18 ديسمبر، 2024 7:50 م

عند بداية تكوين السلطة الفلسطينية في التسعينيات، سألتُ مسؤولاً في الأمن هناك عن قيام السلطة باعتقال فلسطينيين على أساس مقاومتهم الاحتلال. قال إن السلطة تعتقلهم حتى لا يعتقلهم الاحتلال. وسيكون هذا الاعتقال،حسب قوله، أرحمَ بالتأكيد بما أنهم عند ذويهم. لكن الأخبار تحدثت بعد ذلك عن ظروف اعتقال صعبة لدى السلطة، بما فيها سوء المعاملة والتعذيب.
ثم تأطرت اعتقالات السلطة للفلسطينيين فيما يعرف بـ”التنسيق الأمني” مع سلطات الاحتلال العسكرية وأجهزته المخابراتية. واتضح أن هذا “التنسيق” أحادي المنفعة. لم نسمع أبداً أن حكومة الكيان سلمت “السلطة” مطلوباً من رعاياها اعتدى على فلسطينيين، أو منعت مستوطنيها من إذلال الفلسطينيين والعدوان على أراضيهم وممتلكاتهم ومساجدهم وكنائسهم بلا توقف –بل إن جيش وشرطة الاحتلال “في خدمة الشعب” قولاً وفعلاً عندما يتعلق الأمر بمساعدة المستوطنين في إيذاء الفلسطينيين. وفي المقابل، يستطيع جيش الاحتلال اقتحام أي شارع وزقاق وبيت في الضفة في أي وقت دون اعتبار للسلطة الفسطينية وأمنها، ويستطيع اعتقال أي فلسطيني– بما في ذلك رجال الأمن وأفراد القيادة والمؤسسات الفلسطينية، بلا تردد أو اضطرار إلى تفسير.
ربما سوّقَت السلطة الفلسطينية منعها الفلسطينيين من المقاومة تحت ذريعة: “اسكتوا حتى نجلب لكم السلام والدولة”! لكن عقوداً بعد أوسلو بينت أن السلطة لم تجلب للفلسطينيين الأمن، ولا الدولة، ولا السلام. وشهد كل يوم استشهاد فلسطينيين آخرين، ومصادرة أراضٍ أخرى، واعتقال أطفال وبنات ونساء وشبان، والتضييق على حركة الفلسطينيين وسبل عيشهم. وهكذا، لم تكن مهمة “الأمن الفلسطيني” حماية أمن الفلسطينيين بقدر ما كانت حراسة نوم العدو وفرض بقاء “السلطة” التي اتخذت باطراد شكل نظام حاكم مغرم بالحكم، بغض النظر عن تحقق الهدف الذي خلقت “السلطة” لأجله أصلاً: “إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية (السلطة الوطنية الفلسطينية لاحقاً)… لفترة انتقالية “لا تتجاوز الخمس سنوات”، للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قرارات الأمم المتحدة، بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية”. (المجموع ثماني سنوات منذ 1993). أين ذلك؟!
ثم، يوم الأحد الماضي، عرضت محطات التلفزة أقبح صورة يمكن تخيلها عن علاقة الشعب الفلسطيني المحتل في الضفة الغربية بقيادته: رجال شرطة بالخوذ والدروع الزجاجية والهراوات المألوفة في الدول القمعية، يساندهم رجال أمن بملابس مدنية، وهم ينهالون بالضرب على محتجين سلميين، ويقذفونهم بالغاز وقنابل الصوت. وذكرت وكالات الأنباء أن المعتصمين أمام مجمع المحاكم في رام الله لم يتجاوزوا “العشرات” وربما “المئات” وليس الملايين مثل شباب ميدان التحرير القاهري، بحيث يقلقون نوم النظام الحاكم الخائف من الإطاحة به. كما لم يتحدث أحد عن اعتداء المحتجين على ممتلكات أو تحطيم سيارات أومحلات أو مهاجمة الشرطة. وكانت المناسبة بالغة العاطفية: قيام الاحتلال باغتيال شهيد مقاوِم، يحاكمه قادة شعبه بتهمة مقاومة الاحتلال. ولعل أصل كل نضال هو كسب الناس حقهم في الحرية، وأولها التعبير عن الرأي بطريقة سلمية. والفكرة مضاعفة أضعافاً في الحالة الفلسطينية.
لا يجوز أن يقوم فلسطينيون بقمع فلسطينيين من مواطنيهم بالعنف المفرط أو بغيره بسبب تعبيرهم عن رأي معارض. تكفي الفلسطينيين عقود من الاشتباك اليومي مع الخوذات والهراوات والرصاص. وما كان ينبغي أن يقوم فلسطينيون بإسكات مواطنيهم وتخويفهم وضربهم بسبب رأي أو اعتراض. ومن حق الفلسطينيين التعبير عن رغبة المقاومة، ورفض”التنسيق الأمني” الذي كلف أرواح العشرات من المقاومين الفلسطينيين بطريقة مخزية.
أصبحت وظيفة الأمن الفلسطيني الآن تطابق عمل أي جهاز أمن يخدم، فقط، “سلطة” لا يعنيها سوى حفظ الذات على حساب الرعايا. وقد عبر عضو الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة المقدسات، راعي الكنيسة اللاتينية في فلسطين، الأب مانويل مسلم، عن تصورات كثير من الفلسطينيين، حين قال مؤخراً: “حاولنا حماية أنفسنا من الاحتلال الإسرائيلي من خلال السلطة الفلسطينية، ولكنها بدلاً من ذلك، خوّفتنا، وأرعبتنا، وجردتنا من أسلحتنا وأغرقت قضيتنا في البحر”. وكان قمع الأحد المخجل للمحتجين الفلسطينيين آخر تجسيد مريع ليس له عذر!

نقلا عن الغد الاردنية