى يشمل جذوع الأشجار المفرغة والاسطوانات الطينية، التي كانت معروفة في زمن نزول القران وحتى وقتنا القريب فكلمة يعرشون شملت كل أنواع المساكن الحديثة والقديمة”. انتهى كلام الاستاذ احمد.
وهذه اشارة واضحة الى المواكب المصنوعة من الحجارة وجذوع الاشجار و(العرائش) ومعناها كما جاء في المعجم اللغوي: ” العريش ما يُستَظلُّ به وهو مَمَرّ من أعمدة تدعم سقفًا من الأجزاء المتشابكة, والعَرْشُ المِظَلَّةُ ، وأَكثرُ ما تكونُ من القَصَبِ”.
ثالثا ً : للأستاذ احمد ايضا : لفظ ( كُلِي ) يبدو غريبا, لأن الحاضر في الذهن عند ذكر النحل هو العسل، والعسل يُشرَب، وتصنعه النحلة من الرحيق وهو سائل ؟؟!! انتهى .
وهذه ملاحظة مهمة وهي تشير الى ان المسألة لا تقتصر على الشراب بل والطعام ايضا
رابعا : اما المفسر محمد الطاهر بن عاشور عند ذكره هذه الآية في تفسيره التحرير والتنوير يقول : ” ان الثمرات جمع ثمرة ، وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلة ، مثل التمر والعنب ، والنحل يمتص من الأزهار قبل أن تصير ثمرات ، فأطلق الثمرات في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول ” . فكما هو معلوم ان النحلة تمتص رحيق الازهار لا الثمار !!
اذا من خلال ما ورد اعلاه يتبين لنا والله اعلم , ان هناك وحي من الله لكل محب للحسين الشهيد , للتوجه الى كربلاء وبناء البيوت والمواكب وتقديم الخدمات فيها من طعام وشراب من كل الثمرات فيه شفاء للناس, ومن ثم الانطلاق منها نحو الضريح المقدس, وسلوك كافة الطرق المؤدية اليه, كل ذلك اظهارا لكرامة الحسين وفضله وكشف مظلوميته وتبيان عظم تضحيته للناس جميعا.(( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )) سورة التوبة الآية 32.