ولد عليه السلام بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة وقبض بها سنة أربع عشرة ومائة، وسنه يومئذ سبع وخمسون سنة وهو هاشمي من هاشميين، علوي من علويين، أمه أم عبد الله فاطمة بنت الحسن قال في حقها الامام الصادق : كانت صديقة، لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها ،وقد روى الشيخ الكليني في حقها : عن أبي الصباح، عن أبي جعفر عليه السلام قال كانت امي قاعدة عند جدار فتصدع الجدار وسمعنا هدة شديدة، فقالت بيدها: لا وحق المصطفى ما أذن الله لك في السقوط، فبقي معلقا في الجو حتى جازته فتصدق أبي عنها بمائة دينار ، وقبره بالبقيع من مدينة الرسول الله صلى الله عليه وآله….(1) .
وقد كناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالباقر، عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال (إن جابر بن عبد الله الأنصاري كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله وكان رجلاً منقطعاً إلينا أهل البيت وكان يقعد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وهو متعجر بعمامة سوداء وكان ينادي يا باقر العلم ، يا باقر العلم ، فكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، فكان يقول : لا والله ما أهجر ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إنك ستدرك رجلاً مني أسمه أسمي وشمائله شمائلي ، يبقر العلم بقرا ، فذاك الذي دعاني الى ما أقول ، قال فبينا جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ مر بطريق في ذاك الطريق كتاب فيه محمد بن علي فلما نظر إليه قال : يا غلام أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر ثم قال شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله والذي نفسي بيده ، ياغلام ما أسمك قال : أسمي محمد بن علي بن الحسين ، فأقبل عليه يقبل رأسه )…..( 2) ، وعاش مع أبيه الإمام زين العابدين حوالي 38 سنة ، بهذه الأجواء الروحانية المقدسة ترعرع الإمام الباقرعليه السلام ، وفي الفترة التي عاشها الإمام الباقر عليه السلام أبتعدت الأمة كثيراً عن تعاليم دين الله القويم بسبب سياسية بني الأمة التي أرادت قتل الإسلام في قلب كل مسلم بل كادت أن تعيد الأمة الى عبادة الأصنام لولا الحجج من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، فبلإضافة الى هذه السياسة العدائية للإسلام وتعاليمه أنتشار الأفكار والمعتقدات المختلفة في المجتمع المسلم نتيجة دخول الكثر من الأمم الى جسد الأمة الإسلامية بسبب الفتوحات التي قام بها المسلمون ،تعقّد المجتمع المسلم نتيجة الزيادة الكبيرة في أعداده وكثرة مشاكله ومسائله وأحتياجاته نتيجة التغيرات الكبيرة التي طرأت عليه بعد ثورة الإسلام العظيمة التي أنبثقت قبل 108 سنة، والنقطة المهمة أيضاً في هذا الإبتعاد طول الفترة الزمنية الفاصلة عن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تقدر بحوالي 85 سنة وسياسية جميع الحكومات التي أبعدت الأمة عن قادتها الحقيقين وهم العترة الهادية المتمثلة بأمير المؤمنين عليه السلام والحسن والحسن وزين العابدين عليهم السلام ، كل هذه الأسباب جعلت الأمة تغوص في أمواج الجهل والأهواء بل مثل هذه الأسباب كانت كفيلة بضلال الأمم بعد موت أنبيائهم ورسلهم بفترات زمنية متقاربة ، ولكن وجود الحجج الطاهرة عليهم السلام هو الذي جعل الأسلام المحمدي الأصيل يستمر الى ساعتنا هذه .
ونتيجةً لدورالإمام عليه السلام في حماية الرسالة السماوية من الإنحراف ومدها بما تحتاج من أدوات (تفسير القرآن ، أخلاق، أحكام ،علوم ، أداب ، سنن….) لأستمرارها ، لهذا فجّر الإمام الباقر عليه السلام علوم آل محمد صلوات الله عليهم بعد أن لاحظة أحتياج الأمة لهذه العلوم أو أحتياجها لتوضيح الرسالة وتبيانها كما أحتاجت الأمة للدعاء أو أدب التحدث المخلوق مع خالقه فكانت أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام وهكذا، وهذا هو السبب المهم في إنطلاق أو تأسيس جامعة أهل البيت عليهم السلام في زمانه وليس ضعف بني أمية أو إنشغالهم عنه أو عدم معرفته بالشكل الدقيق من قبلهم ، لأن هذه الأسباب تخالف الواقع الذي عاشه الإمام الباقرعليه السلام وكذلك بقية أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وهذه بعض الروايات التي تبيين قوة بني أمية وطغيانهم في زمانه وكذلك معرفتهم الدقيقة فيه ، قال السيوطي في تاريخه ( وأمتلأت بلاد المسلمين خلال هذه الحقبة بولاة القمع والجور ، قال عمر بن عبد العزيز : كان الوليد بالشام ، والحجاج بالعراق ، وعثمان بن حيان في الحجاز ، وقرة بن شريك بمصر ، أمتلأت الأرض والله جوراً ….( 3) وقائمة عمال الجور طويلة فيها الكثير من الجلادين سيئي الصيت أمثال : هشام أبن أسماعيل المخزومي ، وعبد الله بن هشام ، وأبراهيم بن هشام ، ومحمد بن هشام ومحمد بن يوسف ، ومحمد بن مروان ، وخالد القسري ، وعبد الرحمن بن الضحاك ، وخالد بن عبد الملك وغيرهم ممن ملأوا الأرض جوراً وفساداً ، قال المسعودي : كان عدّة من قتله الحجاج صبراً سوى من قتل في زحوفه وحروبه مئة ألف وعشرين ألفاً ، منهم سعيد بن جبير ، قتله في سنة 94 هجرية ، وكميل بن زياد النخعي ( وغيرهم كثير من قمم الناسكين والعابدين) وتوفي الحجاج وفي محبسه خمسون ألف رجل ….( 4 ) ، أما من عاصره سلام الله عليه من سلاطين وطغاة بني أمية فهم ( الوليد بن عبد الملك بن مروان ، سلمان بن عبد الملك بن مروان ،عمر بن عبد العزيز ،يزيد بن عبد الملك بن مروان ، هشام بن عبد الملك بن مروان ) ، وهذه رواية تبيّن عدم أكتراث الإمام عليه السلام بقوة وطغيان بني أمية في تبيان ما تحتاج له الأمة من حقائق ، بعد أن بعث إليه الطاغية هشام بن عبد الملك الى الشام وطرح فكرة الرمي على الإمام الباقر عليه السلام في مجلسه لكي يستهزء بالإمام عليه السلام (……وهشام يضطرب في مجلسه فلم يتمالك إلا أن قال: أجدت يا أبا جعفر وأنت أرمى العرب والعجم، هلا زعمت أنك كبرت عن الرمي، ثم أدركته ندامة على ما قال. وكان هشام لم يكن كنى أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته، فهم به وأطرق إلى الارض إطراقة يتروى فيها وأنا وأبي واقف حذاه مواجهين له، فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به، وكان أبي عليه السلام إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يرى الناظر الغضب في وجهه، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي، قال له:فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي، قال له: إلي يا محمد ! فصعد أبي إلى السرير، وأنا أتبعه، فلما دنا من هشام، قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه، فقال له: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك، لله درك، من علمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلمته ؟ فقال أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته، فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه، فقال له: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت وما ظننت، أن في الارض أحدا يرمي مثل هذا الرمي، أيرمي جعفر مثل رميك ؟ فقال: إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيه صلى الله عليه وآله في قوله: ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ” والارض لا تخلو ممن يكمل هذه الامور التي يقصر غيرنا عنها. قال: فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر وجهه، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه، فقال لابي: ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟ فقال أبي: نحن كذلك ولكن الله جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص أحدا به غيرنا فقال: أليس الله جل ثناؤه بعث محمداً صلى الله عليه وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها من أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الناس كافة وذلك قول الله تبارك وتعالى ( ولله ميراث السموات والارض) إلى آخر الآية فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء ؟ فقال: من قوله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله أن يخصنا به من دون غيرنا فلذلك كان ناجى أخاه عليا من دون أصحابه فأنزل الله بذلك قرآنا في قوله ( وتعيها اذن واعية ) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لاصحابه: سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي، فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم ففتح كل باب ألف باب، خصه رسول الله صلى الله عليه وآله من مكنون سره بما يخص أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه، فكما خص الله نبيه صلى الله عليه وآله خص نبيه صلى الله عليه وآله أخاه عليا من مكنون سره بما لم يخص به أحدا من قومه، حتى صار إلينا فتوارثنا من دون أهلنا. فقال هشام بن عبد الملك: إن عليا كان يدعي علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحدا، فمن أين ادعى ذلك ؟ فقال أبي: إن الله جل ذكره أنزل على نبيه صلى الله عليه وآله كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى ” ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ” وفي قوله: ” وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ” وفي قوله: ” ما فرطنا في الكتاب من شيء ” وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئا إلا يناجي به عليا، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي، فإنه مني وأنا منه، له مالي وعليه ما علي، وهو قاضي ديني ومنجز وعدي. ثم قال لاصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي عليه السلام، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله لاصحابه: أقضاكم علي أي هو قاضيكم وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر، يشهد له عمر ويجحده غيره. فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك، فقال: خلفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي فقال: قد آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ولا تقم، سر من يومك، فاعتنقه أبي ودعا له وفعلت أنا كفعل أبي، ثم نهض ونهضت معه وخرجنا إلى بابه …(5) .
وقد أنذهلت الأمة عجباً وأصبحت علمائها وطلاب العلم كالسكارى من هول ما ترى من علوم آل محمد صلوات الله عليهم فأستجابوا له وألتفوا حوله ، لأن الطوفان الكبير يكتسح كل شئ أمامه من أشياء مهما كانت كبير أم صغيرة ، فهكذا فالعلم الذي طرحه الإمام الباقر عليه السلام للأمة كالطوفان الذي جرف كل الآراء والمعتقدات الشاذة ومن يقف أمامه من علماء السوء بدون أي مقاومة تذكر ، لهذا نلاحظ ألتفاف العلماء بجميع مشاربهم (الموالي والمخالف) حوله لأن كثرت ونوعية وقوة ما طرحه الإمام عليه السلام من علوم جعلهم في حيرت من أمرهم فكانوا يأتونه زرافات زرافات كألأُسارى مجبورين من غير طوع أمرهم تجذبهم علوم آل محمد صلوات الله عليهم آجمعين جذبا ً وهذه بعض الروايات ، قال الشيخ المفيد : وقد روى الناس من فضائله ومناقبه مايكثر به الخطب ان أثبتناه ، وفيما نذكره منه كفاية فيما نقصده في معناه انشاء الله تعالى ،……عن أبي مالك الجهني عن عبد الله بن عطاء المكى قال: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه ، وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي عليهما السلام شيئا قال: حدثنى وصى الأوصياء ووارث علوم الانبياء محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام ،……عن معاوية بن عمار الدهني، عن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام في قوله جل اسمه: ” فاسئلوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ” قال: نحن أهل الذكر، قال الشيخ الرازي: وسألت محمد بن مقاتل عن هذا؟ فتكلم فيه برأيه وقال: أهل الذكر العلماء كافة ، فذكرت ذلك لأبى زرعة فبقى متعجبا من قوله ، وأوردت عليه ما حدثنى به يحيى بن عبدالحميد، قال: صدق محمد بن علي عليهما السلام إنهم أهل الذكر ولعمرى ان أبا جعفر عليه السلام لمن أكبر العلماء .
وقد روى أبو جعفر عليه السلام اخبار المبتداء واخبار الانبياء، وكتب عنه المغازي، وأثروا عنه السنن واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وكتبوا عنه تفسير القرآن، وروت عنه الخاصة والعامة الاخبار، وناظر من كان يرد عليه من أهل الآراء، وحفظ عنه الناس كثيرا من علم الكلام …( 6) .
وهكذا فأن الظروف السياسية وقوة أو ضعف الحكّام لا تحدد مسيرة الإمام عليه السلام بل مدى أحتياج الأمة لوضيح أو تبيان الرسالة المحمدية السمحاء بالإضافة الى حماية هذه الرسالة من أي خطر قد تتعرض إليه لكي تبقى حية ما بقية الدهر لأنها الرسالة السماوية الخاتمة لكل الرسالات وأدوارهم سلام الله عليهم يكمل بعضها بعضاً ، ولم يترك الطاغية هشام بن عبد الملك الإمام الباقر عليه السلام يشع العلوم للأمة ويبعث فيهم روح الإسلام المحمدي الأصيل فقام بدس السم للإمام الباقر عليه السلام وقتله في السابع من ذي الحجة عام 114 هجرية ، فسلام عليه يوم ولد ويوم أستشهد ويوم يبعث حيا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي – للكليني / كتاب الحجة / ج 1 / مولد ابي جعفر / ص 469 . ، الارشاد – للشيخ المفيد ص 382(2) الكافي – للكليني ج1ص687(3) تاريخ الخلفاء – للسيوطي ص223(4) الكنى والألقاب – للشيخ عباس القمي ج1ص259(5) بحارالأنوار – العلامة المجلسي – ج46 ص305 (6) الإرشاد – للشيخ المفيد ص383-388