لقد نشر العديد من الكتاب التركمان وسواهم مقالات مختلفة عن مجزرة كركوك (14-16تموز1959) والتي عشتُ أيامها ولياليها وساعاتها فتىً في مقتبل العمر، وقد أكون أول من خاض في متونها ومكامنها ببعض التفصيل إحقاقاً للحق وخدمة للتأريخ المعاصر، ولكن ما من أحد تطرق إلى حقيقة أول شخص أعلم “الزعيم عبدالكريم قاسم” بمجريات الأحداث الدامية في “كركوك” قبل ظهر يوم 15تموز1959 أو في اليوم التالي أو بعدهما.
والحقيقة المؤسفة التي أبتغي طرحها هي أنني لم أعد أصدق في قرارة نفسي أي سرد عن وقائع جميع عهود الـتأريخ لما تلمسته من تناقضات وتباينات بين هذا القاص وذاك رغم مستويات ثقافتهم ومعارفهم، فالوقائع القريبة للغاية يسردها هذا من زاويته ويتحدث آخر عنها من رؤيته ويرويها ثالث بنظرته… فكيف بنا أن نصدق مجريات التأريخ الحديث والوسيط والقديم وأحداث القرون ما قبل التأريخ وقتما لم تكن الكتابة بالأحرف المعروفة معروفة؟؟؟
فمنذ عقود وأنا أحاول في مناسبات مختلفة إستشفاف الحقيقة عن كيفية عرض حقائق مجزرة كركوك (14-16تموز1959) أمام ناظرّي “الزعيم عبدالكريم قاسم”، بحيث أبدل رأيه وإنقلب في مواقفه حيال الشيوعيين وأتباعهم بشكل يعتبر مفاجئاً تماماً في عهده… فهناك أحاديث عديدة قد تكون متباينة بين بعضها البعض على الرغم من أن ألوفاً من أحياء جيلنا القائم قد تعايش مع ذلك الحدث الذي لا يمكن عدّه بعيداً بمنظار التأريخ… ولـما إستشعرتُ بذلك وددتُ سرد بعض المعلومات التي إطلعت عليها وسمعتها بأذني ببعض التفصيل ليكون القارئ الكريم والمتابع ذو الإهتمام بالتأريخ القريب بنوع من الصورة عنها، وقد أستطيع تلخيصها بما يأتي:-
1. حديث المرحوم الشهيد العميد المتقاعد “عبدالله عبدالرحمن البكري”:-
هذا الضابط المخضرم كان برتبة “عقيد” عام (1959) متبوّئاً منصب مدير الإدارة بقيادة الفرقة/2 ومقرها في مدينة “كركوك”، وقد تعايش مع
الأحداث العصيبة التي خاضها التركمان في مدينتهم وسواها، وذلك قبل إحالته على التقاعد وإنتخابه رئيساً للهيأة الإدارية لنادي الإخاء التركماني.
مساء يوم (الخميس15تموز1965) ولدى إنقضاء (6) سنوات على مذبحة كركوك، وحال الإنتهاء من الإحتفاء الشعبي بذكراها السنوية المؤلمة وسط حدائق النادي في “العيواضية”، كالعادة التي سرت منذ مطلع الستينيات، ووقتما كنتُ ضابطاً في الحرس الجمهوري فقد جلسنا معاً بمكتب “أبي فاروق” حين كان رئيساً مُنتخباً للهيأة الإدارية للنادي، فرجوتـه أن يتكرّم بتنويرنا عن حقائق دوره المسموع في تعريف “الزعيم عبدالكريم قاسم” بأحداث تلكم المجزرة خدمةً للتأريخ، فأجاب أمام أنظار وأسماع جمع من الشخصيات التركمانية الذين تواجدوا بمكتبه، أستذكر من بينهم الآن -وعلى سبيل المثال لا الحصر- كلاًّ من “الدكتور عبدالقادر سليمان، الدكتور رضا محمود دميرجي، السيد سيد جلال سيد عزيز النقيب، المهندس جمال خضر”، وقد أستطيع إجماله بما يأتي:-
أ. قبل حوالي أسبوع من المجزرة وحالمـا تبيَّنَ لنـا أن قائد الفرقة “الزعيم/العميد الركن داود سلمان الجنابي” سوف لن يعود من “بغداد” إلى “كركوك” لأسباب لم نتعرّف عليها، فقد أصدر الزعيم “عبدالكريم قاسم” أمراً بتكليف مدير الإدارة والميرة بمقر الفرقة “الزعيم/العميد محمود عبدالرزاق” ليكون وكيلاً لقائد الفرقة، وتحديداً من يوم (9 تموز1959) ولحين تعيين قائد جديد للفرقة، وذلك بحكم كونه صاحب أقدم رتبة بين الضباط، وفي وقت كنا نتهيّأ للدخول بأقصى درجات الإنذار خلال أيام الإحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لإنقلاب تموز تحسّباً لأي طارئ وفضلاً عن إنتشار إشاعات عديدة تشير إلى إحتمال وقوع أحداث كبيرة قد تفرض أوزارها على “كركوك” يوم (12تموز1959).
ب. كنت قد عدتُ مساء يوم (14تموز1959) إلى مسكني على مقربة من معسكر “كركوك” الواقع قرب المطار العسكري لآخذ قسطاً من الراحة بعد عناء طال حوالي (24) ساعة، حين إنتبهتُ وفوجئتُ مع مغيب الشمس بوابل من النيران الكثيفة التي تُطلَق من أسلحة رشاشة عمَّت معظم أحياء مدينة “كركوك” من دون سابق إنذار، ولمّـا طلبتُ إحضار سيارتي العسكرية سراعاً للوصول إلى مقر الفرقة فإن سائقها لم يستطع الوصول إلى مسكني.
ت. هاتفتُ وكيل قائد الفرقة عن طريق الخط العسكري الخاص فأوضح لي أنه ((لا يستطيع حراكاً ونصحني بعدم الوصول إلى مقر الفرقة))!!!!؟؟؟؟
ث. جاءني أحد الضباط الساكنين بجواري ليفاجئني بأن هناك إشاعات تفيد بـ((أنني أقود مؤامرة تركمانية ضد الدولة يشترك فيها ضباط تركمان متقاعدون، وهم معتصمون جميعاً في “قلعة كركوك” فاتحين نيران أسلحة فتاكة نحو المدينة))!!!؟؟؟؟
ج. وفوراً قررتُ المخاطرة بالسفر إلى “بغداد”، فإرتديتُ ملابس مدنية وتَنَـكَّرتُ بـ((يشماغ)) كي لا يتعرف عليّ أحد، وسرتُ مشياً على الأقدام حتى بلغتُ محطة القطار الكائنة في ضواحي “كركوك”، فإقتنيتُ بطاقة درجة/3 وجعلتُ نفسي وكأني ((أصمّ وأبكم)) قبل أن ينطلق القطار بعدد ضئيل من الركاب في موعده المحدد بالساعة/9 نحو العاصمة.
ح. وحالمـا وصلتُ “بغداد” صباح اليوم التالي (15تموز) إنطلقتُ بسيارة أجرة إلى وزارة الدفاع بالملابس ذاتها، وبعد إطلاع إستعلاماتها على هويتي ورتبتي ومدى إصراري على ضرورة مثولي أمام ((الزعيم الأوحد)) لأمر ذي أهمية خاصة يجب إطلاع سيادته عليها شخصياً من دون سواه، فقد أوصلوني إلى سكرتيره الشخصي “الرئيس أول/الرائد الركن قاسم العزاوي”.
خ. كان تقرير خاص من وزارة الداخلية قد عُرِضَ أمام ((الزعيم)) يزعم فيه “مدير أمن كركوك” كوني ((متآمراً))، ولذلك إستغرب “عبدالكريم قاسم” كثيراً لوقوفي أمامه بتلك الملابس الشعبية في مكتبه الرسمي، فأجلسني قبل أن أوضح له:-((صدّقني يا سيدي، لا مؤامرة، ولا ضباط تركمان، ولا أسلحة، ولا قلعة، ولا هم يحزنون، بل أن قائد الفرقة “الزعيم محمود” ربما يكون محجوزاً بمكتبه يا سيادة الزعيم، هذه كلها أكاذيب وإفتراءات، وإذا وددتَ التأكد فإتصل هاتفياً بكل من ورد إسمه أمامك، وبإمكانك أن تبعث أشخاصاً تثـق بهم لزيارة مسكن أي منهم للتحقق من موقفه ووجوده في البيت)).
د. ولكن قبل كل شيء سارع “عبدالكريم قاسم” لـمُهاتفة قائد القوة الجوية “العقيد الطيار الركن جلال الأوقاتي” طالباً منه أن يجري أحد طياري “مطار كركوك العسكري” (إستطلاعاً بصرياً فورياً) فوق “قلعة كركوك” ليتحقق بناظرَيه عن مدى مصداقية أخبار تفيد بأن أناساً مسلّحين يطلقون نيران أسلحتهم نحو المدينة وفي سمائها.
ذ. بعد ذلك طلب إستحصال هاتفَي العقيدَين المتقاعدَين “مصطفى عبدالقادر بك، ونورالدين صابر” فوراً وأن يتحدث معهما شخصياً في مسكنيهما،،، فتم ذلك مع “أبي سعاد وأبي ياووز” خلال دقائق، ولكن حديثه معهما كان أشبه بمجرد سلام وإطمئنان على أحوالهما ومن دون أن يذكر شيئاً عن جلوسي معه أو يتطرّق لـ((المؤامرة التركمانية)) المزعومة.
ر. وبعد أن أمرني الزعيم بالمبيت في إحدى غرف “نادي الضباط” كونه على مقربة من مبنى الوزارة، فقد طلب حضوري بمكتبه في ساعة متأخرة من الليل، حيث كان قد تأكـد من صحة كلما أوردته ظهيرة ذلك اليوم، وأنه كلّف “العقيد عبدالرحمن محمد عارف-آمر كتيبة المدرعات التابعة للفرقة/3 في جلولاء” بالتوجه فوراً لإعادة السيطرة على “كركوك” والقبض على كل من كان سبباً في هذه المحنة.
2. حديث المرحوم “اللواء الركن نايف حمودي”:-
هذا الرجل المخضرم صاحب الذاكرة العجيبة، والذي تدرّج ضابطاً في صنف “الهندسة العسكرية” بالجيش العراقي منذ أواخر الثلاثينيات حتى أضحى برتبة “لواء ركن” مطلع عام 1963، وتواصل بالمناصب التي كان آخرها “مدير الحسابات العسكرية العامة” في عهد “الزعيم عبدالكريم قاسم”، ثم أمسى -بعد إحالته على التقاعد- رئيساً للجنة إعمار الشمال في عهد الرئيس “عبدالرحمن محمد عارف” وقبل أن يُعَيَّن “متصرفاً/محافظاً لكركوك” خلال النصف الثاني من الستينيات، ولمـا ربطتني به علاقة مصاهرة بعد إقتران إبنه “رافد” بإحدى أخوات زوجتي، لذلك كنتُ ألتقي معه كثيراً وأستأنس في تبادل الحديث عن مسيرة الجيش ووقائع العراق المعاصر معه،،، ففي مسكنه بـ”زيونة-بغداد” مساء يوم (الجمعة11ك2-1985) وحين إستذكرنا أحداث “مذبحة كركوك” فقد طرح على مسامعي ما يأتي:-
((حضرتُ بمكتب “الزعيم عبدالكريم قاسم” بالساعة السابعة من مساء يوم (15تموز1959) حيث كنتُ على موعد محدد معه لأعرض أمام أنظاره -بحكم منصبي- الحسابات الختامية لوزارة الدفاع للربع الثاني من ذلك العام، حين وجدته منزعجاً بل ومرتبكاً قبل أن يطلب مني الجلوس وإرجاء موضوعة الحسابات إلى موعد لاحق، وقبل أن يدور الحديث الآتي بيننا:-
الزعيم:- يبدو أن هناك مشكلات كبيرة في “كركوك”، فقد وردتني تقارير متتابعة عن إعتصام عدد من الضباط التركمان في “قلعة كركوك” وإعلانهم العصيان، ولكني تأكدتُ اليوم وبشخصي أن تلك المزاعم برُمَّتها ليست سوى أكاذيب وإفتراءات.
أنـا:- يا سيدي، -أنتَ سيّد العارفين- فالمعروف عن تركمان العراق أنهم أناس وطنيون ومسالمون، إذْ لم نسمع عنهم سوى التسامح والإلتزام بالقوانين، ويستحيل أن يقدموا على مثل هذه الأمور.
الزعيم:- والله صحيح يا أبا فريد، فطوال تأريخ العراق، وخصوصاً المُعاصر، لم يقترفوا شيئاً من هذا القبيل، فعلى عكس ((جماعتنا)) العرب وكذلك الأكراد في عصياناتهم لمرات عديدة وفضلاً عن الآثوريين المدنيين أو أولئك المنخرطون في قوات الليفي، فإن أيـاً من التركمان لم يشارك قطّ في أية حركة مناوئة للدولة العراقية، ولم نعرف عن أصدقائنا وزملائنا من ضباطهم سوى الطيب وسموّ الأخلاق والشجاعة والإلتزام لخدمة الجيش والوطن، وأن “حرب فلسطين” خير شاهد على ذلك،،، وواقع حالي الآن أن ظنونـاً عميقة بدأتُ تراودني منذ ظهيرة اليوم حتى في صحة مزاعم الشيوعيين وسواهم عمّـا أوردوه عن وقائع الأحداث في “الموصل”، وقد أستثني منها فقط ما يخص حقيقة مؤامرة ذلك المقبور “عبدالوهاب الشواف” صبيحة يوم (8مارت)الماضي.
أنـا:- وماذا نويت أن تفعل يا سيادة الزعيم من أجل “كركوك”؟؟؟
الزعيم:- قبل ساعة طلبتُ من “العقيد عبدالرحمن عارف” أن يهيّئ كتيبة المدرعات التي يقودها ليحركـها من “معسكر جلولاء” بأقصى سرعة ممكنة نحو “كركوك” لفرض الأمن هناك، وسألحقها بأفواج مشاة من الفرقة/3، لأن وحدات “كركوك” -وغالبيتهم من الأكراد- فإن عقلي بدأ يظنّ بوقوفهم ضد التركمان، وإذا صحّ ظني فسأضرب بيد من حديد كل من ساهم في إحداث هذه المشكلة ولا أرحم منهم أحداً، وسأريهم ما لا يتوقّعونه، فنحن نروم إلى تهدئة الأمور والعودة من التصرفات الثورية إلى الحياة الطبيعية بعد إنقضاء عام كامل على ثورتنا المباركة والتي لم نَبتَغِ لدى إقدامنا عليها سوى تحقيق حياة آمنة لهذا الشعب المسكين الذي ذاق الأمَرّين لعقود أو قرون من الزمن)).
وبعد ذلك تسلستُ مع السيد “اللواء نايف” في الحديث، إذْ طرحتُ عليه جملة تساؤلات أجابني عليها ببعض التفصيل:-
أنـا:- هل ذكر ((الزعيم)) شيئاً عن كيفية تعريفه بحقائق ما حدث في “كركوك”، وعن حضور المرحوم “الزعيم/العميد عبدالله عبدالرحمن” أمامه صبيحة يوم (15تموز1959).
اللواء نايف:- لم يتطرّق لأي شيء سوى ما ذكرته لك.
أنـا:- مساء يوم (19تموز1959) ولدى تهجّم “عبدالكريم قاسم” بخطابه في كنيسة “مار يوسف” على ما جرى في “كركوك” فإنه لم يتلفّظ وبشكل مُطلَق إسم الشيوعيين أو سواهم من الذين خططوا للمجزرة ونفّذوها، بل أطلق عليهم مصطلحاً عاماً إنحسر في تسميتهم بـ((الفوضويين)).
اللواء نايف:- في ذلك اليوم كان ذلك الحدث الدموي قد وضع أوزاره توّاً، ولم يكن بمقدور (الزعيم) أن يشخّص أو يقذف بالتهمة على طرف معيّن، ولكنه كان قد إتخذ إجراءات قانونية سريعة وشكّلَ العديد من اللجان للتحقيق حول المُجريات.
أنـا:- وحتى بعد ذلك لم يُسَمِّهِم بالإسم رغم التوصّل المفترض لتلكم اللجان إلى حقائق دامغة عن “كركوك”، وإحالة العديد من المتهمين إلى المجلسَين العُرفيّين الأول والثاني، فهل أن ((الزعيم))، وحسب معرفتك به وقربك منه، كان شيوعياً في حقيقته؟؟؟ أم كان ميالاً إلى معتقداتهم؟؟؟ أم كان يسايرهم فقط أم يغازلـهم، ولماذا؟؟؟
اللواء نايف:- لا علاقة له بالشيوعية على الإطلاق رغم طروحات زعمت عن إنتمائه إلى ذلك الحزب قبل قبوله بالكلية العسكرية أو حتى بعد أن أمسى ضابطاً في صفوف الجيش، ولم أستشعر أنه كان ميالاً إلى معتقدات شيوعية رغم محدودية تمسّكه بالدين الإسلامي، وأنه -على علاّته- لم يكن مُلحِداً، ولكنه -في تصوّري- قد رأى نفسه بعد جلوسه على ((سدّة الحكم المسحورة)) فجأةً مع إفتقاره الشديد إلى الخبرة السياسية الداخلية والخارجية ولعبات الأمم الإقليمية والعالمية وأكاذيب السياسيين وألاعيبهم لكونه عسكرياً محترفاً لغاية تبوّئه منصب ((آمر لواء))، ولكنه بعد أن تحسس بعدد من المؤامرات التي حيكت ضده بعد إنقضاء شهرين فقط على الثورة فأنه أمسى مُجبَراً على الإستناد على قاعدة شعبية تؤازره وتسند نظامه، ولم يكن هناك من الأحزاب الثورية سوى الحزبين الشيوعي والديمقراطي الكردستاني
من يدعمه في الشارع العراقي، ولذلك فقد غازلهما كثيراً وبالأخص لـما وقفوا إلى جانبه بكل قوة وبأس في وأدهم لـ”حركة العقيد الشواف” التي تُعَدّ أعظم ما واجهه من مخاطر حتى ذلك الوقت، ولكنه وفور معرفته بحقائق ما جرى في “كركوك” فقد إنقلب عليهم وإعتقل العديد من قادتهم وأحالهم أمام القضاء وبسرعة.
أنـا:- ولكن بعد تعرّض “عبدالكريم قاسم” إلى محاولة إغتيال مساء يوم (7/10/1959) فقد عاد إلى مغازلة الشيوعيين مرة أخرى، في حين لم تكن دماء ضحايا “كركوك” قد جفّت بعدُ، ولم ينقَضِ على قتلهم وسحلهم والتمثيل بجثامينهم سوى أقل من (3) أشهر.
اللواء نايف:- صحيح ذلك، ولكن لو وضعنا أنفسنا محلّ ((الزعيم)) فمن المسلّم به أن ينظر إلى محاولة إغتياله بمثابة خطوة ربما أخطر بكثير نحوه وكرسيّ حكمه حتى من “حركة الشواف” الخطيرة، فلم يستهدف البعثيون هذه المرة نظامه فحسب بل حاولوا قتله وسط الشارع، ولذلك فأنني أرى من الطبيعي أن يعود إلى من كان يؤازره وسط المجتمع العراقي الذي بدأ ((الزعيم)) يتحسس أن فئات عديدة منه قد باتت تكرهه أو تتضادد حياله أو لا تقف بشكل مُرضٍ إلى جانبه،،، ولكنه -والحق يُقال- فإنه لم يَعُدْ إلى مسايرة الشيوعيين وتابعيهم بالقوة نفسها التي كـان عليها قبل أحداث “كركوك”، بل أمسى يقدم من وراء الكواليس على خطوات تتعاكس معهم وتحول دون تمكّنهم من العودة إلى سيطرتهم السابقة على العراق، وفوق ذلك فقد أبعد ((الأكراد)) والمناوئين منهم على وجه الخصوص بعد أن أعلن “ملا مصطفى البارزاني” عصيانه المسلّح حيال الدولة أواخر عام (1960) ولم يعد يثق بهم كثيراً كما في سابق عهده، معتبراً إياهم بمثابة ((خنجر في ظهر العراق)) منذ تأسيس دولته الحديثة ولغاية ذلك اليوم، نادماً من أعماقه على دعوة “ملا مصطفى” للعودة من “موسكو” إلى “العراق” وكَـيْل كل التقدير والإحترام له وللذين رجعوا معه معززين مكرّمين، واصفاً ذلك القرار بـ((غلطة العمر، وجريمة “كريم قاسم” التي لا تُغتفَر بحق العراق)).
3. حديث المرحوم “الدكتور ناجي أحمد حمدي دميرجي”:-
في عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية حيث كان المرحوم “اللواء الطبيب المتقاعد ناجي دميرجي” مقيماً، فقد طرحتُ هذا الموضوع للمناقشة ظهيرة يوم (الثلاثاء13نيسان2007) بمسكنه في “حي الرابية” وسط “عمّـان”، وبحضور
السادة “الدكتور إبراهيم طه، الدكتور عادل عبدالمجيد ترزي، والسيد عادل النقيب”، فأجاب:-
أ. في ذلك العام كنتُ برتبة “مقدم طبيب” والأخصائي الأقدم بأمراض الأذن والأنف والحنجرة في “مستشفى الرشيد العسكري”، لذلك كنت أحد الأطباء العسكريين المشرفين على العناية بصحة “عبدالكريم قاسم”، وأنه لمعاناته من مشكلات في جيوبه الأنفية، فقد كنت متواصلاً على زياراتي لـه بمكتبه في وزارة الدفاع مرتين على أقل تقدير في الشهر الواحد، أو عند الطلب.
ب. واليوم، ومع إحترامي الشديد لأخينا الكبير المرحوم “الزعيم/العميد عبدالله عبدالرحمن البَـكري”، أرى أن حديثه غير دقيق، إذْ لا يُعقَل أن ضابطاً بتلك الرتبة -التي كانت تعتبر عالية في تلك الفترة، وهو يلي قائد الفرقة بالقدم العسكري- يتخذ قراراً في غضون ساعة واحدة ويتنصّل من وظيفته وواجباته ويسير على قدمَيه متنكّراً ويصل إلى محطة القطار بسلام، ويترك “كركوك” بنيرانـها المشتعلة وفوضاها العارمة ومجريات أحداثها ويسافر إلى “بغداد” ليتقابل مع “عبدالكريم قاسم”.
ت. في الحقيقة -والله يشهد على كل كلمة سأتلفظها أمامكم الآن خدمةً للتأريخ- إذْ لا مصلحة أبتغيها لشخصي من وراء ذلك أو ((أحيد النار لقرصة خبزي)) بعد أن إنقضى على هذا الحدث (48) عاماً،،، فالواقع الذي عشته منذ مساء يوم (14تموز1959) أني كنتُ مدعواً مع عائلتي لحفلة ساهرة في “نادي الأطباء” ببغداد، ولم أعد إلى مسكني إلاّ بعد منتصف الليل لأُفاجَـأ بجرس الهاتف يدقّ مراراً، فكان صديقي “المقدم الطبيب خليل طه” على الطرف الآخر متحدثـاً من “مستشفى كركوك العسكري”، وهو يصيح مستنجداً بأن مذبحة تجري في “كركوك” وهناك قتل بالجملة وسحل في الشوارع وهجمات على البيوت والمحال التجارية وإستهداف لجميع شخصيات المدينة ووجهائها، وقد أُستُشهِدَ العديد منهم، ومن بينهم أصدقاؤنا الأعزاء (المقدم الطبيب إحسان خيرالله وأخاه الرائد عطا خيرالله الحَسَني، والوجيه قاسم بك نفطجي) وآخرون كثيرون،،،، وطلب مني الإسراع بإيصال هذه الفواجع إلى أعلى المراجع لـما معروف عني بعلاقاتي الواسعة مع أصحاب المناصب العليا.
ث. حاولتُ حتى الفجر مُهاتفة أي شخص من أقربائي في “كركوك”، حيث بيت والدي وأخي “نجيب” أبناء أعمامي وأخوالي وكل أهلي ولكن من دون
جدوى، فقد كانت الإتصالات مع مساكنهم مقطوعة، فلم أنم الليل بطوله، وكم تمنيتُ أن تشرق شمس الصباح قبل ساعات من موعده، وما أن حلت الساعة/8 ومع بدء الدوام الرسمي ليوم (15تموز) حتى كنت بمكتب “الرئيس أول/الرائد الركن قاسم العزاوي- السكرتير الشخصي لوزير الدفاع”، ولكن لسوء الحظ كان ((الزعيم)) خارج الوزارة لرعاية إحتفاء ما، ولم يعد إلاّ ظهراً.
ج. في منتصف النهار رَحَّبَ بي “عبدالكريم قاسم” مستغرباً عن زيارتي المفاجئة هذه، ولكني مـا أن بدأتُ بعرض ما جئتُ لأجله، فقد أوضح أنه تسلّمَ مساء أمس تقريراً من “مدير أمن كركوك” يفيد بـ((إعتصام تركماني مسلّح في “قلعة كركوك”))، مضيفاً أنه منذ الليلة الماضية وهو يحاول إستيضاح الحقيقة، كونه أنه إرتاب كثيراً من نبرة صوت وكيل قائد الفرقة/2 “الزعيم محمود عبدالرزاق”، ولكنه بعد ذلك لم يستطع إستحصاله صباحاً ولحين مغادرته الوزارة.
ح. وبعد أن شرحتُ له ما أبلغني به “الدكتور خليل طه” هاتفياً، فقد إستغرب كثيراً وبان الإرتباك على محيّاه، وطلب من سكرتيره الشخصي الإسراع في إستحصال وكيل قائد الفرقة من جهة، وعدد من الضباط التركمان المتقاعدين من سكنة “كركوك” وفقاً لقائمة أرقام هواتف سلّمتها بين يديه، ومن بينهم “الدكتور خليل طه، العقيد مصطفى بك عبدالقادر، العقيد نورالدين صابر”، وبعد أن تحدث مع أولئك لبضع دقائق فقد غضب بشدة، وحينئذٍ أسرع إلى مهاتفة قائد القوة الجوية “العقيد جلال الأوقاتي” طالباً منه إستطلاعاً جوياً فورياً فوق “كركوك” وبالذات قلعتها،،، ولكني لا أدري ما حصل بعدئذ، وكيف تصرف، وكيفية تحريكه لقوات من خارج “كركوك” لإعادة الأمن إليها، سوى أن “قاسم العزاوي” هاتفني مساء اليوم ذاته وأبلغني شكر “الزعيم الأوحد” على ما أقدمتُ عليه أمام سيادته ذلك اليوم.
4. ما كتبه الأستاذ المحامي “عطا ترزي باشي” مؤخراً
لقد فَجَّرَ أستاذنا المحامي والمؤرخ والأديب-الشاعر-والمناضل التركماني الكبير والمعروف بالدقة والصراحة والصدق، والذي لا غبار عليه “عطا ترزي باشي” قنبلة قبل (4) سنوات من يومنا هذا عن حقيقة الشخص الذي أوصل الخبر
إلى شخص “عبدالكريم قاسم”، حين تحدث وسط بحثه المختصر عن مجزرة كركوك في الصفحات(59-69)من الجزء الثاني لكتابه الموسومTURKMAN” KESKULU ” الصادر في “كركوك” عام (2010) باللغة التركية الحديثة، وبالأخص في الصفحة (64) ما مفاده:-
((لقد زعم أحد أقرباء المرحوم “عبدالله عبدالرحمن” في مقالة نشرتها إحدى المطبوعات المحلية بأن المرحوم كان الشخص الأول الذي أوصل خبر مجزرة كركوك إلى شخص “عبدالكريم قاسم” وأنقذ التركمان من الإبادة الجماعية، ولكن إدعاءه هذا يُجافي الحقيقة، فهذا الرجل الذي أُعدِمَ عام 1980، ولربما من دون ذنب إقترفه، قد سلك طريقاً غير مألوف غير الطريق الرئيس المقطوع لبلوغ “بغداد”، فإنه لم يتقابل مع “عبدالكريم قاسم” إلاّ وقتما إنضم إلى مجموعتنا ظهيرة يوم 17/7/1959، ونتيجة جهد جهيد بذله المرحوم “يونس سيد عمر النقيب”))؟؟؟؟!!!
وفي حين أختتم هذه السطور بالقول أن المرحومين الثلاثة “الزعيم/العميد عبدالله عبدالرحمن البكري، واللواء الركن نايف حمودي، واللواء الطبيب ناجي أحمد حمدي دميرجي” قد تفوهوا بما تفوهوا به وطرحوا حقائق جديرة بالذكر والتمحيص وقد خضت أنا في تفاصيلها قدر المستطاع، ناهيكم عن تطرقي إلى ما كتبه الأستاذ المحامي “عطا ترزي باشي” -أطال الله في عمره- بكتابه المنشور والمتداول في المكتبات عن عدم وصول المرحوم “العقيد عبدالله عبدالرحمن” إلى “الزعيم عبدالكريم قاسم” إلاّ ظهيرة يوم (17تموز1959)، أي بعد إنقضاء أيام المجزرة الثلاثة وبعد إن وضعت المصائب أوزارها بيوم واحد.
وربما أمسى جميع القراء الكرام ببعض الصورة عن مجزرة كركوك وتناقض التوقيتات بين الشخوص الذين يتطرقون نحو مثولهم أمام “عبدالكريم قاسم” في هذا الشأن… ولذلك أرى وجوباً على أي تركماني يتمتع بملكة القلم أن ينزل إلى الساحة ليتحدث بجرأة وصراحة الكتاب الصادقين ليأتي بغير تلكم الطروحات الأربعة عن أولئك الأربعة الأفاضل ويشخّص الأخطاء والطروحات غير المنطقية -إن وجدت حسب رؤيته- حيال ما كتبته أنا عن أقاويلهم، فيسرد ما يخزنه في كاهله مما قد يقتدر بعرضها ليُفنِّد ما زعمه هذا وإدعاه ذاك وذكره سواهما بدلاً من التحدث في المجالس الخاصة، فذلك ما أعدّه دليلاً على الجبن والنفاق، حين يبقي خزينه من الوقائع والأسرار في أعماق صدره فتدفن معه حين تحين ساعة يوارى الثرى.
وأخيراً لا بد من أن أقذف قنبلة جديدة وصريحة عما ترسخ في قرارة نفسي تلي قنبلة “الأستاذ ترزي باشي” من حيث إعتقاد البعض أن مجرد الوصول إلى “الزعيم عبدالكريم قاسم” لإخباره بالمجزرة عملاً بطولياً يستحق التقدير والتمجيد والثناء، ولكن الحقيقة التي أؤمن بها في قرارة ذاتي أنه ليس كذلك لا من بعيد أو قريب سواء من الناحية القانونية أو المهنية العسكرية أو مبادئ الشجاعة والقيم، ولكني سأبقي المعنى في قلب الشاعر من دون رغبة في التعمق بتفاصيل هذا الإيمان أو الإعتقاد خشية أن يطول العتاب مع من يعارضني في هذا الشأن… كما أني لا أعدّ “مجزرة كركوك” شيئاً ينبغي أن يفتخر به التركمان ويزهون، فقد كانت نتيجة جبن “التركمان” وخوفهم وسكونهم وسكوتهم وإعتمادهم على الغير وإختبائهم في بيوتهم وعدم دفاعهم عن أنفسهم وجيرانهم وأقربائهم، بذلك سنحوا الفرص أمام أولئك الوحوش بأن يذبحوا إخواناً لهم كالخرفان تحت ناظريهم ويفترسوهم أمام أعينهم ويقذفوا بأجسادهم على الأرصفة ويعلقوهم على الأعمدة من دون أن يحركوا ساكناً طيلة (3) أيام، وذلك والله والله وصمة عار بحقنا –نحن تركمان العراق- يجب أن لا نسمح بتكرارها بالعزيمة وقوة المال والسلاح والتشكيلات، وإلاّ سيكون مصيرنا في المستقبل المنظور الإضمحلال والذوبان.
مشاهد عن أحداث القتل والسحل والتمثيل والتعليق
ما سطّرته كان كل ما في جعبتي من مشاهدات ومعلومات، فالحقيقة أنني لم أرَ بأمّ عينَيّ وبشكل مباشر أي حادث قتل أو سحل أو تمثيل بالجثث، عدا مشاهدتي عصر يوم (الأربعاء 15 تموز 1959) لثلاثة شهداء أُنتُفخت جثثهم، إثنـان منهم معلّـقان على عامودين لـ”جسر كركوك الجديد” وثالث ملقىً على الأرض تنهش بجسده كلاب سائبة،،، ولذلك سأحاول في القريب العاجل -بإذن الله تعالى- العثور على أصدقاء وزملاء وأقرباء ومعارف لنعقد معاً لقاءات ثنائية أو جماعية ونتحدث عن معايشتهم للأحداث شخصياً أو مشاهداتهم بناظرَيهم لمدى قساوة تلك الأعمال الوحشية -والوحوش براء منهم- سواءً وسط مساكنهم أو على مقربة منهم أو لدى جيرانهم أو في الشوارع
التي كانت بيوتهم مُطلّةً عليها في حينه، كي أسردها وسط سطور صفحات عديدة… والله وليّ التوفيق.