اذا كانت عملية فك الحصار عن ناحية امرلي التركمانية التابعة لمحافظة صلاح الدين في مطلع شهر ايلول-سبتمبر الماضي، قد هزت تنظيم داعش الارهابي، فأن عملية تطهير جرف الصخر(جرف النصر) اواخر شهر تشرين الاول-اكتوبرالماضي، قد اشرت بوضوح الى اختلال كبير في ميزان القوى لغير صالح “داعش”، راحت مصاديقه ومعطياته تتبلور وتتجلى يوما بعد اخر.
لاشك ان الانتصار الذي تحقق في ناحية امرلي بعد تسعين يوما من الحصار الداعشي، قد مهد الطريق وهيأ الاجواء والارضيات لتحقيق الانتصار الاكبر بعد حوالي شهرين في جرف النصر.
الاهمية المادية والمعنوية للانتصار في جرف الصخر يتأتى من جملة امور، لابد من الوقوف عندها والمرور عليها، حتى يمكن صياغة تصور واقعي او اقرب الى الواقع لطبيعة الصراع مع “داعش” في المرحلة المقبلة.
اولا: تمثل ناحية جرف النصر حلقة وصل بين اربع محافظات، العاصمة بغداد من الشمال، والانبار من الغرب، وكربلاء من الجنوب، وواسط من الشرق، وتعد بحسب الخبراء والمتخصصين العسكريين والامنيين خاصرة بغداد الجنوبية.
وهذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي يجعلها تحظى بأهمية كبيرة، لاسيما في الظروف والاوضاع الاستثنائية، فمن يتحكم بها يستطيع ان يقطع خط التواصل بين بغداد وكربلاء، ويستطيع ان يمتد غربا الى قضاء الفلوجة التابع لمحافظة الانبار، وشمالا الى قضاء المحمودية جنوب بغداد، وجنوبا نحو كربلاء.
ثانيا: تتميز جرف النصر التي تعد احدى النواحي الثلاث التابع لقضاء المسيب الى جانب الاسكندرية وسدة الهندية، بتركيبتها العشائرية والاجتماعية السنية، حيث ان اغلب سكانها ينتمون الى عشيرة الجنابات(الجنابي)، الذين حصلوا على الكثير من المواقع والوظائف المهمة في المؤسسات العسكرية والامنية والاستخباراتية والحزبية في عهد نظام صدام، وبالتالي تمتعوا بظروف ومستويات حياتية جيدة جدا.
وكان من الطبيعي ازاء ذلك ان تكون ردة الفعل على سقوط نظام صدام سلبية من قبل تلك الناحية، وهذا ماجعلها تتحول الى بؤرة للعناصر والجماعات الارهابية الرافضة للنظام الجديد، من بقايا حزب البعث المنحل والتنظيمات المتطرفة، وبالتالي خرجت بصورة شبه كاملة عن سيطرة القوات الحكومية، وحتى القوات الاميركية عجزت عن السيطرة عليها.
فطيلة عشرة اعوام او اكثر، كانت ناحية جرف الصخر خارج نطاق سيطرة القوات الحكومية، وكذلك خارج نطاق سيطرة القوات الاميركية منذ دخولها العراق في عام 2003 وحتى خروجها منه نهاية عام 2011. ونجحت الجماعات الارهابية التابعة لتنظيم القاعدة وبقايا حزب البعث المنحل طيلة تلك الفترة في اخضاعها لها بصورة شبه كاملة، لتتخذ منها قاعدة ومنطلقا لتنفيذ اعتداءات ارهابية على مدن ومناطق اخرى قريبة وبعيدة، من بينها محافظة كربلاء المقدسة وقضاء المسيب.
وبقي الحال على ذلك المنوال حتى الثاني من شهر محرم الحرام-اي الى ما قبل حوالي اسبوعين-حينما نفذت قطعات من الجيش العراقي وتشكيلات الحشد الشعبي عملية عسكرية مخطط لها ومدروسة بدقة اسفرت عن نتائج سريعة وغير متوقعة، كما يقول احد امري الافواج الذين شاركوا في العملية.
والصعوبات التي واجهتها عملية تطهير جرف النصر تمثلت بالعدد الكبير للعبوات الناسفة التي زرعها الداعشيون في مختلف الطرق والمسالك المؤدية لها، وتقدر مصادر امنية مطلعة عدد العبوات والالغام المزروعة بأكثر من ثلاثين الف عبوة ولغم.
اضف الى ذلك فأن الطبيعة الطبوغرافية للمنطقة تمتاز بقدر كبير من التعقيد، حيث البساتين الكثيفة، والمبازل والمستنقعات والطرق الميسمية الكثيرة، ومحاذاتها لنهرالفرات، ناهيك عن وجود مساحات صحراوية واسعة توصلها بقضاء الفلوجة التابع للانبار والمناطق المجاورة له.
ثالثا: تجاور ناحية جرف الصخر بمكونها السني المتعاطف مع نظام
الحكم السابق ومن يتماهى معه، والرافض للعملية السياسية في ظل النظام الديمقراطي الجديد، فضاءات جغرافية ذات طبيعة او هوية شيعية على وجه العموم، كما هو الحال بالنسبة لقضاء المسيب، ومنطقة هور حسين الممتدة من جرف الصخر والمسيب لمسافة عشرة كيلومترات بأتجاه مدينة كربلاء المقدسة.
وهذا التجاور الملّغم بحساسيات طائفية، وتقاطع ارادات ونوايا ورغبات
يعني ان اي تمدد داعشي سيشكل خطرا يصل الى كربلاء ومن الممكن ان يطال النجف ايضا، والعكس يعني ان الانحسار والانحدار الداعشي سيوفر فضاءات من الاستقرار والهدوء والامن، لاسيما وان المتعارف عليه هو ان هناك حالة من التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع العراقي، وتحديدا الشيعة والسنة.
وماتحقق في الثاني من شهر محرم الحرام- السابع والعشرين من شهر تشرين الاول-اكتوبرالماضي، صاغ واقعا جديدا برزت افرازاته ومعطياته على ارض الواقع سريعا.
فالانكسار الكبير الذي تعرض له تنظيم داعش في جرف النصر، ادى الى حدوث انهيار معنوي فاضح وواضح في صفوف التنظيم-قيادات وقواعد.
ولعل التعميم الشرعي الذي صدر عن “داعش” قبل اكثر من اسبوع، والذي تضمن اشارات واضحة، الى هول الصدمة التي تعرض لها داعش بهزيمته في جرف النصر، وقبلها انكساراته في تكريت وزمّار، ونجاح اجهزة الاستخبارات العراقية بأختراق صفوف التنظيم، والتوجيه بعدم قبول انظمام العراقيين اليه والاكتفاء بالاجانب، لعل هذا التعميم اشر بوضوح الى حقيقة الواقع المعنوي المزري للتنظيم، وخشيته من ما يمكن ان يستتبع ماحصل في جرف النصر.
وقد ترتب على انتصارات جرف النصر العسكرية، والانهيارات المعنوية للدواعش، تراجعات وانكسارات وهزائم في مناطق اخرى، كان اخرها في قضاء بيجي التابع لمحافظة صلاح الدين(تكريت)، والتي كان “داعش” يراهن على احتلال المصفى النفطي الاستراتيجي الكبير فيها، تزامن معها حراك اوسع بين مختلف المكونات لتحشيد وتعبئة اكبر قدر ممكن من الاشخاص لمواجهة داعش، ودخول العشائر السنية بقوة في ذلك الحراك، خصوصا بعد المجازر التي ارتكبها التنظيم ضد ابناء عشيرة البونمر غرب الانبار، وعشائر سنية اخرى.
وقد لايكون من باب المبالغة القول بأن انتصارات جرف النصر يمكن ان تعد بداية النهاية لتنظيم داعش في العراق. والانتصارات الاخرى في قضاء بيجي هي في الواقع محطة متقدمة نحو نقطة النهاية، التي تمثلها محافظة نينوى بموقعها الجغرافي وثقلها السكاني وتركيبتها الاجتماعية.