” ان لم تسور حقلك فلا تلم الذئاب ان التهمت نعاجك ”
الجيوش حالة تاريخية قائمة قديمة قدم المجتمعات الانسانية اوجدتها ضرورات الحياة ، فالطبيعة قانونها الاساس الصراع المستمر… والبقاء للاصلح …..ومالم تتخذ العدة للحرب استسهل الاخرون استعبادك ….والتاريخ الانساني بحد ذاته هو نتاج الحروب والصراعات العسكرية بين بني البشر . وقد جاء في القران ” واعدوا لهم مااستطعتم من قوة …..” وهذه القوة هي مايعرف بالجيوش في عالم اليوم.
التاريخ مليء بالشواهد على اضمحلال دول وامبراطوريات كبرى بسبب ضعفها وانحلالها العسكري فاصبحت فريسة للقوى الصاعدة الاقوى منها ( الامبراطوريات الرومانية والفارسية والاموية والعباسية والعثمانية والمايا ….الخ ) …
ولعل قائل يقول ان الحضارة من علوم وفنون واداب ليست نتاج القوة العسكرية ….فاقول له نعم لكن هذه الحضارة لم تزهر الا في جو من الامن والاستقرار ، وان افضل الحضارات كانت نتاج اقوى الامبراطوريات في عصور عزها ( العربية والرومانية والبريطانية والاميركية الان )…. والتقدم العلمي والاقتصادي في اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ماكان ليتم لولا جو الامن والاستقرار الذي وفرته القوات الاميركية وحلف الاطلسي لهما .
وفي الدول النامية كالعراق والدول العربية ، يقترن البناء العسكري باهمية استثنائية ضمن حقبة بناء مؤسسات الدولة الوطنية …حيث تتسم البنى الوطنية بالهشاشة والضعف ، وتنفرد المؤسسة العسكرية بانها المؤسسة الاكثر تنظيما وانضباطا وتمثيلا للنسيج الاجتماعي في الدولة مما يؤهلها لتكون البيئة الحاضنة والحامية لاستكمال بناء الدولة الوطنية وحمايتها من الاخطار المحدقة بوجودها في المرحلة الانتقالية الصعبة . ولا نبالغ في القول انه لولا المؤسسة العسكرية القوية لما استطاعت الولايات المتحدة من تفادي خطر الانقسام والتمزق وبناء اكبر امبراطورية اقتصادية وسياسية في التاريخ ….ولما استطاعت دول اخرى من الحفاظ على وحدتها واستمرارها كباكستان ومعظم الدول العربية وتركيا…الخ .
لولا الجيش القوي لكانت المانيا قد غزت الجزر البريطانية واصبحت في خبر كان ….ولولا الدفاع الاسطوري للجيش الاحمر لكانت المانيا قد استعبدت روسيا للابد …..ولولا الجيوش القوية في الدول العربية ودول العالم الثالث ، لوقعت هذه الدول فريسة الصراعات والانقسامات العشائرية والعرقية والحركات السياسية المتطرفة …
نعم هناك فساد يشوب عمل المؤسسة العسكرية وحالات انكسار كثيرة في تاريخها ، وهذه هي سنّة الامور ، لكن ذلك لا يبرر الدعوة لالغائها …فان كان الضفر متسخا او متقرحا فهل الحل يكون بقطع الاصبع ؟
بعد هذه المقدمة الطويلة التي لا بد منها ، نأتي الى جوهر الموضوع …في 2003 صدمنا بقرار غبي دبّر في ليل بحل الجيش العراقي …فكانت النتيجة فوضى امنية وتخبط ودماء وخراب وانقسام مازلنا نعانيها لحد اليوم ….واليوم يصدمنا البعض مرة اخرى بدعوة لا اعرف ان كانت نتيجة شطحة خيال بعد ان دارت الخمرة بالرأس ، او هي تعبير عن حالة يأس من حال قائم او هي نتيجة تراكم لعقد نفسية تعبر عن حقد كامن ضد كل مايمت للوطن بصلة وخاصة للمؤسسة العسكرية ؟
منذ الثمانينات ، وخاصة في التسعينات من القرن المنصرم كنا شهود عيان على الاستخدام غير الصحيح للمؤسسة العسكرية واشرنا الى الظواهر الغير سوية التي بدأت تشوه سمعة واساس بناء الجيش العراقي ….لكن انتقاداتنا هذه كانت من باب الحرص على اصلاح الخلل ، وليس من باب الانتقام من جيش بكامله ، عمره من عمر الدولة الوطنية العراقية الحديثة،كذلك القرارالذي لجأ اليه الاحتلال واذنابه الذين لم يكونوا يوما مواطنين عراقيين ..ان بالهوية او الانتماء .
الامر نفسه ينسحب على الجيش العراقي الحالي . فعلى الرغم من تشخيصنا المبكر للاخطاء القاتلة في بنائه الفكري العقائدي وفي بنائه التنظيمي والبشري ( وهي اسباب حقيقية في الاخفاقات التي حصلت وفي النظرة غير الودية وحتى المعادية لقطاع واسع من الناس الى الجيش الحالي ) ….مع ذلك لا يبلغ بنا الشطط الى الدعوة …انه لمجرد الاخفاقات او الممارسات الطائفية وغير المهنية الفردية او من بعض وحداته غير المنضبطة هنا وهناك ، الى الغاء الجيش …..لان البديل هو فوضى سلاح عارمة واقتتال داخلي لا يبقي ولا يذر….وفتح الطريق بكل حرية للميليشيات والارهاب لملأ الفراغ ….وحينها لن تكون هناك دولة عراقية ضعيفة ( كما نصفها اليوم ) …وانما لا وجود البتة لاية دولة …ويحل محلها شريعة غاب قد يكون السيد الكاتب الذي افتى بالغاء الجيش بعيدا عنها لانه يتمتع بالجنسية الاميركية ويعيش على اراضي دولة يحميها اقوى جيش في العالم …لكن ماذا بشأن ” ولد المكرودة ” الذين كتب لهم العيش على ارض القهرين والانتقال من حرب الى حرب اخرى ؟
الانكسارات العسكرية ليست سببا يبرر الغاء الجيوش ، بل هي فرصة لدراسة اوجه الخلل من اجل الاصلاح والتطوير….فهل ادى الفشل الاميركي في فيتنام الى حل الجيش الاميركي ؟ ام العكس هو الذي حصل ، حيث تم بناء الجيش على اسس جديدة عرفت بـ ( جيش المتطوعين بالكامل ) حيث وجد بعد الدراسة ان المجندين قليلي الخبرة والتدريب والانضباط كانوا اسباب الفشل .
خسارة اليابان والمانيا الحرب لم تلغيا الجيوش وانما اعادتا بنائهما على اسس جديدة تتلائم والمرحلة الديمقراطية ومتطلبات الدفاع الذاتي ( وليس الامبراطوري ) .
دول مثل السويد وسويسرا ..محايدة ولم تدخلا حربا من مئات السنين ، لكنهما لم يفكرا بمنطق توفير النفقات العسكرية ، بل بنيتا اقوى جيشين عصريين ، لان الجيش هو عنوان السيادة الوطنية والضامن لحيادهما من الانتهاك من قبل اطراف اخرى . فهل نتهم السويد وسويسرا بالغباء لانفاقهما المليارات على جيوش تعرف انها لن تخوض حربا ؟ بالطبع لا.. لان المليارات لن تضيع هباءا مقابل ان تكتسب الدولة عوامل القوة والردع الضروريان لاستمرار الحياة الطبيعية .
ان كان البعض حاقدا على الجيش السابق لانه قام بالانقلابات ، نقول ان الانقلابات العسكرية جزء لا يتجزأ من مراحل التطور التاريخي للدول …وكلما استقرت مؤسسات الدولة وترسخت قيم المواطنة الصحيحة فيها تقل ظاهرة الانقلابات وتختفي تدريجيا …وهذا ما حصل في العراق وفي كل الدول العربية فمتى كان تاريخ اخر انقلاب عسكري في العراق؟…
وان كان البعض حاقدا على الجيش السابق لانه خاض حروبا عبثية او مارس اضطهاد الشعب (من وجهة نظر هذا البعض ) ..نقول ان الجيش مبني على اساس الانضباط الصارم الذي يتقيد بتنفيذ الاوامر االصادرة اليه من المرجعيات السياسية ولا يحق له مناقشتها ( فلا ديمقراطية في العسكرية والا حدثت الفوضى العارمة ) …اما النتائج فتتحملها القيادة السياسية …والانتهاكات الحاصلة هنا وهناك يعاقب عليها القانون العسكري الذي يجب تنفيذه دوما لضمان التزام العسكر بالضوابط المهنية للعمل العسكري.
وان كان البعض حاقدا على الجيش الحالي لممارسات غير مهنية وغير اخلاقية ( كالتي نشاهد بعضها على اليوتيوب ) وطائفية ولتفشي الفساد وضعف القيادة ، أو بسبب اخفاقاته الكبيرة في ميادين القتال…فليعلم ان الذنب لا يقع كاملا على الجيش وانما على النظام السياسي الذي انشأ الجيش وسخره لمهام منحرفة …فتدخل الاحزاب من خلال ارتباطاتها الخارجية ودمج الميليشيات التي لا تؤمن بالقيم الوطنية للجيش وغير قادرة على الالتزام بمعاييره المهنية….ونفاق وتملق بعض القادة العسكريين ومسايرتهم للسياسيين المنحرفين …هي المسؤول الاول عن انحراف الجيش عن مهامه الاصلية ….ونقول دائما الحل ليس بالالغاء لان في ذلك اجحاف كبير بحق الجيش والوطن ولا يؤدي الا الى الكارثة ….ولكن الحل بالاصلاح مهما كان صعبا وكبيرا …
هل هناك من يختلف معنا في ان اساس نكبتنا تأتي من منظّرين يخوضون في مواضيع ستراتيجية ومصيرية حساسة وهم لا يمتلكون الدراية الكاملة فيها ان صدقت نواياهم ….ويكون الامر اسوأ ان كانت تدفعهم غرائز واحقاد دنيئة بعيدة عن المنطق والتفكير السليم …..وهل يختلفون بذلك عن السياسي الفاسد الذي يرتقي على اشلاء خراب البلد وتقسيمه ….بريمر يعترف في اخر لقاء له على قناة الجزيرة من ان قرار حل الجيش العراقي كان بضغط من البرزاني الذي هدد بالانفصال …فان كان البرزاني يعاني من عقدة عدم انتماءه لبلد اسمه العراق فعتبي على من يدعّي انه عراقي ويمشي في نفس الخط .
اذن دعونا لا نخطئ مرتين …ولا نمارس جلد الذات ….لنتروى لنعرف كيف نصلح احوالنا بدون اللجوء الى العمليات القيصرية ….فالجيش مؤسسة وطنية يصيبها مايصيب باقي المؤسسات من تعثر..لكن الاستثمار الصحيح فيها ليس خسارة …بل كسب كبير للوطن ومستقبله .
ويل لامة مالها عند بخلائها وسيوفها بيد جبنائها …..الامام علي