18 نوفمبر، 2024 1:36 ص
Search
Close this search box.

بين توحيد النجديين وتوحيد الغلاة المتطرفين

بين توحيد النجديين وتوحيد الغلاة المتطرفين

يحاول خصوم الدعوة الاصلاحية النجدية كعادتهم أن يستغلوا كل الظروف للنيل منها وتنفير الناس عنها ورميها بكل سوء ، ويجب الاعتراف بأن داعش بفتنتها أطمعتهم في مزيد من الطعن وتأليب الجهلة ضدها

يدندن المتطرفون من شتى الاتجاهات حول مبدأ ( توحيد الحاكمية أو تحكيم الشريعة) ويتخذونه هدفاً لعملهم ، فمشروعهم كما يزعمون هو التوحيد والجهاد ، ونحن لا تهمنا دعاويهم إذ تكفلت تجارب الميدان ولسان الواقع بتكذيبها ، لكن ما يهمنا هو محاولتهم استمداد الشرعية من نصوص أئمة الدعوة النجدية وما يقومون به من هدم القبور وتوزيع كتب الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ، فهذا كله مما يلبس على الجاهل بحقيقتهم ، ويغري المتحامل لمهاجمة مبادئ الدعوة بغية إفساح المجال للمناهج المخالفة.

جوهر الافتراق بين النجديين وغلاة الجهاديين يكمن في فهم أصل الدين وهو توحيد الله تعالى ، فالنجديون قامت دعوتهم لمحاربة مظاهر الشرك الأكبر ، فنهضتهم جاءت لتصحيح أوضاع دينية فاسدة ، و الاهتمام كان ينصب على تصحيح المعتقد و إقامة شعائر الدين في بلاد طُمست فيه معالم الحنيفية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وغابت عنها مظاهر الاستقرار السياسي والأمني.

فجزيرة العرب قبل الدعوة كانت خارج نطاق الدين الصحيح ، وخارج مجال الحضارة والمدنية ، وخارج سيطرة الدولة ، فكل الأسباب متوفرة للثورة والتغيير ، ومع ذلك لم يلجأ المصلحون إلى تغيير واقعهم بالقوة إلا بعد أن وجدوا الظهير السياسي والعون من أحد الحكام المحليين ( الإمام محمد بن سعود –حاكم الدرعية) فلم يشكلوا عصابات مسلحة ، ولم يلجأوا لمحاربة المجتمع الذي يسعون في إصلاحه ، بل كانت مؤلفاتهم ورسائلهم وكتبهم الموضحة للدعوة ومبادئها أكثر من غزواتهم ومعاركهم ، واللجوء إلى القوة كأداة لإصلاح الفساد المستحكم أمر لم يخالفوا فيه سنة المصلحين من مختلف الأديان والبلدان والأزمان.

ومع هذا لم يصطدموا برأس الفساد (الدولة العثمانية) ولم يبحثوا في شرعيتها أو يفتحوا باب الجدل حول خلع البيعة للسلطان التركي ، بل كانت مواضيع رسائلهم دينية بحتة لتصحيح المعتقد وتقويم السلوك الديني ، فمعركتهم كانت ضد قبة الضريح وقبر الولي ومرقد الصالح ، ولم يخطر ببالهم شرعية الحاكم الفاسد وولاته المستبدين ، ولم يقدموا أنفسهم كبديل عنه ، ولم يكتبوا للناس بالثورة عليه وخلعه ، ولم يأمروا بالهجرة إلى الدرعية معقل الدعوة باعتبارها دار إسلام ودار مخالفيهم دار كفر .

كانت دعوة النجديين عملية واقعية تعرف ما تريد فلم ترسم لنفسها طموحات سياسية وآمالاً في إحياء دولة الخلافة من الأندلس إلى الصين ! ، كان غاية ما ترجوه أن يترك الناس عبادة القبور والاستنجاد بالمقبور وأن يتوجهوا إلى المستحق الوحيد للعبادة ( سبحانه وتعالى).

ان توحيد النجديين كان يتعلق بعقائد الناس وعبادتهم وتدينهم ، ولم يكن دعوة لمنازعة حكام ذلك الزمان ، فالدعوة كانت لتصحيح المفاهيم الاعتقادية وليس للتمرد على الدولة التي لا تملك السيطرة على تلك النواحي .

وأوضح الأدلة على أن دعوة النجديين لم تتطلع إلى السياسة ( أصالة) أن الصف الأول من محاربيها ومخالفيها كانوا من المنتسبين إلى العلم والفقه ، وربما لم تعلم الدولة التركية النائمة بالوهابيين إلا بعد سنوات من ظهورهم .

فمن تصدى لمحاربة الإصلاح النجدي في بداية أمره هم العلماء المخالفون للعقيدة السلفية ، وأسلحتهم بذلك الكتب والردود ، وجهازهم الإعلامي تمثل في رسائل التحريض المشحونة بالكذب ، أي أن علماء والمشايخ ذلك الزمان كانوا أحرص على قمع الدعوة من الحاكم والوالي ورجل الدولة ، وهذا الحرص يؤكد أن ما جاء النجديون المصلحون مخالف لعقيدتهم ومهدد لمكانتهم وزعامتهم الدينية.

ولو لم تكن هذه الحركة غايتها إصلاح العقيدة وتصحيح الدين لما نالت ثناء وإعجاب الكثير من المنصفين من غير الإسلاميين ومن غير السلفيين بل من غير المسلمين ، ولما اعتبرها كثير من المؤرخين والمفكرين بداية لنهضة العرب الحديثة ، و لو كانت الدعوة النجدية دعوة خروج على الإمام وتكفير للمجتمع وزعزعة الأمن فيه لم يجعلها الناس نقطة البداية للصحوة والتغيير الفكري والاجتماعي والسياسي في تاريخ العرب المعاصر.

ولو كانت دعوة معاندة متشددة هدفها الصدام مع المجتمع وانتهاج القوة في التغيير لم يكتب لها النجاح والانتشار والاستقرار في كثير من بلدان العالم الإسلامي، ولما أصبحت ملهمة لغيرها من حركات الإصلاح.

أما توحيد الغلاة المتطرفين فلا يقنع بتوحيد النجديين بل يزعم أن التوحيد لا يصح إلا بخلع الحكام والثورة عليهم وخروج الأمة أفواجاً إلى الجهاد حتى لو فني أكثرهم وهلك معظمهم فلا حرج في ذلك ، وهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق التوحيد الذي يسموه توحيد الحاكمية.

فالأمة – على مذهب الغلاة المتطرفين- ليست على التوحيد الصحيح حتى لو حفظت كتب محمد بن عبد الوهاب عن ظهر قلب و اعتقدت ما جاء فيها .

أما الغاية الضمنية التي ينتهي إليها المتطرفين فهي القضاء على توحيد النجديين واقصاء مفاهيمه من حياة المسلمين ، وإفساح المجال لثقافة القبور والبدع الاعتقادية والسلوكية كي تعود وتعشعش في المجتمعات ، وذلك لأن الصدام مع السلطة يحرضها على قمع الأفكار المتشددة والتي سيكون أول ضحاياها الأفكار السلفية لأن جهاز التحريض والتشويه لأعداء السلفيين لا يعرف الملل ، وهو يوسوس دائماً للحكام أن السلفيين يطعمون في الملك ويثيرون العامة ويحدثون الفتن الطائفية ، فاستقر في أذهان الساسة أن السلفية تعني التشدد والطائفية والفتن الممزقة ، فهي بذلك تهدد حكمهم.

فحينما يأتي المتطرفون ويصبغوا دعوتهم بنفس مفردات النجديين فإنما يساهمون بالقضاء عليها وإطماع الخصوم والمناوئين فيها ، ولا نتعجب حينما نقرأ للمتطرفين وهم يهاجمون السلفية فدعوتهم مصادمة لحقيقة ما دعا إليه النجديون وفهمه المعاصرون من أتباعهم وورثتهم.

ويتضح عداء المتطرفين للسلفيين حينما نعلم أنهم كانوا عقبة أمام استقرار أول دولة تتبنى المنهج السلفي ( دولة الملك عبد العزيز رحمه الله) ، ولو لم يتم القضاء على ( إخوان الأرطاوية) على يد عبد العزيز فهل كان من الممكن قيام دولة تتبنى المنهج السلفي .

إن الفوضى والتفجيرات والسادية في القتل والعمليات الانتحارية وفتاوى التكفير التي حصدت جماً غفيراً من المسلمين لا يمكنها أن تشق طريقاً إلى انجاز سياسي أو نصر عسكري أو نهضة دعوية تشع في أركان العالم الإسلامي وتنال إعجاب العقلاء في كل مكان ، فالعقل وشهادة الواقع يحيلان اعتبار دعوة المتطرفين كامتداد لدعوة المصلحين النجديين الذين يلقب خصومهم بالوهابية.

ان الفرق بين المنهجين بيّن لكن تسلق المتطرفين على نصوص النجديين وتهاون السلفيين في محاربتهم واشتداد العداوة من خصومهم جعل الناس يظنون أن قطع الرؤوس والتفجيرات الانتحارية من سنن الوهابيين.

لقد دعا الخوارج علياً وعثمان إلى اتباع سنة أبي بكر وعمر ، وكانت دعوة الخوارج هي الحكم بالكتاب والسنة على طريقة الشيخين ، فمن أحب أن يُلصق داعش وجبهة النصرة بدعوة محمد بن عبد الوهاب ، فعليه أولاً أن ينسب الخوارج إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ويكف عن التشنيع لأنهم كانوا ثوريين متمسكين بالحق !!

أحدث المقالات