الكتابة بمعناها العام ،بعيدا عن المقاصد التخصصية، نشاط ذهني متاح للجميع ولكن يمارسه اشخاص يمتازون عن غيرهم بقدرتهم على الاستفادة من الخزين المعرفي الذي يمتلكونه وذلك بتكييف الحروف والكلمات بصياغة مناسبة للتعبير عن افكارهم ومتلائمة مع قواعد هذا اللون من النشاط . والكتابة الجيدة والناجحة تكون مستساغة من الاخرين ومن دون شذوذ يولد نفورا من قبل المتلقي فيضيع الهدف منها والكتابة النافعة هي التي تعبر عن طموحات وحاجات المتلقي المختلفة او تزيد وعيه او تساهم بنشر المعارف التي تخدم الانسان.
وللكتابة بمجالاتها المختلفة دوافع عديدة نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية ودينية وعلمية يلعب المستوى الثقافي والحالة النفسية والانتماء العقائدي للكاتب الدور الاساسي في تحديد هذه الدوافع فبعض الكتاب يعبرون من خلال الكتابة عن الاستجابة لحالة غليان الافكار وتصارعها في مواطنها لديهم وحاجتهم لتنظيمها والتخلص من عبئها او الرغبة بتلبية حاجة نفسية للظهور اوالاشتراك مع الاخرين في نشاطاتهم او البحث عن القاب وصفات تشبع عطشه فتوفر له شعورا بالنشوة . والبعض يلجأ الى الكتابة ليمارس دورا اجتماعيا او ثقافيا لنشر الفضيلة او الوعي او لزيادة معارف الاخرين ويلبي حاجتهم لما يريدون منه في مجالات قدرته على الكتابة . وبعضنا يكتب من اجل الدفاع عن الدين او نشره او محاربة البدع الداخلة فيه طاعة لله تعالى وتقربا اليه.
وتمتاز الكتابة عن اسلوب اللقاءات المباشرة والحوار من خلالها مع العائلة والاصدقاء وحلقات المجتمع الاخرى بان لها فرصة افضل في الانتشار وتحقيق الاهداف نتيجة توفر وسائل الاعلام الداعمة القديمة منها ، المقروءة والمسموعة والمرئية ، والحديثة مثل مواقع التواصل الاجتماعي حيث توفر هذه الوسائل امكانية الوصول الى المتلقي بشكل اكبر لكثرة من يتعامل معها من جهة ولانها تقتحم المتلقين في عقر دارهم من دون حاجة الكاتب الى استقبالهم او البحث عنهم .
فاذا تحققت الكتابة بدوافعها المختلفة وتحقق وجود المتلقي سواء الذي يبحث عن الكتابة او الذي تاتيه وتحقق وصولها اليه فهل يتحقق بهذا تاثير الكتابة عليه ؟
شخصيا ومن خلال دراسة الواقع العراقي في المجالات السياسية والدينية والفكرية اعتقد بعدم وجود تاثير فعال او حتى ملحوظ للكتابة على المتلقي فالكثير من السنة والشيعة يكتبون ليبين كل منهم صحة مذهبه وخطأ المذهب الاخر ومع ان كل منهم يستدل بكتب الاخر على صحة مذهبه وانحراف مذهب الاخر ومع وفرة الانتقادات وقوتها من كلا الطرفين فان النتيجة هي تمسك كل منهما بانتمائه وترسخ فكرة خطأ الاخر بل تعصب كل فريق لمذهبه حتى لو كان على حساب الحقيقة .
وكذلك في المجال السياسي فان الكتابة لم تؤثر كثيرا على المتلقي فقبل الانتخابات الاخيرة كان الجميع من المراجع والسياسيين والشعب ينادي بضرورة تغيير الوجوه التي كانت سببا بالفساد والفشل وحتى الفاسدين والفاشلين رفعوا نفس شعار التغيير والنتيجة ان الغالبية ذهبت وانتخبت المعروفين بالفساد والفشل. ومن جهة اخرى فان جميع الاحزاب والبرلمانيين والحكوميين والكتاب ووسائل الاعلام جميعها تكتب وترفع صوتها بمحاربة الفساد المالي والاداري لانه الاساس في خراب البلد ولكن النتيجة ان الفساد يترسخ ويتعمق ويزداد طولا وعرضا ومالا بل ان الفاسدين ايضا يشتركون بالكتابة لمحاربة الفساد حتى صار العراق الاول عالميا بالفساد … فمن هو الفاسد اذا كان الجميع يدعون لمحاربة الفساد .
ومن باب الذكر اللطيف فاني نشرت في حسابي على الفيسبوك قبل مدة منشورا يدعو الى استخدام الكلمات اللائقة في الحوار والتعامل المؤدب حتى مع المخالف واستقبال الخطا من الاخرين بروح رياضية وشارك الكثير من الاصدقاء بالاعجاب والحوار مبدين تاييدا كبيرا ولكن البعض منهم المعروفين بالمستوى الجيد على الصعيد الوظيفي والثقافي والعائلي نسوا مشاركتهم وتاييدهم حالما خرجوا من المنشور فقد نشروا على حساباتهم مستخدمين كلمات واسلوب كنا قد تشاركنا في منشوري بانتقادها . ونفس الصورة موجودة في حالة الكتابة في المجالات الاخرى .
وهكذا فان واقع الحال يبين ان الكتابة هي تعبير عن الرغبة بالكتابة اكثر من كونها وسيلة للتاثير بالمتلقي الى حد تغيير افكاره او سلوكه او ثقافته الى ما تريده الكتابة .
ومع كل هذا الواقع المظلم فاننا لن نكف عن الكتابة تقديرا لثقوب صغيرة تمرر الضوء من لوحة الظلام الدامس.