صدر في بغداد كتاب بعنوان ( من أعماق السجون … نقرة السلمان … قيود تحطمت ) من تأليف السيد عبد القادر أحمد العيداني، وهو مجموعة من الحكايات تروي الكفاح الملحمي للشيوعيين العراقيين في سجن نقرة السلمان الشهير حيث الصمود والبسالة والاصرار على التضحية للفترة ( 1963 ــ 1968 ) وهي الفترة التي قضاها المؤلف العيداني في ذلك السجن الرهيب. مقدمة الكتاب هي قول للإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) مخاطبا هارون الرشيد من سجنه ( لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء ) ورغم ما للقول من دلالة ومعنى وتحدي للطغيان ولكن موقعه هنا يشير الى مدى تمسك
الشيوعيين العراقيين بأديانهم ورموزهم الدينية وذلك عكس ما يشاع عنهم من خصومهم، وبالمناسبة فان السيد العيداني ادى مناسك العمرة قبل فترة ويطمح الى حج بيت الله الحرام وهو كان ولا يزال من عتاة الشيوعيين العراقيين. بعد المقدمة اهدى العيداني جهده هذا الى الأم العراقية التي انجبت خيرة المناضلين حيث تنتقل بين السجون والمواقف والمعتقلات طول البلاد وعرضها ومنهن والدته ( فهيمة خضير الاسدي ) وما عانت من الطغاة في سبيل زيارة ولدها في السجون، كذلك يهدي الكتاب الى اخويه وزوجته واولاده وأحفاده ورفاقه في الحزب الشيوعي العراقي والى كل
المناضلين العراقيين ممن دخلوا السجون ومنهم رفاقه سجناء نقرة السلمان .
بعد الاهداء ينتقل الكاتب الى التوطئة التي تتضمن سيرة ذاتية موجزة، ولادته في محافظة البصرة قرية ( كوت السيد )،نشأته، دخول المدرسة، انتفاضة عام 1952 وبواكير الوعي الفكري والسياسي مع أول منشور للحزب الشيوعي الذي أثار ذعره فرماه في قارعة الطريق ليأتي بعده مشوار النضال الشاق والعسير وصولا الى ثورة 14 تموز 1958 حيث نضوج وعيه السياسي ليصبح العيداني عضوا في اتحاد الطلبة العام في العراق وينشط مع رفاقه في تطبيق سياسة الحزب في مدينة البصرة، وصولا الى الانقلاب الاسود في 8 شباط 1963 واثناء عودته من مهمة حزبية يلقى القبض عليه من احدى مفارز الحرس
القومي وبتشخيص من زملائه في المدرسة لتبدأ رحلة المعاناة والتعذيب انطلاقا من الفلقة وحتى التعليق بالشبابيك الى حد الاغماء مرورا بالعديد من المعتقلات والسجون ومراكز التحقيق مع نماذج منحطة من المحققين والسجانين لينتهي به المطاف بالترحيل الى سجن نقرة السلمان على أثر انتفاضة البطل حسن سريع بقافلة يطلق عليها العيداني قافلة الموت تشبها بقطار الموت الذي انطلق من بغداد الى السماوة في نفس الفترة، اما قافلة الموت فكانت من البصرة الى سجن نقرة السلمان بعد جمع عدد كبير من مناضلي مدينة البصرة ومن مختلف السجون والمعتقلات وحشرهم في سيارات
خشبية مستهلكة في جو قائض من حرارة الصيف واعاصير رملية في مسيرة استمرت لأكثر هن 36 ساعة، ثم يدرج لنا الكاتب نبذة عن قضاء السلمان وسجنه الرهيب سجن نقرة السلمان. لينطلق نحو الموضوع الاصلي للكتاب وهو تفاصيل الحياة اليومية لسجناء نقرة السلمان مرورا بكل صغيرة وكبير وبالتفصيل وما يتخلل ذلك من مواقف ظريفة رغم قساوة السجن والسجانين، بالإضافة الى مراسيم الاحتفالات بالأعياد الوطنية والاممية في السجن ونشرة الاخبار السجنية وفريق اعدادها وطريقة الاعداد كذلك التقاط اللاسلكي والمخابئ والبريد الحزبي. ثم يوثق لنا العيداني عمليات هروب
المناضلين الشيوعيين من سجن نقرة السلمان لتوجيه لطمة للطغاة واساليبهم القذرة والالتحاق بالحزب ومواصلة النضال، فخلال فترة الحكم الملكي يدرج لنا الكاتب تفاصيل عملية الهروب الناجحة للشهيد الخالد محمد حسين ابو العيس وهو تحت الاقامة الجبرية في قرية السلمان وبالقرب من السجن بعد انتهاء مدة محكوميته. وهنالك ثلاث محاولات هروب حصلت في الفترة (63 ـ 68) التي عاصرها الكاتب ويرويها لنا بشخوصها. ثم يسرد لنا نماذج من مهازل المحاكمات الجائرة التي لا مثيل لها في التاريخ واشهرها بطلها الحاكم عبد الله النعساني ومجالسه العرفية العسكرية في العهد
الملكي. ثم ملف بعنوان شهداء ومناضلون من سجن ( نقرة السلمان )، تتخلله صورة لكل شهيد او مناضل وبعضها صور نادرة، يفتتح الملف بالشهيد الخالد صلاح الدين احمد واستشهاده الذي يفوق التصور بعد هروبه من السجن وهو محكوم بالإعدام وينتظر التنفيذ، ويليه الشهيد الخالد هندال جادر العامل البصري وسيرة نضاله واستشهاده، ثم المعلم والمربي يحيى (ق) ويكتب عنه تحت عنوان رجل لا يخاف في اشارة الى عبارته المأثورة امام مسؤولي السجن وبلهجته الموصلية ( يحيى ق . . يحكي وما يخاف ) يعرج بعدها على ابطال الموانئ في محافظة البصرة وهم يتحدون المشانق ليروي لنا
حكايتهم، والمحطة الخامسة من الملف بعنوان : ابو سرحان … المناضل والشاعر والشهيد والتي تسرد لنا سيرة الشاعر الشهيد ذياب كزار المكنى بأبو سرحان، ويسترسل العيداني في سرد سيرة رفاقه في السجن مرورا بالقائد العمالي صادق جعفر الفلاحي وابن الناصرية الاسطوري طعمة مرداس والرجل الاممي عبد القادر اسماعيل البستاني ويختمها بالسجين المثالي والقائد المتميز سامي احمد العامري .
بعدها يعرض لنا المؤلف مواقف رجولية وتحد للطغاة لسجناء نقرة السلمان ابطالها هم عبد الكريم علي الشذر الرجل الذي لم يدخل اليأس الى قلبه، وجوهر صديق شاويش ابن الجبل الاشم، وقدوري … العظيم ونبله الانساني، ليستعرض سيرة رجل ( عبد القادر العزاوي ) من ابطال قواتنا المسلحة لا يقرأ ولا يكتب دخل السجن بسبب دفاعه عن ثورة 14 تموز ومكتسباتها، فتعلم القراءة والكتابة بطريقة رفيقه السجين يحيى ق لتبرز لديه بعد شهور موهبة شعرية تفوق التصور متأثرا ومولعا بالسياب، اصدر قدوري بعد اطلاق سراحه مجموعة شعرية أثارت الكثير من النقاد وعمل في الصحافة
العراقية .
وقبل الختام يحاول العيداني ان ينصف رجلا كان احد رواد الفكر القومي التحرري وهو المرحوم عبد الرحمن البزاز ليخصه بملحق بعنوان ( عبد الرحمن البزاز … في معتقل قصر النهاية ) يستعرض فيه بعضا من خصل ومميزات شخصية البزاز من خلال رفقته في معتقل قصر النهاية ومحاورته، والتي بعضها اخذت شكل المشاكسة او المزاح والتي تركت انطباعا جيدا عن البزاز لدى العيداني ودفعته ليستعرض لنا اهم مؤلفات البزاز، وكذلك تغيرت نظرة وموقف البزاز من الشيوعيين بعد مخالطتهم عن قرب ومواقفهم الانسانية معه ولعل تلك واحدة من ايجابيات السجون والمعتقلات .
ينهي المناضل العيداني كتابه الممتع هذا بالملاحق والصور، الملاحق حول المراسلات بينه وبين جاسم المطير في مرحلة اعداد المطير لكتابه حول نقرة السلمان، فيشير العيداني الى جملة من الملاحظات منها المرور السريع والخاطف للمطير على موقفه الضعيف امام اللجان التحقيقية بعد اعتقاله على اثر انقلاب 8 شباط الاسود وهو الذي كان على قمة الهرم القيادي في البصرة، وكذلك ادعاء كونه احد المساهمين في تحرير الجريدة السجنية، فينفي العيداني ذلك من خلال الكثير من المواقف والقرائن التي تنفي ذلك، وكذلك مروره السريع على ما يسمى بقافلة الموت لنقل مناضلي
مدينة البصرة من السجناء والمعتقلين الى سجن النقرة بعد انتفاضة معسكر الرشيد في تموز 1963، في حين وصف العيداني تلك الحادثة بالتفاصيل في بداية الكتاب ليعود ويوثق اسماء كل او غالبية ركاب تلك القافلة من المناضلين خلال رده على المطير في الملحق، وعليه نقول لقد اعتاد المطير على التستر او الابتعاد عن اخطاءه او سلبياته وحتى سقطاته او المرور عليها مرور الكرام، مع التشبث بالمواقف الحسنة والبطولية ومحاولة ركوب موجتها وعملقة دوره فيها وتقزيم أدوار الآخرين والكتابة عنها بعد ان يكتب الاخرون ويجف حبر اقلامهم وسلفنة كتاباته تلك بأسلوب أدبي
روائي مستغلا قلمه السيال في محاولة مكشوفة لاستغفال القارئ والمتابع المستجد. أما صور العيداني فما اكثرها واندرها في ارشيفه القيم، لتأرشف للكثير من الاحداث والشخوص والمناسبات واغنت كثيرا الكتاب ومواضيعه، الكتاب جاء بـ (256 ) صفحة من القطع المتوسط ومن اصدارات مؤسسة السجناء السياسيين / السلسلة الذهبية لأدب السجون، الاصدار العاشر .
تحية للمناضل عبد القادر احمد العيداني على جهده الرائع هذا في أرشفة وتوثيق وتصوير المواقف والاحداث السجنية مرورا بكل رفاقه وزملاءه في النضال والعمل الحزبي في السجون وخارجها دون ان ينسى الجنود المجهولين منهم الذين تجاوزتهم عربة الزمن والتاريخ لسبب او آخر .