تتخذ المرجعية الدينية مركزيتها الدينية لدى الطائفة الشيعية من انتسابها إلى خط الرسول والأئمة الأطهار وباعتبارها الوريث الشرعي لمقام الإمامة, وجاءت توصيات الرسول والأئمة الأطهار بالعلماء والفقهاء بالاقتداء بهم وعدم التخلف عنهم, لما يمتلكونه من علم ودراية وقوة تأثير في المجتمع, ولم يقصر العلماء بادئ دورهم الذي اختطه لهم أئمتهم عليهم السلام من ملازمة العلم والبحث والتدريس ونشر العلم والمعرفة والفضيلة في ربوع المعمورة ولازموا العلماء هذا الطريق من زمن حياة الأئمة والى زمن الشيخ المفيد والطوسي والى يومنا هذا وحافظوا عليه تمام المحافظة.
وكانت الزعامة الدينية لدى الطائفة الشيعية تتمثل بعالم واحد يكون هو المحور لباقي العلماء ولطلاب العلوم والمعارف الدينية وتكون الحوزة العلمية في مدينته, وأينما يكن ذلك العالم تكن الزعامة معه, ففي زمن الشيخ المفيد كانت الزعامة الشيعية ومقر الحوزة العلمية في بغداد لوجوده بها وبعدها انتقلت الزعامة الدينية إلى مدن عدة مثل كربلاء وسامراء والحلة إلى أن استقرت في محافظة النجف الاشرف عند مرقد الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام وأصبحت مناراً لطالبي المعارف والعلوم الإسلامية ومقرا للزعامة الدينية التي أسسها الشيخ الطوسي في النجف الاشرف قبل ألف سنة ومرتعاً للعلماء.
وبدأ يتوافد عليها العلماء من كافة المحافظات الأخرى والدول المجاورة واتسعت دائرة التدريس والاهتمام بالعلوم وأصبحت هنالك مساكن لإيواء الطلبة الذي يأتون من دول أخرى وأمكنه بعيدة.
ومن المهام التي يقوم بها الزعيم الديني إيفاد العلماء والمرشدين إلى المحافظات البعيدة والى دول معينه مع إرسال رسالة خاصة تُكتب وتُختم من قبل زعيم الطائفة لغرض توثيق ذلك العالم والتعريف في علمه وأخلاقه واجتهاده, حتى تعارف ذلك الأمر لدى الناس, واخذ العلماء الذين يدرسون في حوزة النجف لا يرجعون إلى مُدنهم إلا وقد حصلوا على ذلك التوثيق الصادر من الزعيم الديني لكي يتسنى لهم القيام بدورهم الديني في مدنهم.
ومن المدن التي حضيت بالاهتمام الأكبر في هذا المجال هي المدن الإيرانية واللبنانية لكثرة العلماء الذي التحقوا في الحوزة العلمية في النجف الاشرف, وحتى مع فتح المدارس والحوزات الدينية في تلك المدن فان العالم لا يطلق عليه عالم مجتهد إلا إذا شهد له زعيم الطائفة الشيعية في النجف بالاجتهاد والوثاقة, فكانوا العلماء الذي قد أكملوا دراستهم في مدنهم يأتون إلى النجف الاشرف لغرض الحصول على إجازة اجتهاد من قبل الزعيم الديني وبعدها يرجون إلى أهلهم.
وستمر هذا الأمر إلى قيام الثورة الإسلامية في إيران وبدأ العلماء في إيران بعد انتصار الثورة يعملون جاهدين من اجل خلق حوزة علمية تكون موازية لحوزة النجف الاشرف وساعدهم في ذلك الأمر أمران الأمر الأول هو الدعم المادي من قبل الحكومة الإيرانية للحوزة مما أتاح لها أن تقوم ببناء المدارس والمعاهد والمؤسسات الدينية التي تُعنى بنشر بالفكر الإسلامي بشتى أقسامه من ناحية تفسير القران والحديث والفقه والأصول واللغة العربية وغيرها من العلوم, وفتحوا الباب أمام الطلبة الراغبين في الالتحاق للدراسات الدينية ووفروا لهم كل المستلزمات الكافية للتدريس والإقامة والسكن مما جعل الطلبة يعرضون عن الذهاب إلى حوزة النجف وبدئوا يتوافدون إلى قم مركز الحوزة العلمية في إيران.
والعامل الثاني هو وصول حزب البعث إلى سدة الحكم في العراق وتركيزه على إضعاف الطائفة الشيعية وتجريدها من كل المميزات التي كانت يتمتعون بها, فبدأ بالتضييق على طلاب العلوم الدينية من باقي الدول وقام بتسفيرهم, واعدم العلماء والمفكرين واحجر على من يتولى منصب الزعامة الدينية وقيد من حركاته وعمله مما حدا بأغلب العلماء والمفكرين إن يغادروا إلى حوزة قم في إيران مما رجح كفت الميزان لها قبال حوزة النجف الاشرف.
وأصبح هنالك شبه التنافس والأولوية على الزعامة الدينية لدى الحوزتين وأي واحدة منهنّ تُعد الحوزة الأولى التي يترأسها الزعيم الديني للطائفة الشيعية.
فحوزة النجف تصر على إنها هي الأساس وهي المركز للطائفة الشيعية وهي التي أنجبت فطاحل الزعماء والعلماء والمراجع الدينيين.
بينما تدعي حوزة قم بان النجف قد فقدت مركزيتها بعد الحرب عليها من قبل حزب البعث وتراجعت وأصبحت في مرتبة ثانية وان حوزة قم اليوم هي المركز الأول للطائفة الشيعية وان ولي الفقيه الذي يحكم إيران يُعد الراعي لكل الشيعة في العالم, وقد قامت الحوزة قم بعدت محاولات تشير أغلبها إلى هدف رئيسي وهو فرض سيطرتها وهيمنتها على حوزة النجف الاشرف.
فقد استطاعت المؤسسة الدينية في إيران بمفهومها العام والمتمثل بولاية الفقيه إخضاع اغلب التيارات الدينية والسياسية الشيعية تحت ذريعة المقاومة أو غيرها من المشاريع التي تنسجم مع طبيعة كل مجتمع وبلد, واستطاعت بفضل تلك المشاريع أن تصبح قوة متنفذة في المنطقة.
وبعد سقوط النظام ألبعثي في العراق وسهولة الدخول إلى أراضيه من قبل الدول المجاورة وغير المجاورة سهل ذلك الأمر على إيران أن تقوم بعدة ادوار ومهام دينية وسياسية تتيح لها فرض هيمنتها على الطائفة الشيعية بالكامل ومن خلال عدة برامج وآليات.
فإننا نجد اليوم في الساحة العراقية بروز ظاهرة غريبة وجديدة في سير المؤسسة الدينية وهي بروز قيادات دينية لا تحمل رتبة الاجتهاد أو الزعامة الدينية, وتقوم بأعمال دينية وسياسية واسعة.
وهذا الأمر لم يكن متبعاً في سير الحوزة الدينية التي كانت لا تعمل إلا تحت عنوان الزعيم الديني وتحت حوزة النجف الاشرف, وهذا هو ديدن الحوزة العلمية على مر العصور والدهور وهذه هي توصية العلماء ومراجع الدين, لان القائد إذا لم يتصف بصفات العلماء ومؤهلاتهم فسوف يصبح ضال ومضل كما عبر عنه السيد الشهيد الصدر الثاني”قدس” في خطبه ولقاءاته.
وفي المقابل نجد بان المؤسسة الدينية الإيرانية تعمل جاهدة على صنع تلك القيادات والزعامات الدينية والسياسية وتخضها لأوامرها وإرادتها وتوجهها كيفما تُريد وهي بهذا العمل تكون قد سحبت البساط من تحت المرجعية الدينية في النجف الاشرف وأصبح الشباب المتحمس والمدفوع للعمل الجهادي والديني ينخرط وبقوة تحت ألوية هذه التيارات الدينية مما ولد لنا العشرات من تلك التنظيمات والتشكيلات والتيارات التابعة للمؤسسة الدينية في إيران.
وأصبحت قيادة هذه التيارات تسيطر على اغلب فئات الشباب في العراق وتوجهها كيف ما تريد منها المؤسسة الدينية الإيرانية, وبسبب هذه الأعمال فان دور المرجعية الدينية بدأ بتراجع ملحوظ في الفترات الأخيرة وخصوصاً ما يمر به العراق من أحداث وذلك لان طرح مرجعية النجف لا ينسجم مع ما تريده تلك الزعامات والقيادات الدينية أو السياسية لذلك لجئت إلى حوزة قم واحتضنتها المؤسسة الدينية الإيرانية وقامت بتمويلها وتوجيهها كيفما تريد.
فعلى المرجعية الدينية في النجف الاشرف أن تبادر إلى اخذ دورها بشكل فعال ومناسب للأحداث وعليها ان تراعي متطلبات الجماهير وان تحافظ عليهم من التوجه نحو التيارات الأخرى وإلا فان دور المرجعية النجفية في السنوات المقبلة سوف ينحسر وربما يتلاشى عن الساحة ويختصر عمله فقط في ميادين الحوزة العلمية وهذا ما تسعى إليه جهات معينة وتعمل علي تنفيذه في المستقبل.