غابت شمس العاشر من محرم الحرام عام 61 هجرية على تلك الارض المنسية ، وحل الصمت بعد أن نطقت الدماء ، ليخيم ظلامها على أجساد طاهرة غادرتها نفوسها الأبية تحت وقع سيوف البغي والعدوان ، أجسادا مقطعة الأوصال ورؤوسها على أسنة الرماح ، ومخيم أحرقته نيران النمرود ، ونسوة وأطفال عطشى هالهم ما آلوا إليه فانزووا في خباء ليس فيه من معيل سوى شاب عليل مقعد ، أرادت له السماء أن يكون بقية للنبوة ومنهل للإمامة ، ولبوة محمدية علوية ، هيأ لها صاحب الثورة أن تكون صداها وصوتها المدوي عبر التاريخ ، لتروي ما جرى على أل محمد (ص) بين النواويس وكربلاء وتفضح زيف وكفر بني أمية ، إنها العقيلة زينب بنت علي بن أبي طالب (ع) … التي يذكر السيد محمد كاظم القزويني في كتابه ( زينب الكبرى من المهد إلى اللحد ) .. أنها ولدت في الخامس من جمادى الأولى سنة 6 هجرية ، قبل وفاة المحسن ، بينما رأت بنت الشاطئ عائشة عبد الرحمن في كتابها ( بطلة كربلاء).. بأنها ولدت بعد وفاة المحسن … سميت زينب نسبة الى نبات عشبي ذو ازهار بيضاء فواحة العرف ، حسب ما ذكر مجد الدين فيروز آبادي صاحب كتاب (القاموس المحيط) ، ولقبت بعدة ألقاب منها… زينب الكبرى ، الحوراء ، أم المصائب ، الغريبة ، الطاهرة ، السيدة ، وأما لقب العقيلة فقد ذكر أبو فرج الأصفهاني في كتابه ( مقاتل الطالبيين ) .. أن عبد الله ابن عباس هو من أطلق عليها هذا اللقب لأنه روى عنها كلام أمها فاطمة الزهراء (ع) ، في ارض فدك ، فكان يقول ، حدثتنا عقيلتنا زينب بنت علي … اختارها الإمام الحسين (ع) لتكون بصحبته في رحلته نحو الكوفة مع ثلة من اهل بيته من رجال ونساء وصبية وأطفال ، لتكون عقيلة هذا الركب المبارك وسيدته ، ومن ثم صدى لثورة كانت ولازالت شعارا كبيرا لكل أبات الضيم والجور على مر الدهور… بدء دورها في هذه الثورة الحسينية من حيث انتهى دور الدماء الطاهرة ، وكان ذلك في مجلس عبيد الله بن زياد في قصر الكوفة بعد أن قيدت سبية هي ونساء وأطفال بيت النبوة بصحبة الإمام السجاد (ع) الذي كان مريضا مقعدا … فبعد أن اومات للحضور بالسكوت وصمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير نطقت بنت علي (ع) لتقول … الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، إلا وهل فيكم إلا الصلف والنطف والعجب والكذب والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء او كمرعى على دمنة ، او كقصة على ملحودة، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم ، أتبكون وتنتحبون ..؟… فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنى ترحضون، قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة ومدرة حجتكم، ومنار مججتكم، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم…إلى أن قالت عليها السلام …ويلكم يااهل الكوفة ، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ..؟… وأي كريمة له أبرزتم..؟… وأي حرمة له انتهكتم ..؟… لقد جئتم شيئا ادا ، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا … وتستمر تساؤلاتها لأهل الكوفة وهم ينصتون لهذا الصوت والمنطق العلوي الذين ألفوهما سابقا من أبيها عليه السلام …افعجبتم أن مطرت السماء دما ..؟… ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون … وبعد ثلاثة أيام على خطبتها هذه سار ركب سبايا آل محمد من الكوفة إلى الشام في مشهد يكشف عن مدى خسة وانحطاط المنظومة الحاكمة آنذاك وعظم حقدهم على نبي هذه الأمة محمد العظيم (ص) … ليقودوا نسائه وأطفاله وبقيته الإمام زين العابدين علي الأوسط (ع) … في رحلة أرادوها أن تكون رمزا لجبروتهم وبطشهم ومدعاة ذل لآل بيت النبوة … وأرادها الله بالعقيلة زينب (ع) ، أن تكون موكبا للإباء وصوتا مدويا لثورة عظيمة ظن بنوا أمية إنهم وأدوها في رمال كربلاء … دخل موكب السبايا إلى دمشق في غرة شهر صفر كما يذكر الشيخ إبراهيم الكفعمي في كتابه (المصباح ) ، والشيخ البهائي في كتابه (توضيح المقاصد ) … ووقف ركب السبي المحمدي في مجلس يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، لتكمل السيدة زينب (ع) ، ما بدأته في الكوفة بخطبة أذهلت الحاضرين ونبوءة لازالت تتجد عبر التاريخ من امرأة عالمة غير معلمة ، سليلة بيت النبوة ، ومنبع الرسالة ، وقفت هذه اللبوة العلوية غير آبهة بسطوة السلطان وجبروته وهيبة مجلسه ، ولم يكسر شوكتها ذل القيود ، لتقول لطاغية العصر … الحمد للهِ ربِّ العالمين ، وصلَّى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله كذلك يقول…( ثُمّ كانَ عاقبةَ الذينَ أساؤوا السُّوأى أنْ كَذَّبوا بآياتِ اللهِ وكانُوا بها يَستهزِئُون ) … أظنَنْتَ يا يزيد حيث أخَذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبَحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هَواناً وبك عليه كرامة… ؟… وأنّ ذلك لِعِظَم خَطَرِك عنده ، فشَمَختَ بأنفِك، ونظرتَ في عِطفِك، جَذلانَ مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مُستَوسِقة، والأمورَ مُتَّسِقة، وحين صفا لك مُلكنا وسلطاننا. مهلاً مهلا… أنَسِيتَ قول الله تعالى… (ولا يَحسَبنَّ الذين كفروا أنّما نُملي لَهُم خيرٌ لأنفسِهِم، إنّما نُملي لَهُم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مُهين) … أمِن العدلِ ، يا ابنَ الطُّلَقاء، تخديرُك حَرائرَكَ وإماءَك وسَوقُك بناتِ رسول الله سبايا قد هُتِكت سُتورُهنّ، وأُبدِيت وجوهُهنّ …؟ … تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهنّ أهلُ المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوهَهنّ القريب والبعيد والدنيّ والشريف… ليس معهنّ مِن رجالهنّ وَليّ، ولا مِن حُماتِهنّ حَمِيّ، وكيف يُرتجى مراقبةُ مَن لفَظَ فُوهُ أكبادَ الأزكياء، ونَبَت لحمه بدماء الشهداء ؟…
وتستمر عليها السلام في تقريع وفضح جور السلطة الأموية وخستها ، وتوضح للناس ماحدث ويحدث على آل بيت النبوة ، بعدما ضلل الأعلام الأموي الاحداث عليهم والتبست عليهم حقائق الأمور … الى ان قالت … فكد كيدك ، واسع سعيك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلا فند ، وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي إلا لعنة الله على الظالمين … ان هذه النبوءة العظيمة التي نطقت بها وهي في ذلك الموقف المأساوي وهي في قيد الأسر لحري ان نقف أمامها ونتأمل حيثياتها ودلالاتها النبوية الشريفة …فاهو قبر الإمام الحسين ظل لقرون طويلة والى وقتنا الحاضر محط رحال ملايين العاشقين لأهل هذا البيت ، يحج إليه المؤمنين من كل حدب وصوب يستلهمون عطر الشهادة وينهلون من دفق ثورته المباركة كل معاني العزة والإباء … تشير معظم المصادر إلى أن مروان ابن الحكم أشار على يزيد بإرجاع سبايا ال البيت إلى المدينة ، وقد أوكل الركب إلى النعمان ابن بشير الأنصاري الذي كان واليا على الكوفة قبل عبيد الله ابن زياد ، فكان يسايرهم في ثلاثين رجل لحراستهم ، فإذا ارتحلوا ارتحل معهم وإذا نزلوا نزل معهم ، وقد طلب منه الإمام السجاد (ع) ، بالعروج نحو كربلاء وهم في طريقهم الى مدينة جدهم النبي (ص) … فوافقه على ذلك … ويذكر أبو ريحان البيروني في كتابه (الآثار الباقية ) .. إن الإمام السجاد (ع) رد رأس الإمام الحسين ودفنه مع الجسد الشريف في العشرون من صفر سنة 61 هجرية بعد عودته من الشام … وقد وافقه ابن طاووس في ذلك في كتابه (إقبال الأعمال )… ومنها نشئ مايعرف بزيارة الأربعين أو ما يسمى بزيارة ( مرد الرؤوس )… وبعد أيام قليلة غادر الركب إلى حيث الديار مدينة رسول الله (ص) … لكن هذه المرة عاد الركب خاليا من نسل النبوة والأنوار الزاهية … موكب لايتام وثكلى وإمام عليل أنهكه الأسر وما جرى على أبيه وإخوته وعمومته يوم كربلاء … تحيط به جنود الشامين بعدما كان يحرسه قمر بني هاشم الإمام العباس وعلي الأكبر …هكذا دخل موكب سبايا آل بيت النبوة إلى مدينة جدهم محمد (ص)… ومن هنا انطلقت المرحلة الثانية للثورة الزينبية فجعلت من بيتها في المدينة منارا وصدى لثورة الحسين ، فأخذت تحرض المسلمين على حكومة بني أمية ، فخاف والي المدينة آنذاك عمرو بن سعيد الأشدق فكتب إلى يزيد يخبره بأمر العقيلة وتأليبها الناس عليهم فأمر يزيد بنفيها الى مصر … كما يذكر العلامة العبدلي في كتابه ( الزينبيات )… أنّ زينب الكبرى بعد رجوعها من أسر بني أميّة إلى المدينة أخذت تؤلّب الناس على يزيد بن معاوية، فخاف عمرو بن سعيد الأشدق انتقاض الأمر، فكتب إلى يزيد بالحال، فأتاه كتاب يزيد يأمره بأن يفرّق بينها وبين الناس، فأمر الوالي بإخراجها من المدينة إلى حيث شاءت ، فأبت الخروج من المدينة وقالت… لا أخرج وإن أهرقت دماؤنا، فقالت لها زينب بنت عقيل … يا ابنة عمّاه قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوأ منها حيث نشاء، فطيبي نفساً وقرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هواناً…؟… ارحلي إلى بلد آمن، ثم اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطّفن معها في الكلام، فاختارت مصر، وخرج معها من نساء بني هاشم فاطمة ابنة الحسين وسكينة، فدخلت مصر لأيام بقيت من ذي الحجة، فاستقبلها الوالي مسلمة بن مخلد الأنصاري في جماعة معه، فأنزلها داره بالحمراء، فأقامت به أحد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً،وتوفيت عشية يوم الأحد لخمسة عشر يوماً مضت من رجب سنة 62 هجرية ، ودفنت بمخدعها في دار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى … إلا إن خبر وفاتها في مصر ضعفه الكثير من المؤرخين حيث لم يذكر أي مؤرخ لمزارات مصر بوجود قبر العقيلة زينب بنت علي (ع) هناك ، وان اغلب الآراء تدل على إن المقام الموجود حاليا هناك ، أما أن يكون البيت الذي نزلت فيه عند نفيها إلى مصر، أو انه قبر زينب بنت يحيى المتوج بن الحسن الانور بن زيد بن الحسن بن علي (ع) … وهناك روايات تشير إلى أنها هاجرت مع زوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الشام سنة 65 هجرية وإنها توفيت هناك ودفنت في بيتها وهو القبر المعروف اليوم في دمشق … إلا إن الثابت هو انها توفيت سنة 62 هجرية أي بعد عام من واقعة كربلاء الأليمة …فسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث حية مع الانبياء والصديقين.