أمعّنا كثيرا في استقراء تجارب البلدان المشابهة للعراق ووجدنا ان الاستثمار لا يمكن ان ينطلق الا من خلال حواضن متكاملة تذلل الصعاب والمخاوف التي تقف في طريق المستثمرين وخاصة الأجانب منهم ، والتي يستوجب إزالتها قبل ان نغالي في دعوة الشركات الدولية للاستثمار في العراق ، لان أبوابنا مؤصدة بقيود إدارية كونكريتية تجعل الدعوات الإعلامية المتكررة للقدوم الى العراق نوعا من العبث والتهريج ، ولان معظم العقبات تحتاج الى إصلاح إداري ومؤسسي واقتصادي يطول أمده لأننا كبلنا أيدينا بسلسلة طويلة من الإجراءات التشريعية تجعل انتظار النضج التشريعي مكلفا ويدخل العراق في سنوات اخرى من التنمية الضائعة ، عليه نعتقد ان الوضع الانتقالي في العراق يحتاج إلى إيجاد حواضن للمستثمرين في إطار تطويع القوانين والأنظمة السائدة ، وهي عبارة عن مركز أعمال واستثمار Business Centres تبنى في بغداد والمحافظات وفق أحدث التصاميم المعمارية المتخصصة لتقديم الخدمات المتكاملة للمستثمرين وخاصة الأجانب (خدمات من المطار للمطار) تكرس مستوى من الاطمئنان والثقة لدى المستثمرين للقدوم الى العراق وتفحص الفرص الاستثمارية التي يفترض ان تعرض هي الأخرى بأسلوب مختلف يجذب المستثمرين.
أولا : ما المشكلة .. لماذا حواضن المستثمرين ؟ :
1. وجود تهويل اعلامي جعل صورة العراق قاتمه فيما يتعلق بالوضع الامني ووضع الفساد الاداري والمالي ووضع الروتين الاداري المقيت وتأخر الاجراءات وظروف الإقامة والعيش والعمل وغيرها من التقارير التي يطلع عليها المستثمرون ويحجمون عن القدوم حيث تتفاقم لديهم المخاطر الاستثمارية وتتعاظم الكلف وتقضم كثيرا من الربح المتوقع من الفرص المتاحة و سوف يؤخر ذلك عملية انطلاق عجلة الاستثمار وبالتبعية سوف لا تكون هنالك تنمية.
2. غياب جهة راعية للمستثمر الاجنبي في العراق تنجز له الأمور الآتية :
* تسهيل ومتابعة إجراءات تأشيرة الدخول ، وهي اليوم معرقل حقيقي للاستثمار.
* استقبال آمن للمستثمرين من المطار واستكمال إجراءاتهم اللوجستية كافة المتعلقة بالإقامة والسكن المريح والخدمات المكتبية كالسكرتارية والمحاماة والترجمة وتقديم العروض ومتابعتها.
* توفير متطلبات الحماية الشخصية للمستثمرين ، من أفراد على مستوى عالٍ من التدريب ضمن معايير شركات الحماية وسيارات مصفحة وأجهزة اتصال وخرائط تنقل آمن وغيرها.
* توفير متطلبات العمل المرن من حيث الاتصالات والانترنيت والتنقلات وغيرها والوصول الى موظفي الخدمة والوصول الى المعلومة المؤكدة.
* توفير اسباب الترفيه التي اعتاد عليها المستثمرون بوصفهم طبقة ثرية مرفهة من مسابح وقاعات رياضة واستجمام وطعام وشراب حسب الطلب.
* توفر قاعات اجتماعات للمستثمرين الأجانب مع هيئات الاستثمار والجهات ذات العلاقة من الحكومة العراقية ، ويمكن ان تكون النافذة الواحدة لهيئات الاستثمار موجودة بكل كوادرها الفنية والإدارية في مكاتب خاصة داخل مراكز الأعمال (الحواضن ) لساعات معينة تتلقى العروض الاستثمارية المقدمة من قبل المستثمرين ثم تدرس وتمنح الإجازات خلال المدد القانونية التي يفترض ان تقلص الى أدنى حد.
* القيام بإجراءات تسجيل الشركات الأجنبية في العراق نيابة عن المستثمر الأجنبي ومراجعة دوائر الضرائب والرسوم وفتح المكاتب وتجهيزها والحصول على موظفين بمستوى عالٍ من المهارة والكفاءة للعمل في استثماراتهم المحتملة.
* تمكين المستثمر من التعرف على السوق المحلية ودراستها بدقة من خلال جمع البيانات وتوزيع وتصنيف الاستبيانات الميدانية والتعرف على منافذ التصدير وحجم الطلب المحتمل المحلي والخارجي ومدى التكامل القطاعي محليا ومع دول الجوار في مجال (المستخدم /المنتج) وسبل حصول المشروع المحتمل على المدخلات اللازمة للإنتاج وغيرها.
* تمكين المستثمر الاجنبي من الوصول السهل الى جملة الامتيازات والواجبات الواردة في قانون الاستثمار رقم (13) لسنة 2006.
* توجيه المستثمر نحو مصادر التمويل المصرفي الميسر الموجودة حاليا والممكنة مستقبلا والضمانات الميسرة للحصول على التسهيلات المصرفية والتسهيلات الائتمانية وفرص التأمين الممكنة وهي أمور قد تكون غامضة لدى المستثمر.
3. بذلك تكون حواضن المستثمرين (مراكز الأعمال) هي المفتاح لانطلاق الاستثمار، لأنها سوف تبدد مخاوف المستثمرين وتتيح لهم الخدمات الترفيهية واللوجستية والإدارية و الفنية والاستشارية المطلوبة ، وتقلل المخاطر والكلف ، وعندها يقتنص المستثمرون الفرص الاستثمارية بشكل تلقائي سلس ويشرعون في التنفيذ فتنطلق عجلة البناء وتصبح المصالح الاستثمارية تحمي بعضها بعضا بشكل تلقائي أيضا.
ثانيا: أين نحن الآن ؟ .. لقد سبقتنا الصومال:
قبل خمس سنوات في 2009 زارني المستشار الاقتصادي في السفارة الأمريكية وسألني عن مستقبل الاستثمار في العراق وذكر ان وحدة المهمات لدعم الاستثمار في وزارة الدفاع الامريكية (سينتهي عملها بعد ستة اشهر) وهي وحدة تقدم الدعم الممكن للمستثمرين الأجانب فما هي البدائل التي لديكم ، أجبته على الفور علينا ان نوجد حواضن للمستثمرين الأجانب ونقدم كل التسهيلات ، وبعد خروجه مباشرة بدأت أضع التوصيف اللازم للمقترح ، و كان هنالك مستثمرين عراقيين وأجانب لديهم شركات أمنية ولوجستية معنية بالخدمات الاستثمارية سعوا إلى إيجاد هذا النوع من الحضانه للمستثمرين الاجانب الا أن جهودهم مبعثرة ولم يتم رعايتها من قبل الهيئة الوطنية للاستثمار، إما جهلا بالموضوع وهو الأغلب لأنهم يزعمون انه لا يحقق قيماً مضافة للاقتصاد ، رغم انه يمثل المفتاح الأساسي للإتيان بمشاريع تحقق قيماً مضافة ، فمراكز الأعمال هي المعبر للولوج الميسر نحو كل الأعمال والاستثمار المولدة للقيم المضافة ، وربما إهمالا من الهيئة الوطنية للاستثمار وهو الأخر غير مستبعد ، وبعد استكمال المقترح أرسل الى مكتب رئيس الوزراء الذي أرسله على الفور الى الهيئة الوطنية للاستثمار التي نظرت إليه من زاوية ضيقة معتقدة انه يحمل مأخذ على عملها وتدخل في سياقاتها وبدأت تسوق الأعذار والمبررات ونحن نرد وهم يردون الى ان ضاع الموضوع كغيره من الأفكار والرؤى والإستراتيجيات في أروقة اللف والدوران الإداري تحت رحمة إرادة خفية ربما تبطن أغراضاً مخفية لإعاقة الاستثمار ومنع العراق من تحقيق التنمية.
وقبل سنة كنت في اسطنبول في مؤتمر اقتصادي والتقيت بوزير الاستثمار الصومالي وسألته عن وضع الصومال فقال الوضع أفضل بكثير مما تسمعونه في الإعلام ، فالتهويل الإعلامي كبير وجعل المستثمرين يحجمون عن الاستثمار ، وأردف قائلا ، أود ان اشكر حكومة وشعب العراق لان العراق أعطانا منحة (10 مليون دولار) عند مشاركتنا في مؤتمر القمة العربية في بغداد ، ثم استرسل قائلا ، هذه المنحة استخدمناها في بناء (مركز أعمال ضخم في مقاديشو) لأننا أدركنا ان مفتاح الاستثمار يكمن في توفير حزمة الخدمات التي يحتاجها المستثمر الأجنبي ويبدد مخاوفه ، وفعلا أصبح المستثمرون يأتون باستثمارات مهمة وأخذت العجلة تدور ، وصار يتكلم بنفس الرؤيا التي تعبت انا في تسويقها الى متخذي القرار الاقتصادي دون اذن صاغية ، لقد صعقت حقا،هي نفس فكرتنا وتنفذ بأموالنا في الصومال قبل العراق وبعشرة ملايين دولار فقط ، ونحن لازلنا نتوسل بمسئولي مؤسسات مهمة تعرقل الانطلاق ، وننشغل بالمكاسب الشخصية فيما بيننا دون الالتفات الى الملفات الاقتصادية وهي الأهم وموازنتنا العامة متخمة بمليارات الدولارات التي تذهب في أوجه استهلاكية ومظهرية تافهة للمسئولين بين المكاتب الفخمة وأرتال السيارات او في مشاريع وهمية كالأرصفة والحدائق التي تحال تكرارا لجني المال على حساب تقدم البلد او التي تتسرب الى جيوب الفاسدين ، عندها علمت ان الصومال سبقتنا ، نحن أصحاب الحضارة ، وعلمت ان الديناصورات لم تنقرض في العراق ولازال جزء كبير من القرار الإداري بأيديها ولازالت مؤمنة بهيمنة الدولة على الاقتصاد وتمنع القطاع الخاص من اخذ دوره كما يؤكد الدستور.
ثالثا : ما المطلوب ..؟ :
* تخصيص أراضي مخلصة وفي مواقع إستراتيجية مهمة في مراكز المحافظات وفي بغداد لبناء صروح كبيرة ومتميزة وبنمط تخصصي تسمى (مراكز الأعمال والاستثمار ) ويعلن عنها لاستقدام الشركات الرصينة المتخصصة بتقديم الخدمات الاستثمارية (من المطار للمطار) وتمنح كفرص استثمارية بتسهيلات كبيرة ، وعند تعثر استقدام تلك الشركات تخصص لها الأموال من الموازنة العامة وتبنى تلك المراكز من قبل الحكومة ومن ثم تبرم عقود إدارة وتشغيل مع شركات الخدمات الاستثمارية فيما بعد ، وبذلك نوجد المفتاح الأساسي لجذب المستثمرين.
* إعادة النظر برؤساء هيئات الاستثمار في المركز والمحافظات من حيث خلفياتهم العلمية وتخصصاتهم الدقيقة التي تنسجم واختصاص الهيئات ومدى امتلاكهم رؤيا
حول الاستثمار وامتداداته الاقتصادية ومدى نظافة أياديهم ونزاهتهم عن استخدام الامتيازات الاستثمارية انتقائيا من اجل الثراء الشخصي وليس بناء العراق وتنميته.
* مراجعة وتقييم الفرص الاستثمارية الممنوحة خلال الفترات السابقة وتحديد مدى تنفيذها وحجم مساهمتها في تكوين الناتج المحلي الإجمالي وفي التشغيل للأيدي العاملة ومدى استخدام مدخلات الإنتاج المحلية والأجنبية ونوع مخرجاتها ومستوى تحقق المزيج الأمثل بين عناصر الإنتاج الداخلة فيها لكي لا تعطى الأراضي هدرا دون حقن العناصر الإنتاجية الأخرى من قبل المستثمر في عملية إنتاجية ناجحة اقتصاديا وفق مقاييس تجارية فضلا عن النفع الاجتماعي المنتظر لتحقيق التنمية.
* إيجاد إعلام اقتصادي احترافي مضاد للإعلام الذي يهول الوضع العراقي، ويمارس تخويفاً منظماً للمستثمرين الأجانب، تكون مهمة الإعلام المضاد تبديد مخاوف المستثمرين والترويج في ذات الوقت لقيام حواضن المستثمرين ووظائفها والخدمات التي تقدمها وفرص الاستثمار فيها .