15 نوفمبر، 2024 9:36 ص
Search
Close this search box.

بنية الاستبداد في السرد العراقي ،في رواية مواسمُ الإسطرلاب للكاتب علي لفته سعيد

بنية الاستبداد في السرد العراقي ،في رواية مواسمُ الإسطرلاب للكاتب علي لفته سعيد

“الاستبداد ليس ما تصنعه الصدف ولا مكائد الشيطان ولكن مانصنعه نحن في بحثنا عن الخلود “
مما لا شك فيه ان الرواية الحديثة على وجه الخصوص تتحدى في تحولاتها المفاهيم التقليدية ذات الصِّلة بالسرد ، ففي الوقت الذي يؤثر في الرواية التقليدية التوجه الزماني الثلاثي المتسلسل ( ماضي حاضر مستقبل ) الذي يكتنفه حس السببية على حساب إبراز أهمية النص او العلاقات الاخرى التي تتداخل في النص الا ان الرواية الحديثة استطاعت من احداث تحول ونعطافة خطيرة في بناء الرواية العالمية بشكل عام والعراقية بشكل خاص ولاسيما البنية الزمنية والتداخل بين النص والحياة او بين الوعي والواقع . فقد نجحت  الرواية الحديثة من تحويل مسار هذه العلاقة من طابعها التقليدي السببي   الى علاقة جدلية تبادلية بين هذه العلاقات اي بناء علاقة حوارية بين الازمنة والأمكنة والأشخاص باعتماد التعددية الفونيمية للأشخاص . ومن هذه الروايات رواية مواسم الاسطرلاب للكاتب علي لفته  سعيد التي صدرت في طبعتها الاولى عن دار الشؤن الثقافية في بغداد سنة ( ٢٠٠٤)، فقد بنيت الرواية على التكسير والتلاعب  بالزمن ، الذي يتحكم به الراوي العليم مستعينا بتقنية السرد المتداخل او حلقات السرد التي تسربت من الحكاية والقصة الى الرواية ،وذلك  بكسر الأسلوب التقليدي للزمن المتسلسل ، و التعامل مع الزمن على انه صيرورة لامتناهية من التحولات وكما يسميه ( جانيت )  بلا زمانية النص السردي ، ولذي كان لوقت قريب يغيب عن المنجز الروائي  . تبداء رواية الاسطرلاب بأسلوب الوصف الاعتيادي للأحداث وذلك لتطمين القارء على انه امام احداث واقعية ،لكن سرعان ما سيدرك القارء الجيد انه امام واقعية ثيمية ذات دلالات رمزية عميقة ( دخل القصر محاطا بحراسة تحف به ﻫﺎﻟﺔ من الخوف وكأنه يسحبها معه )، فمن اللحظة الاولى الذي يضعنا فيها المشهد امام صورة حاكم  او زعيم  صاحب سطوة وقوة مرعبة لكل من حولة والتي تبداء من المكان القصر ونزولا لحظة التقهقر والعزلة ومن ثم الاختفاء ، تتضح رؤية  الكاتب لوضعنا اما لحظة توتر ومفارقة ومن ثمة ترقب لما سيحدث( منذ الصباح رأوه يدور باحثان عن شيء يشبه الوهم ) ان هذا التحولات تجعل النص ساحة مفتوحة على عدت تساؤلات نفسية وجتماعية وفنية طالما شكلت الوعي الجمعي للعراقيين والتي تكشف عن الصورة الغيبية للحاكم التي تسربت عن طريق تاريخ طويل عاشه العراقيين من العبودية والاستبداد حتى بات جزء من واقعهم المعاش لايمكن العيش بدونه ،لكن سرعان ما ينتقل النص  بعد هذا العرض الموجز  لصورة الدكتاتور ،  الى احداث ذات سياق إيهامي أسطوري فلسفي تتداخل فيها صراعات سسيو تاريخية ومثلوجية وأنثروبولوجية تتمحور حول طبيعة الوجود الإنساني  وقدرته على أسطرة الواقع من خلال سعيه الحثيث للبحث عن الخلود حتى لو تطلب ذلك إنتاجه لوعي  أسطوري زائف يساهم في فقدانه حريته وخلوده الوهمي الذي صنعته له سلطة الاستبداد . اعتمد الكاتب اُسلوب الاسترجاع والاستدعاءالاسطوري والحكائي للدلالة على الضعف الإنساني في بناء واقع حقيقي يضمن أنسانيته المقهورة، لذلك ظل هذا الوعي الأسطوري يبحث عن المخلص اكثر من بحثه عن الواقع ٠ تصنف الرواية في الكثير من أقسامها ضمن تيار الواقعية السحرية من خلال اعتمادها على زمن أسطوري ( فنتازي) وتراكيب وصياغات جملية شعرية خطابية قصصية تحمل طابع أسطوري تسربت من قصص الخلق الاولى ( دخل الزوبعة التي لم تهداء ..بل تزداد هيجانا .. انه الموت بصورته البشعة ) . ان عتماد الكاتب توظيف الأسطورة في النص هدفه الأساس دفع النص الى مساحات تأويلية مفتوحة على  دلالات رمزية ،لذلك خلت الرواية من اسماء شخوصها سوى بشكل رمزي استعاري حاكم ،زوج ،زوجة ،حكيم ،عرافة ،أب، ام  كذلك بني الحدث على ثنائية صراع المثلوجي  بين الخير والشر او النور والظلمة  او العبودية والحريّة ،والتي  تنتهي عادتا نهاية سعيدة او انتصار الخير على الشر ، وهذا ما يؤخذ على الرواية . لكن هذا لا ينفي ان الرواية حملت في الكثير من أقسامها غموضها لانها تحتاج الى متلقي متسلح بوعي نقدي فني ومعرفي ، فالتدفقات الشعريةالداعمة للسرد تحتاج الى حساسية لغوية خاصة لفك ترابط أنسجتها القيمية ( لم أولد لكي اضاجع ولا بد لي من بلوغ قمة الانبعاث) تتحرك الأحداث بشكل انتقائي بين الحاضر والماضي او ما يسمى طريقة الفلاش باك يبداء الروي من لحظة القصر والحاكم المتسلط المخيف القادر على التحكم بمصائر الشعوب وينتهي نهاية مأساوية بشكل أسطوري تاريخي  حيث يكرر الكاتب هذا الانتقال في جميع أقسام الرواية كزمن دائري مغلق  ( احذر فأنا اعرف حتى دوران دمك وبوصلة تحركاتك . احذر ان تغير اسطرلابك في الاتجاه المعاكس)  ان ارتباط زمن الحكي بزمن الخطاب  جعل النص يسير في محيط تاريخي ثقافي معين في محاولة من الكاتب لإضفاء طابع الاتهام الضمني لكل الشعوب التي تشيد  وجودها على وهم (نحن من نعطي الفرص للوقوف على رقابنا)  ، عليه فمواسم الاسطرلاب هي تحول الوعي بين الواقع والأسطورة الذي طالم شكل حياتنا ووجودنا لدرجة أضعنا معها اسطرلابنا الإنساني الحقيقي وتشبثنا باسطرلابنا الأسطوري الوهمي الهش( هكذا هم البشر ، ما ان تغمض عين حتى يفقأوا الاخرى وإذا شًبعو فكروا وإذا سماحتهم تمادوا ) او في فقرة اخرى ( الخوف هو سيد الموقف) . تنتهي الرواية بكشف زيف ما اعتقدنا يوما انه الاله او المخلص الذي يحي ويميت القوي الشافي والواهب للحياة ، ففي حوار بين الزوجة وحارسه الشخصي يتأكد لنا هذا النزوع الأسطوري للسلطة ،  ( لا حياة لكم بدونه – لذلك صرتم مثلة تمتهنون لعبة الموت) تنتهي قصة الوهم الذي طالم استعبدنا . استطاع علي لفته سعيد في روايته من الولوج الى عمق الوعي الأسطوري للشعوب التي تتمركز حول سلاطينها او مقدساتها وذلك عبر نقل النص من طابعة الجمالي الفني الى خطاب ثقافي يسعى لفك شفرة التسلط التي استحوذت على عقولنا لفترة طويلة وذلك عبر كشف انساق ذهنية وثقافية او كما يُسمها ( فوكو) الخطاب الثقافي والذي يمثل لهذه الشعوب ( ملاذا ثقافيا )  ان ما  تحاول التاكيد علية هذ القراءة هو حجم الوهم الذي أرسته ثقافتنا الشرقية عبر إنتاجها لأنساق استبدادية مضمرة كما يسميها ( الغذامي )  فالحياة الانسانية في ظل التسلط والعبودية لا يكن ان تكون حياة قادرة على على دفع الوعي الإنساني الى اعادت انتاج معاني إنسانية تخدم مسيرته نحو الحرية لذلك ارتبط الاستبداد او الطغاة بشعوب فقدت قدرتها على بناء حياتها وتشبثت بأساطير ماضيها وخرافاتها ليصبح بعدها الانسان  (المواطن )كائناً بلا حاضر ولا مستقبل  .

أحدث المقالات

أحدث المقالات