كان وما يزال شارع المتنبي يشكل رقما صعبا في مسيرة الثقافة والإبداع العراقي المتجذر في عراقته وأصالته بالرغم من كل التحديات التي مر بها المثقف العراقي عبر العقود القليلة الماضية ، وسياسة تكميم الأفواه ومصادرة الرأي التي كان يمارسها النظام السابق بحق أصحاب الكلمة واليراع الحر الذين أجهد الكثيرين منهم أنفسهم وتحملوا المخاطر من اجل النأي بأنفسهم عن ثقافة السلطة ، على أن يصبحوا مطبلين ومهللين لها ولرموزها من المدعين والمتملقين ، والملمعين لجزمة السلطان كما يقول المرحوم نزار قباني … وبعد الذي حدث في 9 نيسان عام 2003 وزوال ذلك الكابوس الجاثم على صدور العراقيين ، والمكبل لكل حركة إبداع في هذه الأرض التي علم أهلها البشرية القراءة والكتابة وبزغت منها مدارس اللغة والنحو في الكوفة والبصرة ، والذي يذكر المسعودي في مروجه .. إن الخليفة عمر ابن الخطاب (رض )…
حين أراد أن يضع الولاة على الأمصار سأل كعب الأحبار ، عن أحوال هذه البلدان فاخبره بان العراق بلد علم ورجال ، وبعد أن أصبحت الفضاءات رحبة في أجواء الديمقراطية وبحبوحة الحرية التي يعيشها الشعب والمثقف كجزء فعال ومؤثر من هذا الشعب ، أصبح شارع المتنبي انعكاسه ومرآة للواقع العراقي بغثه وسمينه، صالحه وطالحه ، فعلى الرغم من الدور الفعال الذي يلعبه باستقطاب الأدباء والمثقفين وتحوله إلى حاضنة للإبداع والمبدعين ومؤسسة مدنية لإقامة الندوات والتجمعات والاصبوحات الثقافية، التي تلامس معانات الشارع العراقي وتطرح همومه ومشاكله وسبل إيجاد الحلول المنطقية لها من وجهة نظر المثقف لا السياسي، إلا انه في الفترة الأخيرة بدء يختنق ويضيق بالمدعين والطارئين على الثقافة العراقية ، والذين حولوه إلى ساحة لاستعراض تجاربهم البائسة، ونتاجاتهم المتواضعة ، ومتنفس لهم لالتقاط الصور التذكارية التي تجد طريقها إلى مواقع التواصل الاجتماعي كنوع من الاستعراض والرياء ، أو ملاحقة كاميرات المحطات الفضائية التي يعج بها هذا الشارع نهار الجمعة من كل أسبوع .. وهذا بدوره أدى إلى انزواء الكثيرين من المبدعين وأصحاب الكلمة الحقة ، بعدما اخذ هؤلاء المدعون دورهم ..كالمثل القائل ( العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة ) … أنا لست ضد احد أو أدعو إلى احتكار شارع المتنبي لفئة دون فئة أخرى ، فالمكان عام وهو لكل العراقيين ، وعلى العكس فان الحضور الغفير الذي يشهده الشارع كل جمعة هو ظاهرة صحية وايجابية ، لكن بشرط أن يعرف كل شخصه حجمه وموقعه من مسيرة الثقافة والإبداع العراقي لا أن تختلط الأوراق ، وان الفوضى التي اجتاحت العراق في الفترة الأخيرة وعلى جميع الأصعدة بأن يكون الشخص الغير مناسب في المكان الغير مناسب أن تطال مفصل الثقافة فيه ، فهي خط احمر وفي هذا المجال مهما كثر المدعون أو المنتحلون فانه لا يصح إلا الصحيح فيه .