سألته على “واتساب” إذا كان يحتاج إلى أي شيء من القاهرة، قال “أتستطيعين إرجاعي إلى تكريت؟”. هكذا هي حال أقارب زوجي. هم الآن في شتات، ولو كانوا لا يزالون في العراق. تركوا ذكريات سنوات حياتهم كلها في بيوت لا يعرفون إذا ما كانت ستظل واقفة عند عودتهم، إذا عادوا.
لا أقرأ الكثير عنهم، سكان تكريت. لا أرى الكثير عنهم في الأخبار. وكأن “داعش” خطفت أخبارهم، فهم ليسوا سوى “دواعش”، أليس كذلك؟ كلا. ليسوا “دواعش”. وهم، وإن لو لم يُطردوا من قبل “داعش” رسميا، فقد اضطروا إلى الرحيل وترك كل ما بنوه من أحلام وآمال وراءهم.
دخلت “داعش” تكريت دون أي طلقة، في وضح النهار.
لماذا؟ وبعد خمسة أيام في الموصل؟ ألم يكن الجيش العراقي يعرف أن الخطر محدق بتكريت؟
الجميع كان يعرف ولم تطلق طلقة. ألأن تكريت لم تكن قد دفعت بعد ثمن نسبها الخاطئ إلى صدام؟
ذهلنا عندما وصلنا الخبر. أسنراهم ثانية؟ هل سيكبر ابني من غير أن يعرف تكريت وأهلها الطيبين؟ أقارب زوجي قرروا البقاء ومحاولة التأقلم مع الواقع الجديد المفروض عليهم، وذلك لرداءة خيار التهجير. بقوا. بقوا ورأوا الشنائع. فبعد أن سلم أفراد الجيش أنفسهم، وهنا علامات استفهام كبيرة حول وطنية القيادة التي أدت بعساكرها إلى الموت المحتم والذليل، رأى أقاربنا أفراد جيشهم يُقتادون إلى القلعة. رأوا ذلهم ولم يكن بيدهم حيلة. لم يكن واضحًا مصير هؤلاء، حتى بدأ صوت الرصاص يلاحقهم في بيوتهم. مرت ساعات طويلة عندما قُتل أفراد الجيش في تكريت، “طلقة طلقة” أخبرتني قريبة زوجي بعدما وصلت إلى أربيل وهي تضع يديها على أذنيها وكأنها لا تزال تسمع الطلقات.
كل طلقة كانت تمثل رجلًا عراقيًا قُتل من دون أن يُسمح له أن يستشهد ببطولة، دون أن يُسمح له أن يؤدّي واجبه الوطني، دون أن يُسمح له بالدفاع عن وطنه ولُحمته أو حتى عن نفسه. طلقة طلقة خلال ساعات طويلة ذاك اليوم، بدّدت أفكار “التأقلم”. كل طلقة كانت حياة أخ، ابن، أب، كانوا موجودين في تكريت لصونها ولحمها مع باقي الأراضي العراقية. عاش التكريتيون صدى الطلقات، صدى أوجاع الأمهات المتحسرة والزوجات والأولاد والآباء من كل أنحاءالعراق. عاشوا بشاعة الموت المحتم من غير أن يرفّ له جفن، من كان قابعا على الكرسي.
أهل تكريت لم يسكتوا، توسلوا السياسيين في بغداد كي يوقفوا هذه المذبحة. قال أحدهم لي “اتصلت بأحد المقربين من المالكي في وزارة الدفاع. قلت له افعلوا شيئا. أرسلوا مروحية واحدة لإخافتهم كي يكفوا عن إعدام الجنود. ولكن لا حياة لمن تنادي.”
وكأن الجلاد لم يكن في قلعة تكريت، كان أصمّ وكان جالسا في المنطقة الخضراء في بغداد.
أكانوا يريدون الفتنة؟ أكانوا يريدون لدماء شيعية أن تسيل في تكريت كي يضمنوا ضياع البلاد والأمل؟
نزح بعض الأهالي حينها. لم يتحملوا وطأة المذبحة. لم يتحملوا دخول “داعش” البيوت لمعرفة ما إذا كان أبناء هذا البيت أو ذاك في الجيش أو الشرطة. لم يتحملوا رعبهم من المجهول. كان قسم كبير منهم موظفي دولة. ماذا يضمن عدم ملاحقتهم من “داعش”؟
نزحوا. انتظر الأطفال والعُجّز ساعات طويلة للدخول إلى المناطق التي كان يسيطر عليها البيشمركة. نام كثيرون في السيارات منتظرين فتح نقاط العبور عند الفجر. نام الأطفال من دون مياه وحليب… قالت لي ابنة عم زوجي: “لا مشكلة. لا مانع لدي في أن أنام في السيارة وأنتظر ساعات على الحدود مع طفلتي. لكن لا أستطيع البقاء هناك”.
قاوم البعض. وحوصروا. فقد عصت العلَم، المنطقة الريفية شمال تكريت وأبت عشيرة الجبور أن تسلم أبناءها لـ”داعش”. حوصرت لأسبوعين (13 يوماً للدقّة) وقُصفت ولم نسمع عن مقاومتها اليتيمة في الإعلام.
ولكن لم يكفِ ذلك. بدأ القصف العشوائي من الجيش العراقي وانقطعت المياه والكهرباء. القصف طاول المستشفيات ومنازل عوائل لا تمت بصلة الى الدواعش.
طال الأمر، قصف عشوائي يومي لمدة أسابيع. أُغلقت المستشفيات والمحال وشُلت الحركة. ماذا لو؟ تساءلنا. لا ينفع الندم في أحوال كهذه. توسلنا الأقارب الذين كانوا لا يزالون هناك. بعضهم قال “إلى أين نذهب؟ حياتنا كلها هنا!” والبعض الآخر قال “ماذا لو استطعت أن أساعد في مفاوضات ما؟”.
نزحوا. لم يبقَ أحد في بلدة زوجي. لم ينزحوا إلى الرقة، “عاصمة الخلافة”، ولا إلى الموصل، نزحوا إلى المناطق الخارجة عن سيطرة “داعش”. أذكّر بذلك لتوضيح الشرخ بين المواطن التكريتي و”داعش”، وإذا كان بعض التكريتيين أعضاء فيه فالحال كذلك مع بعض الأوروبيين.
بعضهم انطلق قبل الفجر آخذين طرقاً وعرة. والبعض اضطر للذهاب برًا إلى مطار اربيل كي يسافر جوا إلى بغداد. حواجز وحدود جديدة…
التقينا ببعض أقاربنا في أربيل. كان خوفهم من المجهول لا يفارقهم. ما رأوه من جثث ملقاة في دجلة لا يفارقهم. كيف يمكن أن ينسوا رؤية العشرات من العسكريين المذلولين في الشارع، يُقتادون كأسرى؟ كيف يمكن أن ينسوا أصوات الطلقات التي أودت بحياة مئات الجنود؟ ودوي القصف اللامبالي؟
سمعنا عن الإيزيديين وعن مسيحيي الموصل، وهم أيضا سمعوا. زادت حرقتهم على البلاد، إلى مخاوفهم على من بقي من أصدقاء ومعارف في تكريت والمناطق المجاورة.
وقرأت على مواقع التواصل الاجتماعي آراء كثيرة تعبر عن الحرقة على إيزيديي العراق ومسيحييه. لم أسمع عن النزوح الهائل لأهل تكريت، عن إجبار النازحين دخول كركوك سيرا على الاقدام والمشي كيلومترين من دون أية أمتعة، وهذا التدبير دخل حيز التنفيذ منذ أسابيع. لم أسمع عن الشروط التعجيزية المفروضة على النازحين كي يحصلوا على اقامات في المناطق الشمالية، وعن منع تنقلهم من محافظة لأخرى في الشمال…
لم أسمع عن المذبحة التي حصلت في أول أيلول في مدرسة التجأ إليها عشرات النازحين في منطقة العلم شمال تكريت وراح ضحيتها عشرات المدنيين من بينهم أكثر من عشرين طفلا. ولم أسمع عن قصف المشيّعين في اليوم التالي. لم أسمع عن 40 جريحاً، وبعضهم فقد يداً أو رِجْلاً. لم أسمع عن دخول بعض المصابين مستشفى الحويجة ذا الامكانات البسيطة لتعذر دخولهم كركوك، ولأن مستشفيات تكريت أقفلت. لم أسمع عن قصف مستشفى تكريت التعليمي بمرضاه يوم 25 حزيران ومقتل المصور الشعاعي لدى قسم الطوارئ. أهكذا تحارب قيادة الجيش العراقي “داعش”؟ أوهكذا سيفعل أوباما؟ أوهكذا سيكون الصمت المطبق لشهداء تكريت العُزّل؟
يُؤمر المشاة بتسليم أنفسهم للموت المحَتّم والذليل ثم يُقصف المدنيون النازحون في أحد المناطق القليلة التي قاومت وحشية “داعش”. شعر التكريتيون بارتياح حذر منذ أسبوعين بعدما أعلن رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي إيقاف قصف المناطق المدنية. نعم، فهكذا كانت الدولة تقاوم “داعش”، وببساطة يُعلَن عن الأمر، وكأن الأرواح التي فُقدت لا أحد يبكيها. هل سيبقى الأمر على ما هو عليه من تهدئة؟ كان أهالي تكريت محقين عندما شعروا بارتياح “حذر” فقد عاد القصف منذ أيام، “لا مين شاف ولا مين دري”.
لا أحد يعرف أسماء الأطفال الذين ماتوا حرقاً وما سبب هذا “الخطأ” في منطقة العلَم، فلا ضحايا هناك. لم يسمع أحد صراخ الأمهات والآباء، ولن نسمع. فهم من تكريت ولا يستحقون ذلك.