( القصيدة بين الوعي و حساسية الغرائز )
ما معنى أن يقال عن شاعر ما ، أنه يكتب و يوالف نصوصه الأدبية الشعرية على أساس ضوء مفهوم الجسدانية ، دون مسوغ فني و موضوعي من شأنه تشكيل و تأطير صورة و مفهوم الجسد داخل شفرات إيضاحية و بعدية ما : يا ترى هل الكتابة عن الجسد و غرائزه و أسئلته أضحت اليوم بمثابة السؤال السائد و المشاع و حتى دون أدنى مرحلية جوهرية في البحث عن أنتاج ثقافي يكون متين المستوى ؟ أم أن لمثل هذه الكتابة من جهة علاقة إستثمارية بمتطلبات السوق الأدبي و المبيعات . هكذا يتضح أن طرح قضية الجسد أنما تقوم في الشعر و القصيدة على أساس أتجاهات متقدمة لا يمكن أن تكون ملزمة بأنحراف نظري و تطبيقي عن مجالات التقويم الشعري الخاص : من خلال قراءتنا لعوالم قصيدة (أمل الجبوري ) لاحظنا بأن القصيدة لدى هذه الشاعرة ترتبط دوما بحدود مخيالية الجسد و لغة الغرائز المنصبة نحو شكل من أشكال الأباحية في القول الشعري ، أما من ناحية دلائلية النتائج المضمونية في تلك الخطابات الشعرية لدى الشاعرة ، فأنها تبقى عادة محصورة داخل أفق حالات أستثنائية و ظرفية في حدود المشبه منه و اليه ، حيث تتراوح القصيدة
داخل لغتها الخالية أحيانا من الدلالة و المجاز داخل ذات تشعبات الشاعرة و الأشياء السائرة نحو مضامين أقفالية ضيقة المفردة و الرؤيا أحيانا ، من جهة أخرى ، تبقى أحيانا مجرد تلويحات ضمنية لأفعال أستفهامية متغايرة في منسوبات مد التدليل و الدلالة .
جسمي الذي لمسته و قلبك مبتهج
تنهشه الحشرات كخرقة بالية
جسمي الذي لمسته و قلبك مبتهج
( جثة ) مليئة بالتراب .. ص30
أن الكتابة الشعرية لدى أمل الجبوري ، و على وجه من التحديد ، تكون دوما عبارة عن حالة تأثر مقترنة بوقائعية حالة حياتية تتعلق بالعاطفة و منطقة الغريزة ، بيد أن الشاعرة قد عاشت هذا الموقف بالفعل و بأمعان دقيق ، لذا نرى الدلالات في بنية القصيدة ، عادة ما تكون مرتبطة بموجب توسعات قولية في دائرة مشفرات الأخبار المضموني من الحالة الموصوفة : و ألا كيف قد جاءت هذه الصورة التعريفية من القول للشاعرة ( جسمي الذي لمسته و قلبك مبتهج ) أن هذا القول الصوري حتما هو نابع من حدود ممارسات فعلية ملتبسة و فعل توكيدي خارج عن إرادة
حجب قول الشاعرة ، بل أن حيثيات المؤول الأخباري في القصيدة تظهر للقارىء بأن هناك معنى أصح من كل هذا
( تنهشه الحشرات ) أي بمعنى أن الأنتقال في هذه المقطعية قد جاء نتيجة أوليات ذاتية من المفعول الساري بروح محاكات الموقف المنقول عن طابعية أولية الثابت من زمن دوال العاطفة الوقائعية .
خمسون ألف سنة عرجت في جسدي
عاشرت في الشعر
أنزلت القمر البابلي في خدي
و أضأت لي عتمة الناس
أصطفيتك ( صاحبي )
ورددت عليهم آياتهم
بي أنا الريح .. ص 34
أن من يقرأ هذه الصورة المقطعية من زمن مشهد القصيدة ، و الذي هو ضاج و ضجيج من الأصوات و أفعال الدوال و توقعات المتوقع و ملمحات المحتمل ، لربما أول ما تساور القارىء في هذه المقطعية ، هي ملامح أزمنة القول الشعري في ذاته ، و كيف هي محتشدة بدلالات المعاشرة مع الناس و
الشعر ، غير أن التدليل الواضح في أفعال الخطاب هنا تمنح التلقي شوطا تلقائيا بخصائص ظرفية و دلالية غير معروفة من زمن حدوثات وقائع النص نفسه ، فعلى سبيل المثال ، نعاين مثل هذا القول للشاعرة ( خمسون ألف سنة عرجت في جسدي ) أن حالات هذه الصورة الأخبارية و التوصيفية ، هي بحد ذاتها بمثابة تعريج شيئا حدوثيا غير أنه متآت من فعل زمني غير واضح في إيراد أداة العلامة التوصيفية و تشكيل المركز المدلولي في وظيفة الأتصال الأبلاغي ، و على هذا تأتينا النتيجة المضمونية قرائيا و تحصيليا بمثابة أختراق التوقع لمهام و صفات المحتمل الدلالي ، أي بمعنى أن الشاعرة قد أوردت قولا يعاكس ماهية النتيجة البرهانية في فعل القول الشعري ،أما الحال في قول ( بي أنا الريح ) فهذا الآخر لربما هو مؤشر لحالة موضوعية قد جاءت تشكيليا ضمن توقعات دوالية متقاربة في بناء النتيجة .
وحدي أميل الى فناء كل ما قد
خلقت
وحدي أنا أبقى
خفية عن الأفهام ..ص23
أن الشاعرة هنا لربما تلوح بأمرا آخر ، هو مخالف لعلنية أسرار الجسد و معلوميته التوكيدية ، فالقصيدة هنا و بهذه المقطعية لربما تشكل دخولا أجباريا و قسريا في بنية الأخفاء الذاتي ، أي بمعنى أن الشاعرة تشير لمسافة حالة أختلافية مع بنية التوقع السابق للمدلول التصديري في بنية المعلوم التوصيفي في النص ، فهي على سبيل المثال تقول ( خفية عن الأفهام ) أي بما معناه أن حالة الموجه هنا ، قد جاءت وفق مستويات دوالية و تشكيلية نابعة في الأصل من موجه آخر من منسوبات الدال الآخر ، و الذي هو في الواقع مجموعة مستويات مناهضة لفعالية فواصل اللجوء الصراعي في القول ( وحدي أنا أبقى ) و هذا الموجه المدلولي يوضح بأن قيمة الصراع بين ( الفناء ) و بين
( البقاء ) هو المشكل الذاتي لفاعلية أولية خطاب الجسد لدى عوالم الشاعرة ..
أصدقائي
الذين ما همني كم تهمة نسبوا لأسمي
و كم مكيدة طوعتها بمطرقة الشعر
و صالحت فيها فراتا جريحا
و هو القلب الذي ودع البلد
و ضحك من كل أبكاه يوما ..ص14
ترسم الشاعرة في هذه القصيدة ، وجها لضياعها المرير ، قلبا ينزف من كل الأصدقاء و الجهات المدلولية الأخرى أما محور صوت القصيدة فيبقى هو الشاعرة ذاتها ، بيد أن القصيدة على هذا واضحة وضوح مقولة ( و كم مكيدة طوعتها بمطرقة الشعر ) أن الشاعرة هنا و عبر مقولات و دوال هذه البنية الأعترافية من زمن الخطاب ، لربما تشيع للقارىء مجالات فك رموز و طلاسم و جراح غير معلنة في خطاب حياة القصيدة ، و لعل من المهم أن نشير الى أن القصيدة الجسدانية لدى أمل الجبوري ، تكون قادمة دائما من حالات مزاوجة بين كسر أفق التوقع من جهة و بين جذب المتلقي الى مناحي خاصة من زمن عاطفة القصيدة ..
يا لفضيحتي التي لم تدرك
أن الأنتصار مغلق
و الهزيمة مفتوحة لوطن يولد حقا
أو يموت الأن بغير حق .
أن محاولة الشاعرة لصياغة مستويات دوال أخرى تكون خارج نطاق الجسد و العاطفة الجسدية ، لربما نراها لدى الشاعرة تقع ضمن موجبات معنى مغاير أو حالة أختيارية منافرة لأرضية متواليات جذور الخطاب السابقة ، أي أن
عنونة مثل ( الأنتصار مغلق ) أو ( لوطن يولد حقا ) قد جاءت هذه الحالات بطريقة تولد في ذهن القارىء أفكارا بأن هذه الرؤى ما هي ألا دخيلة على عوالم مفردات القصيدة و الموضوعة لدى الشاعرة ، أي بمعنى أن حركية و تشكيل هذه الدوال قد جاءت كما لو أنها نماذج مفتعلة داخل أدوات ربط هشة مع عالم خطاب الجسد لدى الشاعرة . أن مساعي قصيدة أمل الجبوري و في كل هذا و ذاك تبقى مؤشرا أوليا في صياغات خطابات لغة الجسد ، و الأمر الذي أفضى الى وجود فضاءات متتابعة من دلالات صوت ( أنا الشاعر ) لاسيما بعد الخروج عن مقولة الحجب و الحواجب الى شعرية أجواء ذاتية تتسم بالهيمنة مابين خط الوعي و توجهات محسوسات الغرائز و بنماذج و أحاسيس و خواطر مقولات الشاعرة ذاتها .. و في الأخير نشير الى أن أمل الجبوري رغم ما قد قلناه تبقى شاعرة موهوبة و ذات أداة شعرية بارزة في مجال خطاب جسدانية المطروح و المسبوق من خارطة لغة الجسد و وعي الغرائز .