لم يتح للدولة العراقية منذ التأسيس أن تتخلص من ثقافة ” المناصب مكاسب” حتى تكرست في مرحلة السبعينات والثمانينات , وعندما أعلن الحصار ألاقتصادي على العراق في التسعينات سقطت الصفة القانونية للدولة ولم تسترجعها حتى اليوم , وهذا الخلل هو المدخل الرئيسي لصناعة الفساد , فالحصار ألآقتصادي مخطط لئيم لكسر شوكة الدولة وتفتيت منظومة ألآجتماع وتخريب قيم الفرد وألآسرة والمجتمع , والذين دخلوا مسؤولين في الدولة بعد 2003 نسوا أنفسهم موظفين عند طاقم ألآحتلال ألآمريكي الذي تعمد أن يجعل من موظف أمريكي مغمور حاكما مدنيا للعراق هو بول بريمر , وهذا بدوره جعل مما يسمى بمجلس الحكم طبخة غير متجانسة لمعدة غير سياسية فظلت ألآضطرابات الهضمية تعكر ألآجواء السياسية التي أختلطت فيها فصول المناخ , فلم يعد يعرف الشتاء من الصيف , والخريف من الربيع , مثلما لم تعد تعرف الديمقراطية من الثيوقراطية , ولم تعد تعرف المحاصصة من المقاصصة , ولم يعد يعرف الحزب من العائلة , والعشيرة من الطائفية , وفي أختلاط من هذا النوع تظل العشيرة كولاء نسبي وجودي تتحكم بالجميع , كما تظل العائلة تتحكم بالعشيرة كعرف تاريخي خاطئ في كثير من الحالات نتيجة شهوة السلطة التي تتغلب على كل الشهوات لآن شهوة المال وشهوة الجنس تبايعها وتستسلم لها , ولآن رئاسة العائلة سلطة , ورئاسة العشيرة سلطة في رمزيتها , ورئاسة الحزب سلطة , ورئاسة الحكومة سلطة , ولآن السلطة في بلادنا فقدت هويتها وشرعيتها من كثرة التجاوزات عليها , لذلك تحولت الى منصب يعبد , والمنصب تحول الى أمتيازات ومكاسب , ولم تعد المناصب مسؤولية , ولم تعد المسؤولية خدمة وأنما شرف وأبهة وتفاخر بحيث ينسى صاحبها بأنه لم يخلق للآبهة والتفاخر , وأنما خلق للعمل والخدمة المجردة للناس وهم أبناء البشرية بعيدا عن اللون والجنس والدين قال خاتم ألآنبياء والمرسلين “ص” : ” بعثت للآسود وألآحمر , وألآبيض , وجعلت لي ألآرض مسجدا وترابها طهورا , وأعطيت الشفاعة , ونصرت بالرعب ” والرعب هنا ليس معناه الخوف وألآضطهاد , وأنما معناه : أدخال الهيبة والرهبة في نفوس معانديه وأعدائه وخصومه بدون حق , وهذه قضية معروفة لدى علماء وخبراء علم النفس وعلم أشارات الجسد .
لقد دأبت السماء على ترويض وتربية الناس وفصلت لهم كل الحوادث والعناوين , وتركت لهم فرصة المبادرة للعمل الصالح قال تعالى ” هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ..” فأحسن العمل , وأحسن القول , وحق التقوى , وحق الجهاد , هي أطروحة السماء للناس جميعا ولم يقل : للمسلمين فقط أو للمؤمنين , فالناس هم ألآسود , وألابيض , وألآصفر , وهم المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والبوذي والهندوسي والمجوسي , قال تعالى ” ولقد صرفنا في هذا القرأن للناس من كل مثل وكان ألآنسان أكثر شيئ جدلا “
وقال النبي “ص” : الناس سواسية كأسنان المشط ”
والصالحون من الناس هم الذين لايحولون المناصب الى مكاسب , قال ألآمام علي بن أبي طالب “ع” : أن دنياكم عندي أهون من ورقة في فم جرادة “
ونظام المنظومة البشرية يحتاج الى عناوين تنظيمية , فكان الزوج والزوجة وألابن والبنت , ورب ألآسرة , وربة ألآسرة , وكبير ألآسرة , وشيخ العشيرة , وعندما ظهرت الدولة , ظهر أسم رئيس الدولة ورئيس الحكومة والوزير وقائد الجيش , كضرورة تنظيمية ضوابطها الورع والتقوى التي تبدأ من مخافة الله ثم خشية الله , ولا أحد يخاف الله حقا ألآ من عرف الله حق معرفته , وهذه ليست ثيوقراطية وأنما هي معرفة حقيقية بالكون والحياة , وعندما لاتكتمل هذه المعرفة في نفوس الناس ومنهم المسؤولون عندئذ تتحول المناصب الى مكاسب شخصية , ولذلك رأينا البعض عمل المستحيل عندما فقد عنوانا من عناوين السلطة حتى حصل على عنوان تعويضي هو نائب رئيس الجمهورية , ونتيجة السعي للحصول على المنصب ومكاسبه أصبح عندنا ثلاثة نواب لرئيس الجمهورية وهو مما لايوجد في دول العالم حتى المتخلفة منها , وأصبح منصب الوزير يباع ويشترى والروايات حول ذلك كثيرة , أما الحصول على منصب النائب فقد رأينا كم من المليارات تبذل في الدعاية ألآنتخابية , يتساوى في ذلك المتدين ولو ظاهريا والعلماني ولو أنتسابا , وقد يقول أحد القراء لماذا ربطت ألآنسان الصالح بالسماء , وهذه حكومات لبعض الدول لاتربط أنظمتها بالسماء ولكنها ناجحة , أقول هذا صحيح , ولكنه ليس النجاح الذي تسعد به كل البشرية , فهناك ثغرات سلوكية وعقائدية لدى تلك الدول لازالت تنتج حروبا مدمرة وتصطنع أزمات خطيرة تصادر حقوق الطفولة وحقوق المرأة والرجل , وتجعل من العنف أسلوبا لبلوغ أهدافها وهي تتحدث في أعلامها عن حقوق ألآطفال وأحترام ألاقليات وهي تبيدها وتتحدث عن تحريم العنف ضد المرأة وهي تقهر وتضطهد المرأة في أشعالها فتنة الحروب الطائفية لتسميها حروبا أهلية لتعطي لنفسها فرصة التدخل للحفاظ على مصالحها كما يحدث في أوكرانيا وسورية ومالي وليبيا واليمن والعراق وأفغانستان والصومال , ويظل أضطهاد وقهر وقتل الفلسطينيين من قبل ألآحتلال ألاسرائيلي شاهدا على عدم مصداقية شعارات الدول الكبرى ومجلس ألآمن ومن يحلو له تنصيب نفسه خادما للحرمين الشريفين وهو من ألآمثلة الصارخة على التكالب على المناصب من أجل المكاسب , ولكن المثال العراقي يظل ألآكثر حضورا منفرا في ذاكرة ألآجيال القادمة , فلو أن المناصب في الدولة العراقية رفعت منها ألآمتيازات ومنعت عنها المكاسب لما وجدنا هذا التكالب عليها لاسيما عند من لم يكونوا يوما رقما سياسيا أو أجتماعيا , ولكن وجود المكاسب وألآمتيازات المفتعلة جعلت هذا الهوس في ألآدعاء وأستخدام المال السياسي وسيلة للوصول للمكاسب الشخصية والحزبية والفئوية , فخسر الشعب دولته وحكومته , وخسرت الدولة والحكومة الرجل المناسب في المكان المناسب , وأذا لم تسترجع هذه المعادلة فلن نصل بدولتنا وحكومتنا وشعبنا الى شاطئ ألآمان.