حين كانت الدلائل كلهُا تؤكد أن الغزوالأمريكي للعراق آتٍ لا ريب فيه، وأن موعده، فقط، هو المسألة، كانت حكومات وأحزاب وشخصيات عربية مهمة وكثيرة تعارضه، وتدعو إلى التصدي له بقوة، ولكن دون أن تفعل شيئا ذا قيمة لمنع وقوعه، أو لتخفيف عواقبه الوخيمة الآتية لا محالة لا على العراق وحده بل على المنطقة وربما العالم أيضا.
وفي تلك الأثناء كان هؤلاء المحذرون أنفسُهم الذين كانوا يعارضون الحل العسكري لطرد قوات احتلال الكويت، يتذرعون بنفس الأعذار التي يسوقونها باستمرار لإثبات المخاطر المدمرة التي لابد أن تترتب على اعتماد العمل العسكري لحل أزمة أو الخروج من مأزق، خصوصا إذا كان من الخارج. وأهم هذه الأعذار:
* ستكون هذه سابقة يمكن تكرارها مع أي نظام حكم عربي آخر لا يعجب هذه الدولة الكبرى أو تلك.
* لن يكون اجتياح العراق بالأمر السهل سهلة كان اجتياح أفغانستان. فالعراق ليس أفغانستان. ففيه أسلحة وإمكانات قادرة على توجيه ضربات انتقامية غير متوقعة، ونظام صدام هو غير طالبان.
* ستندلع حرب أهلية عراقية مخيفة إذا ما سقط النظام، وسيحدث فراغ سياسي هائل تمتد آثاره الوخيمة إلى دول الجوار تهدد أمنها وأمن المنطقة واستقرارها .
* العراق المكون من طوائف وقوميات مختلفة سيكون مصيره التقسيم الى ثلاث دويلات، كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، وفي هذا خطر على الأمن القومي لدول الجوار، وتهديد كبير لآمن الخليج .
* إن غزو العراق خدمة لإسرائيل، لأنه سيحدث إختلالا كبيرا في موازين القوى في الإقليم، ويهدد الأمن القومي العربي.
وما عدا الخشية من أن يصبح إسقاط نظام الحكم في العراق بعمل عسكري من الخارج سابقة قد تتكرر مع أنظمة أخرى في الإقليم، فإن جميع الحجج والأعذار والأسباب الأخرى تبدو نابعة من حرص قومي عربي على العراق، كوطن وشعب، إلا أن كثيرا منها ليس كذلك.
أما حديث البعض منهم عن عمالة كل المعارضة العراقية السابقة فحديث مردود. لأن معارضة الخارج، بكل تنظيماتها، ليست سوى (كيان) صغير من كيان أكبر منها بكثير، قياسا بمعارضة الداخل الواسعة الساكتة الصابرة، مع ملايين المهجرين والمهاجرين غير المنتمين إلى أحزاب المعارضة وتنظيماتها ومليشياتها.
يضاف إلى ذلك أن الذين (يتشرفون) بالعمالة لأمريكا وحلفائها ويباهون بها ويكتسبون وجودهم وأمجادهم من أموالها وغطائها قلة قليلة داخل أحزابهم ذاتها، وهي في الغالب مرضيٌ عنها ومرعية من قبل مخابرات إيران وسورية، مع استثناء القليل.
ومع كل شيء، وبرغم كل شيء، فقد أعلن جمع كبير من المعارضين العراقيين، غير الأمريكيين، أنهم موافقون على الإستجابة لنداء الأشقاء الحكام والمثقفين العرب الذي كانوا يطالبونهم بوضع الوطن فوق خلافهم مع النظام، ومستعدون للعودة الى العراق، وعلى الفور، إذا استطاع هؤلاء الأشقاء العرب إقناع صدام حسين بتحقيق انفراج يقوم على النقاط التالية:
– إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين العراقيين، والأسرى والمحتجزين الآخرين .
– السماح بعودة جميع المعارضين المقيمين خارج الوطن، وإسقاط جميع الأحكام المتخذة ضدهم.
– إعادة جميع المهجرين من العراقيين الذين شملتهم حملة التسفير القمعية الى إيران، بحجة التابعية الإيرانية .
– إعادة العرب الذين تم إسكانهم بدل مواطنين آخرين في مناطق كردية أو تركمانية، وكذلك إعادة المرحلين من مناطق سكناهم بالقوة والموطنين في مناطق أخرى في الوسط أو الجنوب .
– وقف عمل الأجهزة الأمنية والمخابراتية، والقبول بقوات عربية لحفظ أمن العائدين الى الوطن وسلامتهم، لحين إجراء الاستفتاء والانتهاء من اختيار الحكومة المنتخبة .
– تسليم الأسلحة الكيمياوية والجرثومية الى الأمم المتحدة لإتلافها على الفور، لأن إنكار وجودها يطيل أمد الحصار وقد يجلب المزيد من الخراب للوطن والمواطن .
– إلغاء جميع العقود التجارية والاقتصادية غير المنصفة والتي وقعها القائد وحده مع بعض الدول العربية والغربية بدوافع سياسية.
– الأمر باستعادة قطع الأراضي التي اقتطعها رئيس النظام لأسباب سياسية وقدمها لبعض دول الجوار كهدايا .
– وقف إهداء النفط لبعض الشخصيات والشركات والدول العربية والأجنبية، فيما يسمى بـ (كيوبونات) النفط مقابل الغذاء.
– السماح بإجراء تحقيق شامل مع عناصر المخابرات والأمن والأمن الخاص وفدائيي صدام، ومع أعضاء القيادة في السلطة والحزب، حول جرائم القتل والاغتصاب والسطو والسرقة على مدى السنوات العشر الماضية.
– كف يد قصي وعدي وتجميد نشاط علي حسن المجيد وعبد حمود وكل من له صلة قرابة بالرئيس وأسرته .
– توقف الرئيس نفسه عن الانفراد باستخدام أجهزة الإعلام، والكف عن تهديد دول الجوار وشتم حكامها .
– وأخيرا إجراء استفتاء حر وديمقراطي وبإشراف دولي حقيقي لانتخاب القيادة، وقبول النتائج مهما تكن. فإذا فاز صدام، وهو الذي تسلم القيادة بانقلاب وليس بانتخاب، فسوف يكون لزاماً على المعارضين قبل الموالين الانضواء تحت عباءته مهما كانت أخطاؤه السابقة. أما إذا لم يفز بغير أصوات أبنائه وأقاربه وبعض شركائه في المصائب التي حلت بالعراق والعراقيين فعليه أن يحمل عباءته ويرحل، ليريح ويستريح.
ولعل أكبر أخطاء الأشقاء العرب أنهم، حتى بعد نزول النازلة ودخول قوات الغزو ومعها حلفاؤها المعارضون العراقيون، لم يفعلوا شيئا جديا ذا قيمة لمنع إيران من استغلال حالات الفراغ والفوضى والفلتنان التي أحدثها الاحتلال، وخاصة فيما يتعلق بأمن الحدود العراقية مع الخارج، وحفظ الأمن افي الداخل، ولم يعاونوا المعارضة التي أثبت الزمن أنها كانت وطنية وشريفة، على تشكيل قوات أمنية ذاتية لحماية أمن المواطنين، ولضمان عدم تسلل جماعات إيران إلى المناطق الحيوية الحساسة في محافظات عراقية مهمة، كبغداد والبصرة وديالى وذي قار والقادسية، وفرض هيمنتها عليها لحساب إيران.
من ناحية أخرى كانت إيران، مباشرة أو من خلال الأحزاب والشخصيات الشيعية الموالية لها، تتظاهر بالتعاون والتفاهم مع الاحتلال الأمريكي في حملاته على المجاميع (الإرهابية) السنية، في حين أنها كانت تحتضن منظمات إرهابية، سنية طبعا، وتقوم بتدريبها وتسليحها وإدخالها إلى العراق لتنفيذ عمليات إرهابية في العراق، بالتنسيق مع نظام بشار الأسد.
كما كانت، في الوقت نفسه، تسابق الزمن لتعزيز قوة مليشياتها العراقية الشيعية، وتثبيت نفوذها وتنمية قدرتها على الإمساك بمفاصل الدولة الجديدة واحتكارها.
بينما كان حلفاؤها العراقيون الذين تسلموا السلطة يتفنون في توريط قيادة الاحتلال الأمريكي في حملات عسكرية مدمرة ضد الطائفة السنية من خلال تمرير معلومات مغشوشة عن نشاطات مزعومة لعشائر وتنظيمات سنية (إرهابية) تابعة للنظام السابق، مستغلين جهل القادة المدنيين والعسكريين الأمريكان بالعراق وأهله وجذور الحقد الإيراني المتوارث على جارها الذي لقنها اكثر من مرة دروسا ما زالت مرارتها تنغص عيش الولي الفقيه إلى اليوم ولا تهدأ ولا تنام.
كما لا يخفى ما قام به النظام الأسدي من تفجيرات وهجمات إرهابية كان ضحاياها من العراقيين أضعاف الأمريكان. وقد شكى منها نوري المالكي وكبار أعوانه مر الشكوى بعد أن ثبت لهم أن منفذيها كانوا يتسللون من سوريا، برعاية أكيدة من جهاز المخابرات السورية الذي تولى تدريبها وإدارة نشاطاتها، وذلك لعرقلة خطط الأمريكان في العراق، خوفا من انتقالهم بعد ذلك إلى دول مجاورة أخرى، وإلى سوريا قبل غيرها. ثم بلع المالكي اتهاماته تلك، وصار من دعاة حماية نظام بشار الأسد من السقوط. ويبدو أن العص الإيرانية فعلت فعلها معه.
في تلك الأيام التي سبقت الغزو، كان الأشقاء العرب يرون إيران تسانده وتعينه، ويطنشون.
لم يبذلوا أي جهد مخلص وناجز وفاعل لمنع الغزو بمعاونة الشعب العراقي على إسقاط النظام بقواه الذاتية الوطنية، أو بتصحيح مساره وطبيعته الديكتاتورية الدموية، أو ممارسة الضغوط الكافية لحمل رئيس النظام على قبول مبادرة الشيخ زايد آل نهيان الحكيمة وإقناعه بتسليم السلطة لحكومة مستقلة انتقالية ومغادرة العراق إلى دولة الإمارات، من أجل الحيلولة دون حدوث الكارثة التي لابد أن تقلب موازين القوى في المنطقة لصالح إسرائيل وإيران، وتشيع الفوضى الشاملة في الإقليم، وهذا ما حدث ويحدث هذه الأيام.
من هنا يمكن القول إن جميع ما ترتب على الغزو الأمريكي منذ العام 2003 وإلى اليوم، وأخطره احتلال داعش لمدن عراقية كبرى وتهديده باحتلال مدن أخرى غيرها، إنما هو نتيجة طبيعية لما زرعته إيران وسوريا في العراق، تحت خيمة الاحتال الأمريكي، وفي غفلة من قادة النظام العربي الأشقاء.
إنهم يتحملون أجزاءً كبيرة جدا من المسؤولية عما فعله الاحتلال الأمريكي بالعراق، وما فعله وما سيفعله الاحتلال الإيراني بأمن شعوبهم، وكانوا قادرين على منعه، واتقاء شروره، قبل أن يكون.