المثقفون هم صفوة وطليعة المجتمع ، وضمير الشعب ، وصمام أمان الأمة وصوتها ولسانها ، وهم أصحاب رسالة مقدسة ، ويمتلكون مهمة حضارية ، ويؤدون دوراً ريادياً ونموذجياً في صيرورة التغيرات والتحولات البنيوية المجتمعية . كما أنهم يشكلون المرجعية الحقيقية في الإشعاع والتنوير والتثقيف والتغيير والتعبئة والتوعية وإشاعة القيم ، وبمثابة رافعة قوية في نهوض المجتمع وتطوره وتقدمه ، وواجبهم الوقوف إلى جانب شعبهم في السراء والضراء ، في الشقاء والرخاء ، ومكافحة كل الظواهر السلبية التي تجتاح مجتمعهم، والتصدي لها بكل قوة وشجاعة وبشكل موضوعي وهادف .
وإذا نظرنا في واقعنا الراهن نجد أن دور المثقف غائب ومغيب في المشهد العربي ، وليس له أثر في مواجهة المحن والأزمات ، وهناك كثير من المثقفين ارتدوا وتخلوا عن دورهم ووعيهم وقناعاتهم وأيديولوجياتهم ومواقفهم وأصبحوا جزءاً من المحنة نفسها ، وقسم آخر التحق بركب الطغاة من خلال ارتباطه بالسلطة ومؤسساتها القمعية والتعبوية ، وآخرون همشوا وخفتت أصواتهم وتواروا في أوراقهم .
ما من شك أن دور المثقف على الدوام مستهدف ، والأنظمة الديكتاتورية الحاكمة اكتشفت هذا الدور فعملت على مصادرته عبر الكثير من الممارسات والإجراءات القمعية في محاولة لاستمالة المثقفين التقدميين والمتنورين الممهدين لطريق الثقافة الإنسانية ، بهدف تدجينهم وتهميشهم وتسخير الثقافة والأدب والإبداع لصالح المؤسسة الحاكمة وخدمة أهدافها .
إن صوت المثقف في السنوات الأخيرة خافت وأحياناً متلون حسب المصلحة ووفق الأهواء والمطامع الشخصية وغدا عقيماً وعاجزاً ، وتراجع دوره كثيراُ فيما يتعلق بالقضايا الجوهرية والمصيرية والمفصلية والأكثر حساسية بالنسبة للأمة والشعوب العربية ، التي تئن تحت الفقر والفاقة والظلم والقهر الاجتماعي .
وقد ساهمت الثقافة الاستهلاكية الوافدة والمعلبة في انحسار وتضاؤل هذا الدور وغاب تأثيره النهائي عن الساحة .
ما يجري ويحدث في العالم العربي من فوضى خلاقة ونزاعات وأعمال عنف وقتل وإرهاب على خلفيات دينية طائفية ومذهبية بغيضة ، وتفشي الوباء السرطاني الداعشي الجديد في المنطقة ، يحتم على النخب المثقفة الواعية المسلحة بفكر تنويري طلائعي وقناعات مبدئية ومشبعة بالقيم الإنسانية وتمتلك الوعي الثوري الجماهيري ، تجاوز مرحلة الركود والجمود والقنوط والإحباط واليأس ، والخروج من عنق الزجاجة وزاوية المهمشين والعودة إلى الواجهة
واستعادة دورها الحقيقي الذي من المفترض أن تلعبه النخب في عمليات التغيير الاجتماعي والتأثير في عملية اتخاذ القرار الخاص بمستقبل الأمة ، وإتباع استرتيجية جديدة تعيد صياغة وبلورة وعي المجتمع .
فأوطاننا ومجتمعاتنا العربية بحاجة إلى طوفان وتسونامي ثقافي وفكري وانتفاضة في العقل والوعي الجمعي . وهذا يتطلب أوسع واكبر اصطفاف للمثقفين وتكاتفهم مع بعضهم البعض للوقوف بوجه الخطر الداعشي وموجات الفوضى والجهل والتخلف والعنف والإرهاب . وكم نحن بحاجة في هذه المرحلة لمثقفين عضويين وثوريين وتقدميين ورسوليين يحملون فكر ورؤية ثقافية ويعون التاريخ والوقائع ويساهمون في التقدم الإنساني ، ومنحازون للقيم الجمالية والإنسانية والديمقراطية ، وليس التواطؤ نحوها ، خصوصاً بعد رحيل وموت العديد من المثقفين والمفكرين العرب الذي تركوا بصماتهم في الحياة الفكرية المعاصرة .