رحلة مع بناة الأنسان العراقي
لا أظن من ان الشجرة الجيدة إلا وتعطي ثمارا طيبة، او ان الخبز الشهي، إلا ويأتي من (خميرة) جيدة. هكذا تثبت لنا الحياة يوما بعد يوم، وعلى الأقل بالنسبة للجالية العراقية/ الكلدانية في ديترويت، فالذي يدقق النظر في اعداد الطلبة المنتسبين للمدارس والجامعات، او من الخريجين وأصحاب الأختصاصات والشهادات العليا التي يتقلدها ابناء وبنات الجالية ، سـوف يتملكه شعورا غامرا بالفرح والأعتزاز، اما بالنسبة لي، فأن تفسيري لهذه الظاهرة الرائعة، بسيط جدا، فإن هذه الثمرة اتت من بذرة طيبة ، وهذا الخبز الرائع اتي من خميرة اروع، ولعلها تلك القامات الشامخة العالية التي زرعت العلم والمعرفة والثقافة وحب الوطن والناس عند التلاميذ منذ ذلك الزمان البعيد، ولولاهم فما كان سيكون عندنا هذا الحصاد الطيب!
ان الأحتفال بهذه الرموز البديعة، رغم غيابها منذ سنين طوال، هو شهادة على العمل الرائع الذي قدموه، ومازلنا نشهده لليوم في ابنائهم وبناتهم وأحفادهم وأبناء بلداتهم، من الذين ارتقوا سـّلم العلم والتقدم ليكتبوا مشوارا نفخر به جميعا. الذكر الطيب لهم دائما، والشكر موصول لعوائلهم الكريمة.
************ **************** *************** ****
المربي الراحل فرنسيس بطرس كَرمـو (مسـتر)
أول معلم للغة الأنكليزية بتأريخ تلكيف
من مواليد مدينة (تلكيف) التابعة لمحافظة نينوى في العام 1887 وفي محلة (أسـمر) وتوفي في بغداد عام 1962. متزوج من السيدة شوشـي حنا قينايا ورزقوا بأربعة بنين وبنت واحدة. وبحساب اليوم فسيكون له 30 حفيد و 12 من ابناء الأحفاد.
كانت الصدفة الطيبة هي التي دلتني على هذه العائلة الكريمة بعد ان طرح الأستاذ (مسعود بريخو) اسم هذا المربي علّي، فكان اللقاء عبر العزيز (كمال كَرمو) مع والده السيد (صبري كَرمو) وجرى هذا الحوار الشيق حول ذكريات تمتد لأكثر من 100 سنة، عاش قسم منها، وسمع عن الآخر. وبالحقيقة فأني ممتن لهم، وللسيد صباح كرمو (ابن الراحل ايضا) الذين فتحوا خزائن الذاكرة وساعدوني بتحقيق هذا الريبورتاج الذي اعتبره مهما جدا، لأنه يتطرق الى الأيام الأولى لتأسيس التعليم في القرى والبلدات النائية في العراق وأعني (تلكيف وشقيقاتها) كما سيتضح من الحوار.
بدء السيد (صبري كَرمو) حديثه عن والده بالقول: في ذلك الزمان السحيق، كانت فرص العمل محدودة للناس في تلك القرى النائية، فقد عمل جدي (والد المربي فرنسيس) في حقلي الزراعة ومكائن الطحن التي كانت تملكها العائلة. ففي موسم الزراعة كان مزارعا، وبدون الزراعة كان يشرف على (الرحا) مكائن طحن الحبوب (صيفا) وعمل الراشي (شتاءا) وهكذا كانت اجواء الحياة عشية ولادة والدي المرحوم فرنسيس كَرمو. ولم تمض سـوى سنين قلائل حتى قرر جـّدي مغادرة بلدة (تلكيف) والتوجه الى (بغداد) بحثا عن فرص عمل افضل، وقام حينها بمساعدة من بعض الأقارب في بغداد بفتح مطحنة للحبوب، استغلت صيفا لسحق الحبوب وعمل الطحين وفي الشتاء لعمل الراشي، وكان قد شاع في بغداد اواخر القرن التاسع عشر عمل المبشرين الأمريكان، وافتتاحهم لمدرسة أهلية في المنطقة المناصفة بين السنك والمربعة (كانت تسمى بالمدرسة الأمريكية)، فقام جـّدي بتسجيل والدي بها من اجل التعليم. وتمض سنين قلائل وأذا به يأخذ ابنائه ويتجه للبصرة ويقوم بنفس العمل في افتتاح مطحنة للحبوب صيفا ولعمل الراشي شتاءا، وتشاء الصدف ان تكون في البصرة مدرسة (امريكية ايضا) فيكمل والدي دراسته فيها حتى الصف السادس ابتدائي وكان عمره آنذاك حوالي 16 عاما (كما سمعت) ويكمل بعدها الدراسة حتى الصف التاسع، ويبدو انه اتقن اللغة الأنكليزية اضافة الى الدروس النظامية الأخرى. يقرر جـّدي (يكمل الأستاذ صبري كرمو حديثه) العودة الى الموصل وقضاء تلكيف، وقد بلغ والدي حينها 21 عاما، فلم يرغب كثيرا العمل في الحقول من جديد وفضّل العمل كمعلم، ولأن المكان الوحيد آنذاك كان (كنيسة البلدة) فيُقبل هناك ويعمل الى جانب الأب الفاضل اسطيفان قلابات والشماس الفاضل توما جولاغ، ويقال انهم كانوا ينون اضافة ثلاث معلمين الى ملاكهم حتى يكتمل النصاب. تمض الأيام والسنين ويحدث ان تتوقف في البلدة سيارة قرب الكنيسة ، كانت تحمل مجموعة من الخبراء الأنكليز (رجالا ونساء) يبدو انهم توقفوا هناك وبدافع الفضول للتعرف على البلدة وسكانها وتأريخ كنيستها، فيتحلق حولهم الأهالي ويدور بينهم حديث (الخرسان) فلا الأنكليز يتكلمون (الآرامية – السريانية – السورث) ولا الأهالي
يتحدثون الأنكليزية، حتى برز من بينهم من انقذ الموقف، وكان ذلك هو السيد (فرنسيس كرمو)، فتحدث معهم باللغة الأنكليزية، وصاح به احدهم (لقد اتى بك الله) حيث توفرت آنذاك فرصة للتفاهم ومعرفة مايجري، وتبين لاحقا بأنهم مجموعة من الخبراء الأنكليز وعندهم قاعدة في الموصل (كان ذلك عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى بحدود 1918)، ونظرا لمعرفته باللغة طرحوا عليه فكرة العمل معهم في القاعدة، فأجابهم في الحين (لقد اتى بكم الله) وهكذا عمل معهم لمدة ثلاث سنوات حتى العام 1921 اذا كان يستلم راتبا جيدا (75 روبية هندية في الشهر، وكانت 13 روبية = 1 دينار)، وبزّة عسكرية ومؤنة غذائية كانت تسمى (دراي راشن)، وفي حينها كان لوالدي ولدان وبلغ من العمر حوالي 31 سنة. الطريف في الأمر، ان مجموعة الخبراء الذين زاروا تلكيف وألتقوه اول الأمر، وما ان علموا انه يتحدث الأنكليزية حتى صاروا ينادوه (مستر فرانسيس) اي (السيد فرنسيس) في تعاملهم معه ذلك اليوم. ولما كان الكثير من ابناء البلدة قد تجمعوا حولهم ليعرفوا المزيد في ذلك اليوم، فقد تعلقت في ذهنهم كلمة (مستر) وصاروا يلقبوه ب (مستر) كما فعل الأنكليز، ويمضي هذا اللقب، ويذهب سكان البلدة لتسمية ابناء السيد فرنسيس ب (ابناء أو بنات مستر) ويمضي اللقب، ويعبر المحيطات الى ديترويت ومرورا بالعاصمة بغداد، اذ درج العديد من الأهالي او المعارف على تمييز هذه العائلة ب (اولاد مستر أو من بيت مستر فقط) رغم ان عائلة كَرمو من بين عوائل تلكيف الكبيرة نسبيا، لكن وللتشخيص الصحيح والدقيق، لم يعد كافيا ان تقول انهم من عائلة (كَرمو) بل يجب ان تردفها بكلمة (مستر) .
بحلول العام 1921 عاد والدي (فرنسيس كَرمو) الى تلكيف وكان قد ازداد خبرة وعلما ، فوجد ان الأجواء صارت ملائمة لأفتتاح مدرسة ابتدائية رسمية في البلدة، بعد ان كانت الكنيسية تقوم بعملية التعليم لرعاياها، وهكذا عقد العمل على ذلك، فعُيّن الأب إسطيفان قلابات مديرا لها ، وحصل والدي على مركز (المسؤل – المعاون) وبذلك كان اول شخص يتبوأ صفة (معلم) في تأريخ تلكيف ودرّس مادتي (اللغة الأنكليزية) و مادة (أخلاق ومدنية). خدم هناك لعدة سنوات، ثم نقل الى بلدة (باطنيا) التي كانت تفتقد للمدرسة، فقام بأفتتاح واحدة لهم وخدم فيها لمدة خمسة سنوات ( وكانت تبعد عن تلكيف حوالي 5 كلم، وكان يستخدم الحمار لتنقلاته آنذاك يوميا) ويقول السيد صبري: في تلك السنين ولدت عام 1928 ، ثم نقل ال مدينة (العمادية) التي مكث فيها مع العائلة لمدة 4 سنوات وخدم في مدرستها، عدنا بعدها الى بلدة (تلكيف) ، ولم يمض وقت طويل حتى نقل والدي الى (القوش)، وهناك درستُ الصفوف الأول والثاني والثالث في مدارسها، بعدها (للعمادية) ودرستُ الصف الرابع، وأستمر مسلسل النقل، الى (مانكيش) ثم الى (كاني ماصي) ثم الى منطقة في (شمال زاخو) ، وعدنا بعدها الى (تلكيف) حتى العام 1947 حيث استحق التقاعد. قصدت العائلة العاصمة بغداد ، ومضت السنين، اذ رحل والدنا (مستر) عام 1962 بعمر (75) سنة.
ثم ينضم لهذا الحوار السيد (صباح كَرمو) ابن الراحل ويسرد بعض الذكريات بالقول: لايكاد يمر اسبوع الا وأصادف شخصا ويثني على سيرة والدي، وهذا يزيدني فخرا به، فيقولون لي: كان يجعل من درسه سهلا (كالماء) للطلاب، ولايترك التلاميذ الا عندما يتأكد انهم فهموه ، و كثيرا ما يسوق لنا الأمثال والعبر، اما زملائه المعلمين فيقولون عنه، انه كان اجتماعيا ومتواضعا، وغير متكبر، وعن علاقته بالطلاب فيذكرون: كان كثير التأكيد على ان مهمته هي (تدريس) الطلاب وليس (عقابهم). امّا كأب (يواصل السيد صباح الحديث): كان أكثر من أخ لنا نحن الأبناء، و لم يصرخ او يضرب اي منّا ابدا، وفي مسألة التدبير المنزلي، فقد برع في العمل فيما برعت والدتي في ادارة البيت على افضل وجه.
يعود السيد (صبري كَرمو) لأكمال الحديث ويقول: كان لوالدي هواية في كتابة الشعر، وفعلا كانت له (ملحمة) كتبها عن جرائم الجيش العثماني بحق الأرمن والمسيحين في قرى شمال العراق، لكن ما لايمكن نسيانه هو قيامه بتأليف أول وأهم كتاب عن (فاجعة تلكيف العظيمة) والذي نشره كشاهد عيان على حادثة الغرق المشهورة، اذ انه كان يملك محلا صغيرا للبقالة في سوق تلكيف، حينما هجم السيل – يوم 1 نيسان 1949 – وكنتُ آنذاك (صبيا) وأقف معه في المخزن، وأذا بالسيل الجارف يمر من امامنا ونحن مرعوبون، وقد كان من ضحاياه (41 بنت صغيرة، وطفل واحد وشاب واحد) من البلدة، ومازال ذلك اليوم شاخصا بسمائه السوداء الملبدة وذكراه المؤلمة حتى هذه اللحظة.
ويقينا ان ابينا الفاضل الذي جاهد مع والدتي في تربيتنا ورعايتنا بأفضل وجه، كان سعيدا بأن يكون أحد اخوتي (كَوركَيس) قد اختار سلك الكهنوت، وربما كان سيكون اكثر سعادة لو شاهده وهو يعتمر الطاقية الحمراء ويكون (المطران كَوركَيس كَرمو ابن المربي الفاضل مستر). الرحمة على اراواحهم الطاهرة والذكر الطيب لهم دائما.
لا أظن ان فكرة اطلاق اسم المربي الراحل (فرنسيس أو مستر ) على احدى مدارس مدينة تلكيف، او رفعه في احدى قاعاتها او صفوفها، كان سيكلف الدولة او المسؤلين أكثر من قيمة (الحبر/ الطلاء) المستخدم، وذلك تكريما له
ولجهوده ودوره التربوي وحتى تبقى مأثرته حاضرة للأجيال اللاحقة، لكن وللأسف ، فأن مدارسنا ومدننا وشوارعنا وساحاتنا العامة تعج بأسماء وشخصيات، لم يكن لها يوما اية علاقة بالعراق او تأريخه او شعبه، سوى انها كانت رغبة الحاكم ليس الا!
************ **************** *************** ****
المربي الراحل جورج جبوري ججو خوشـو
من مواليد العاصمة بغداد في العام 1920 وتوفي في مدينة ديترويت الأمريكية عام 2003. كان متزوجا من السيدة ماري حكيم، ورزقوا بثلاث بنات وأبن واحد، ولهم الآن خمسة احفاد.
تسعفنا الحياة احيانا بسطورا وأوراق وأيام نسخت وسجلت احداثاً ورسمت وجوهاً ، عاشت ومن ثم رحلت ، لكنها تركت بصماتها الجميلة لنا، ترويها ذاكرة وذكريات من عاصرهم وشـّم عبيرهم، وفي حالنا هذا، كانت السعادة كبيرة بلقاء الأستاذ (أكرم جبوري) شـقيق الراحل جورج جبوري. الشخصية الوطنية المخلصة والمتميزة بثقافتها ومواقفها الأنسانية، ناهيك عن امتلاكه قابلية رائعة في التذكر لا يملكها حتى الشباب في هذه الأيام! ففتح بيته وقلبه لهذا اللقاء، بأمل ان يوصل أحلى مايتذكره عن الراحل، ويبدأ الأستاذ أكرم الحديث: إسـتهل الراحل اول خطواته بالمعرفة في،
– (مدرسة الطاهرة الأبتدائية) والتي كانت كائنة في (عكَد النصارى) خلف كنيسة “ام الأحزان” وبعدها اكمل في
– (المتوسطة والثانوية المركزية للبنين) ، وبعد تخرجه منها عيّن
– معلما في مدرسة (القديس يوسف اللاتينية) والملقبة بمدرسة اللاتين في منطقة “سوق الغزل” مع بداية العام 1940، وبعد مضي حوالي (4-5 سنوات) اصبح مديرا لها.
لقد كانت عنده طموحات كبيرة في مجال العلم والمعرفة، فدخل (معهد الفنون الجميلة/ قسم التمثيل) والذي كان بأدارة الفنان المرحوم (حقي الشبلي) مع بقائه معلما في مدرسة اللاتين، لكنه وللأسف لم يكمله. ثم حاول بعد سنين ، وعندما كان مديرا للمدرسة دخل (كلية الحقوق) ولم يكملها هي الأخرى. وبحلول العام 1952 قدّم استقالته من المدرسة ورحل الى الولايات المتحدة. وأعاد الكرة في هذه البلاد فتقدم للدراسة في (جامعة وين ستيت / قسم التربية والتعليم) ولم يكملها هي الأخرى، فأنصرف للأعمال الحرة من اجل اعالة العائلة. ولمن يعرفه فأنه كان متعدد الهوايات، ولعل عشقه للغة العربية (التي برع في تدريسها عندما كان معلما) دفعه لنظم الشعر وللبروز كخطيب بارع، وهو ذو الصوت المؤثر، اما في مجالسه التي أحبها كل من زامله في هذه البلاد، فقد كان يحب الغناء العراقي الأصيل وخاصة (البستات)، وبالعودة لهوايته اللغوية، فقد جمع في بيته مكتبة عامرة بنفائس الكتب، وخاصة في حقلي الأدب والشعر، وحينما هاجر فأنه تركها في عهدة شقيقه عمانؤيل، لكنها لم تنجو من مخالب (الحرس القومي في انقلاب شباط 6319) فأستولوا على اغلب كتبها، وما تبقى منها ، شـحن لديترويت آنذاك، ومن ضمنها (6) مجلدات من (جريدة الزوراء العراقية – اول جريدة عراقية) وكانت بتوقيع المرحوم العلامة (انستاس الكرملي) . ظلّ وفيا لأفكاره الوطنية ولعلاقاته الأجتماعية طوال حياته في مدينة ديترويت، فأنظم الى نخبة المثقفين في جلساتهم، وساهم بالكتابة في المجلات والجرائد المحلية الصادرة، وخاصة (مجلة الهدف)، كما برز في التجمعات المحلية التي كانت تضمهم اولى كنائس الجالية في (شارع هاملتون) ابان عقدي الخمسينات والستينات.
يكتب المربي الراحل جورج جبوري في مقالته (خزائن كتبي) المنشورة في (مجلة المنتدى) التي كان يشرف عليها الأستاذ (فؤاد منّا) بعدد آذار 1995 : “منذ ان كنت فتى في الرابعة من عمري كنت مولعاً بالخطابة، وكنت استخدم صندوقاً (يخزن والدي فيه الكتب) كمنصة اعتليها لألقي بخطاباتي، وبعد دخولي مدرسة الطاهرة شجعني استاذ العربية آنذاك (سعيد شابو) على الخطابة ايضا، ومن المصادفات الجميلة ان يزور مدرستنا وفدا من طلاب (دار المعلمين الأبتدائية) كمطبقين ، وكان من ضمنهم الطالب (نعيم صرافا – الذي حصل على الدكتوراه لاحقا) ، فطلب مني ان ألقي قصيدة قومية في حشد الطلبة، نالت اعجاب كل من سمعها. كان شقيقي الأكبر (الياس جبوري) مولعاً بالكتب العربية، وبضمنها كان هناك كتاب للأديب والشاعر الكبير “جبران خليل جبران” وأسمه (الأجنحة المتكسرة)، فأولعتُ به كثيرا، وقرأتهُ مرار وتكرارا وبلا ملل، لكن الكتاب كان لأخي وكنت اقرأهُ خلسة. تدور الأيام وتجمعني الصدفة بالسيد (موسى ساوا ابونا) الذي قدم الى بغداد من مدينة (القوش) طلبا للعمل، فنزل في بيتنا لبعض الوقت حتى تدبير أموره، اذ عمل طباخا في مستشفى السكك حتى اصبح رئيسا للطهاة، وبعد هذا التطور في عمله، وتبدل قيافته بالكامل، تقدم لي بطلبا (رائعا) وأنا الطفل الصغير بأن (ادرسـّهُ) اللغة العربية مقابل اجرة قدرها (بيزة هندية = فلسا واحدا) فقبلت العرض، وسـُعدتُ كثيرا، وجمعتُ من عملي هذا (20 بيزة) اخذتها الى (سوق السراي) وأشتريت نسختي من (الأجنحة المتكسرة) وصرت اقرأها لأصدقائي، وآخذ نسختي للمدرسة وأينما ذهبت، لدرجة ان زملائي صاروا يلقبوني ب (ابو جبران) لكثرة تعلقي بالأديب (جبران خليل جبران)، وتشاء الأقدار وأهاجر الى امريكا
وأتزوج، وحينما رُزقنا بالأبن، فقد كان اسمه حاضرا (منذ عشرات السنين) وفعلا اسميناه (جبران) وصرت الآن أُكنّى ب (أبو جبران) بحق وحقيقة”.
اما الأعلامي الأستاذ “فؤاد منا” صاحب (مجلة الهدف)، ومن ثم (مجلة المنتدى) فيتذكره بالقول: ” لقد تميّز بصفات قلما تجدها عند الآخرين، وحصل في نفسي على منزلة خاصة كانت مزيجا بين الأب والمرشد والأخ والصديق والزميل. كان وفيا في تعامله مع الآخرين وصادقا في كلامه، وأنسانا يقدّس الوقت والألتزام بالمواعيد أيا كانت! ومن النادر ان تصادف اناسا يفرضون احترامهم على الآخرين، ليس بالعنجهية بل بقوة الشخصية وكلامه الموزون، وكم كنت اكّبر فيه فكره التقدمي وأهتمامه بأخبار الحركة الوطنية العراقية التي كان يؤازرها قلبا وموقفا. ومن الطرائف التي تقال عنه، بأنه كان متعصبا ضد سـرّاق الكتب، الأشخاص الذين يستعيرون الكتاب ولا يعيدوه، ويبدو انه قد ضاق ذرعا بهم، فرفع شعارا فوق مكتبته هنا يقول (لا تطلب مني كتاب، لأني لن اعيره لك!)
لقد بدأت علاقتي بالراحل جورج جبوري منذ ان قدمتُ لهذا البلد في عقد الستينات وكان قد سبقني الى هنا، ويومها كان يملك مخزنا (في منطقة هاملتون / ديترويت) لبيع البقالة العربية، وأستمرت علاقتنا حتى رحيله. وأتذكّر أني في اوائل 1970 استشرته حول رأيه في اقبالي على اصدار مجلة (الهدف) الأسبوعية، فقال لي بالحرف الواحد: سأفرح من كل قلبي، وأعملوا بجد من اجل ان يكون المطبوع نظيف، وصادق حتى يكون مفخرة لنا جميعا.ومن المشاهد المؤثرة التي اتذكرها، بأنه أصّر على حضور الحفل التأبيني الذي أقيم للقائد الوطني (توما توماس) في ديتروت ، رغم اعتلال صحته وأستخدامه ( عصا الأسناد) لكنه أصر على الصعود للمسرح وألقاء مساهمته. اما قبل رحيله فقد كتب مقالة بعنوان(ايها الصحفيون التقدميون، الى الأمام) يعلن فيها صراحة موقفه من الوطن والوطنيين ومن المتربصين بالعراق. لقد كان دائم الحضور الى منتديات (المنتدى)، ويمكن ان اذكر من سجاياه، بأنه كان مستمع جيد وقليل الكلام، وقبيل رحيله قام بأهداء معظم كتبه الى مكتبة ديترويت العامة/ القسم العربي، من اجل فائدة اكبر للقراء، وحتى تكون بمأمن من التلف والضياع.
الذكر الطيب والدائم للراحل الكبير، الأستاذ جورج جبوري، ابو جبران.
************ **************** *************** ****
المدرسـة الراحلة ديزي داود عجو – عجو
ولدت في العاصمة بغداد عام 1928 وبالتحديد في منطقة صبابيغ الآل (سوق الغزل – عكَد النصارى) وتوفيت عام 1985 في مدينة ديترويت. تزوجت من المرحوم الشماس عزيز طوبيا عجو، ورزقا ببنتان وولدان، وبحساب الزمن لهما الآن 4 أحفاد و 4 من ابناء الأحفاد.
– درست الأبتدائية في مدرسة الراهبات التي كانت قائمة في (عكَد الراهبات) وأكملت المتوسطة والثانوية في مدارس الراهبات ايضا. بعد تخرجها من الثانوية انتسبت الى
– كلية التربية / جامعة بغداد – قسم الكيمياء، وكان ذلك عام 1948، ثم تخرجت في العام 1952.
حضيت (الست ديزي) بأحترام ومنزلة كبيرين بين اقرانها المدرسين والمدرسات بدأت ملامحه منذ التعيين الأول و الأخير في
– (اعدادية الكرخ للبنات) في منطقة – الجعيفر – اذ خدمت لمدة 30 سنة، مدرسة لمادة الكيمياء وللصفوف الخامس ولاحقا للسادس ايضا، وهذه الصفوف هي التي يشملها نظام الأمتحانات الوزارية (البكلوريا) وكانت ايضا
– مديرة (اعدادية الحارثية للبنات) في السنين الأخيرة من خدمتها، اضافة لمهمة التدريس في اعدادية الكرخ للبنات.
جمعت الراحلة في شخصيتها خصائلا كانت مثار تقدير زميلاتها التدريسيات والمسؤلين في الوزرارة، وأعجاب من لدن افراد اسرتها. ولعل اصرار (مديرتها في اعدادية الكرخ) على ابقائها ضمن السلك التدريسي واحدا من ابرز الشواهد على كفائتها ، ناهيك عن نسب النجاح العالية التي حققتها لتلميذاتها في امتحانات البكلوريا، وثقة الوزارة العالية بها، مما ادى الى اختيارها ضمن الكادر الذي يضع (اسئلة الأمتحانات الوزارية) و المشاركة في (تصليح دفاتر الطلبة للأمتحانات الوزارية)، وهذه الأخيرة بقت لعدة سنوات حتى بعد احالتها على التقاعد عام 1974، اضافة الى تطوعها للتدريس في حملة (محو الأمية) للصفوف المسائية – بعد الدوام – وتقديمها الكثير من الدروس الأضافية المجانية عند اقتراب موسم الأمتحانات النهائية.
تتحدث ابنتها السيدة (ندى عجو – عبرو) عنها بود وأفتخار وتتذكرها الأم ( ست ديزي) وتقول: لقد كانت مثلي الأعلى منذ طفولتي، وكم انا سعيدة بأني اقتفيتُ أثر خطواتها في حياتي العملية، اذ اني اعمل كمدرسة ايضا، وحينما تأخذني الذكريات لتلك الأيام الحلوة، كم كنت (وكنّا) سعيدة حينما تصطحبنا معها الى المعارض المدرسية التي كانت
تشترك فيها، وكانت سعادتنا تكبر أكثر حينما تفوز مدرستها ويجري تكريمها من قبل تربية الكرخ او الوزارة، ان كان بالهدايا او بكتب الشكر، ذكريات جميلة وصور لا تمحى!
اما صورتها الأم (ماما ديزي) فتقول عنها الست ندى: لقد كان البيت عندها عبارة عن امتداد للمدرسة، اذ يجب ان تسير الأمور بأنتظام، والترتيب الذي يرضيها، وكانت تخاطبنا بنظراتها، ونفهم حينها ماذا تريد! وبالحقيقة ان هذه الخصال الفريدة دفعتنا لأن نكون اكثر جديين في حياتنا، لابل ان نكون قدوة لزميلاتنا اللواتي كنّ يكنّ حبا وأحتراما كبيرين ل (الست ديزي)، وبالمقابل، فقد كان المرحوم والدي صديقنا الصدوق والحنون امام (صرامة وجدية) الوالدة!
اما ابنتها (شـذى سـلمو) فهي تتفق مع ما ذهبت اليه شقيقتها ندى لكنها تضيف: لقد كان طبخها لذيذ جدا جدا، وفيما يخص دراستي، فقد كنت دائما احصل على درجة امتياز في مادة الكيماء، وأستحق الأعفاء من الأمتحانات النهائية، فيما كانت صديقاتي يعلقن على هذا الأمر بالقول: ((انتي امـّج اتدرســج)).
ويذهب السيد (عماد عبرو) زوج ابنتها ندى بالقول: لقد جمعتنا صلة القرابة بالراحلة (ست ديزي) اضافة الى الجيرة في السكن بمنطقة (سوق الغزل / صبابيغ الآل/ العكَد العريض)، فقد كانت سيدة رائعة، ولم تعرف الكذب في حياتها، وكانت دائما تقول لنا (احبو للناس ما تحبون لأنفسكم). لقد جمعت احلى الصفات في شخصيتها، البساطة والأمانة والأخلاص في العمل وحب الناس وأبنائها وعائلتها، ومازلت اتذكر ايام زواجي الأولى فقد كانت تخاطبنا بالقول: ( انتوا جيبو اولاد ..وروحوا اشتغلوا ..وآني اربيهم الكم طالما آني على حيلي) وهذه اجمل ذكرى احملها عن هذه الأنسانة الرائعة. وتختم السيدة (ندى) بالقول: إن ما ذكره (عماد) عنها كان صحيحا، فقد ذهبتُ الى بيتها بعد خروجي من مستشفى الولادة بديترويت، وكم كنت سعيدة وأنا اراها تداعب ابنتي، ولم تمض سوى 9 أيام فقط حتى دنت ساعتها، ورحلت فجأة ودون سابق انذار!
وبالحقيقة اني افتقدها كثيرا، وأصلي لها ان تكون سعيدة في المكان الذي هي به.