قبل منتصف ليل 28 شباط سنة 1986 بدقائق غادر اولف بالمه قاعة سينما ’غراند’ بوسط ستوكهولم بعد مشاهدة فلم ’اخوة موزارت’. تحدث مع بعض الرواد عند الخروج عن نهاية الفلم وانطباعهم عنه ثم شكر موظف التذاكر على توفير مقعد له باللحظة الاخيرة قبل ساعتين من ذلك لان زوجته كانت قد حجزت على التليفون حوالي الثامنة مساء 3 مقاعد فقط. ودع ابنه وصديقته اللذين كانا مدعوين معه وتأبط ذراع زوجته ’ليزبت’ متجها الى محطة القطار القريبة بالاتجاه المعاكس ليستقل المترو الى بيته وكان الشارع شبه خاليا من الناس في تلك اللحظات وهو بلا حمايات.
قضى معظم السنوات الثمانية عشر السابقة كرئيس حزب سويدي عريق بعمر 42 ووزير للتربية والمواصلات ووزارات اخرى وكرئيس للوزراء لاكثر من دورة غير متتالية. وحينما لم يكن خلالها ضمن الوزارة كان مبعوث السلام المقبول دوليا والمفضل لسكرتير عام الامم المتحدة في رحلات مكوكية عديدة منها لبغداد وطهران عام 1981 محاولا انهاء الحرب بينهما التي اشتعلت عام 1980.
توقف مع زوجته امام واجهة احد المحلات على نفس جهة السينما قبل ان يعبرا الشارع الى جهة المحطة عندما فاجاهما شاب بمسدس من الخلف واطلق رصاصتين اخترقتا جسدهما وهرب راكضا في الظلام. لم تكن اصابة ليزبت خطرة بينما فارق اولف الحياة بعد 6 دقائق من منتصف الليل عند وصوله للمستشفى بعربة الاسعاف.
وصلت السويد بعهده الى قمة ازدهارها الاقتصادي والصناعي واصبحت دولة الرفاه الاولى بالعالم. وحافظ على حيادية بلده الايجابية اثناء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مع اقامة افضل العلاقات وتقديم المساعدات لدول العالم الثالث التي استقلت قريبا بعد عهد الاستعمار. كما وقف بقوة ضد سياسة التمييز العنصري في جنوب افريقيا وحضر جميع المؤتمرات الدولية عن المرأة والبيئة ونزع السلاح. وكان اخر لقاء دبلوماسي له صباح ذلك اليوم الاخير من شهر شباط مع السفير العراقي في استوكهولم محمد سعيد الصحاف الذي عرف فيما بعد ب ’ابي العلوج’.
في الساعة الواحدة بعد منتصف تلك الليلة اعلنت السويد الحداد واطلقت اكبر حملة في تاريخها لاصطياد ذلك القاتل المجهول. ومع ان 130 شخصا تقدم حتى الان للشرطة السويدية معترفا بارتكاب تلك الجريمة بسرد غير مقنع لكننا بالواقع لانعرف بالضبط من اطلق تلك الرصاصتين ولا دوافعه ولا من كان خلفه حتى بعد 28 سنة من الجريمة. في نهاية عام 1988 القت الشرطة القبض على مدمن كحول ومجرم بسيط يدعى كريستر بيترسون وتمكنت من ادانته بتلك الجريمة وبشهادة من ليزبت نفسها التي اكدت شبهه بالقاتل فحكم عليه بالسجن مدى الحياة وظن الجميع ان اللغز قد حل اخيرا, لكن المحكمة العليا اطلقت سراحه في العام التالي لعدم كفاية الادلة. ومات بيترسون اخيرا عام 2004 بعد حادث سقوط على راسه.
هناك عشرات النظريات المتداولة والكتب والافلام والروايات التي تحاول تفسير هذا الغموض وتحديد الجهة التي قامت بالجريمة. فمن قائل انه اليمين المتطرف او جنوب افريقيا او ايران او الاكراد او تجار السلاح او حتى انها حدثت عرضيا بين عصابتين متقاتلتين او بتامر من الشرطة نفسها. ومايهمني هنا هو الدور العراقي المحتمل بتلك الجريمة.
ربما لاسكات بالمه عن التحقيق بمقتل اثنين من المعارضة العراقية تم تقطيع اجسادهما في ستوكهولم قبل الحادث باشهر او ربما لمعاقبة بالمه على دوره المحتمل في صفقة السلاح ايران-كونترا التي ظن صدام حسين ان بالمه قد خدعه حينما اكد له عدم علاقته بالموضوع فامر فاضل البراك رئيس مخابراته بتنفيذ الاغتيال. وتسير هذه الفرضية الى تفاصيل اعمق وتتهم بالتحديد عنصرا دبلوماسيا مخابراتيا عراقيا اسمه وليد اياد (او وليد عايد) من ضمن طاقم الصحاف استاجر سيارة بين 13 شباط الى 4 اذار على حساب السفارة وسكن بنفس الفترة بغرفة في فندق باحد الدرابين المتفرعة من شارع زفيفاغن الذي حدثت به الجريمة.
قد يحمل احد العراقيين في ذاكرته وقد يبوح يوما ما باكبر سر حير السويديين والعالم عن مقتل رئيس للوزراء باقصى العالم لمع اسمه بعد اغتياله كاشهر اسكندنافي في القرن العشرين.