24 ديسمبر، 2024 5:34 ص

الدولة الفاشلة والإنهيار الحتمي

الدولة الفاشلة والإنهيار الحتمي

عمدت الولايات المتحدة الامريكية بعد فشلها في تحقيق اهداف غزوها للعراق عام 2003 الى تغيير الخطط والتكتيكات العسكرية المباشرة لصالح مضاعفة الخطط والجهود الاستخباراتية والعسكرية غير المباشرة وأسست لمعالجة ما أطلق عليه الخبراء الاستراتيجيون “الأهداف الاستراتيجية الكبرى” انطلاقا من رؤية مختلفة لطبيعة وحجم المخاطر ومصادرها واعتماد الأسلوب الأمثل لمواجهتها فيما أُطلق عليه حروب الجيل الرابع او الحروب السرية التي تتقاتل فيها قوى معينة بالوكالة نيابة عن الجيوش الامريكية التي لن تتكلف عناء اطلاق رصاصة واحدة!! وكذلك العمل على خلق الدول الفاشلة من خلال اللعب على التناقضات المذهبية والعرقية والقومية وتحريك عوامل التقسيم والتفتيت وخلق دوافع الفتن والاقتتال الداخلي والايحاء بأن اسباباً محلية في الدولة ذاتها هي التي ادت الى مثل هذا الفشل الذي سيفتح الباب واسعاً للتدخل من قبل القوى الكبرى لفرض سياستها ورؤيتها للحلول بما ينسجم مع اغراضها وغاياتها ويحقق مصلحتها ويُبقي الدولة الفاشلة رهينة بيدها.

 هذا ما أكده البرفسور (ماكس مانورانج) الخبير العسكري والباحث في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية إذ يقول في محاضرة له في معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني: ” بعد التجربة الحالية وخلال العشرين عاما الماضية وجدنا أن الحروب التقليدية تكلفنا الكثير من الأرواح والمال وأن الهدف من الجيل الرابع من الحرب غير المماثلة ليس تحطيم مؤسسة عسكرية أو القضاء على قدرة أمة من شن مواجهة عسكرية بل الهدف هو الإنهاك والتآكل ببطء وإرغام الدولة المستهدفة على تنفيذ إرادتك ومخططك والتحكم أو الوصول الى نقطة التأثير في عدوك، والقاسم المشترك في كل هذا هو( زعزعة الاستقرار ) وهي ليست قوة النيران والأسلحة كما كان في السابق بل هي القدرات العقلية الذكية التي من خلالها لا حاجة لك لخوض حرب مدمرة بل فقط تجبر مواطني دولة العدو لخوض الحرب فيما بينهم لخلق فكرة ( الدولة الفاشلة ) وهنا، والكلام مازال للبروفيسور مانورانج: يمكنك التحكم في الإقليم والناس في كيان سياسي معترف به من خلال الدور الذي تقوم به مجموعات عنيفة وشريرة”. ويقول أيضاً: ” إن الحرب هي الإكراه سواء أكانت غير قاتلة أم قاتلة كما اعتدنا في الماضي وهذا النوع من الحرب المماثلة يصنع لنا الدولة الفاشلة بعملية هادئة وبطيئة وغير مكلفة”.

ويوضح مانورانج غرضه وهو الذي عمل في المخابرات العسكرية وفى قيادة الجيش الاميركيين: “ان استخدامنا لزعزعة الاستقرار وانتشار الفوضى تضعف قدرة الدولة على التحكم في الأوضاع أو السيطرة الكاملة على بعض أجزاء من أراضيها عندها يمكن ترويض العدو” ويؤكد الخبير العسكري الاميركي هذا “ان العسكريين الاميركيين لا يستخدمون مصطلح ( الدولة الفاشلة ) أبدًا في خطابهم كنوع من الدبلوماسية الواجبة حتى لا نحرج أحداً من أعواننا الذين ينفٍّذون خططنا ولأن المنتج النهائي للحرب الناعمة هو دولة فاشلة”!!.

 إذاً صناعة الدول الفاشلة غير القادرة على اداء وظائفها والتركيز على عدم قدرتها على القيام بمهامها ومسؤولياتها الاقليمية والدولية لا سيما على صعيد الامن والاستقرار هو لتبرير وضع خطط وتحديد آليات التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان “الفاشلة” بما يؤدي الى استنزافها كمقدمة لانهيارها المحتم.

 ما جرى في العراق يأتي في سياق هذه الصناعة الاميركية إذ جرى الانتقال من سلطة دكتاتورية الى سلطة احتلال عسكرية بلباس مدني زرعت صواعق التفجير والتدمير في مؤسسات الدولة العراقية الجديدة لتأسيس مشروع الانهيار الشامل لدول المنطقة، مشروع الشرق الاوسط الواسع (الكبير) إذ تحول العراق وشعبه الى حقل من حقول التجارب للاستكبار سواء في خلق نظام سياسي يعاني خللاً بنيوياً في أسسه ومرتكزاته القائمة على المحاصصة الطائفية والقومية أو في تحويله الى ساحة استنزاف دائم يُشعل لهيبها تفجير الصواعق الامريكية التي زُرعت في الدستور او التي اُبتكرت وتم تبنيها كعرف في السياقات السياسية كصيغ التوافق الشكلية على حساب الثوابت التي جرت عليها النظم السياسية بمعاييرها السليمة، أو في رعاية ودعم الجماعات التكفيرية لتعميق وتوسيع دائرة الاستنزاف وتوظيفها لتحقيق الاجندات الصهيو – أميركية.

 يبدو اننا بحاجة ماسة للتوافق على صيغ وطنية واقعية -خارج سياق المعايير الأمريكية- نعمل على تثبيتها بشكل دؤوب وبخلافه سنبقى ندور في حلقة مفرغة وصولاً للانهيار الحتمي.