23 ديسمبر، 2024 5:17 ص

دراسة موجزة عن الزراعة في العراق

دراسة موجزة عن الزراعة في العراق

أحياناً يكون شخصٌ بخيلٌ ،إلا أن اسمه (كريم) ، وأحياناً يكون شخصٌ جبان ، لكنَّ اسمه (شجاع) وهكذا …

والحالة هذه ؛ فلا أدري .. هل وزير الزراعة (فلاح حسن) أم (( فلاّحٌ حَسَنٌ )) ؟! وهل كان (الدكتور حيدر العبادي) منتبهاً إلى هذه الأوصاف الغير متجانسة ، أم إنه كان قاصداً ، عندما وافق على ترشيح السيد (فلاح حسن) وزيراً للزراعة ، وهو يأمل منه أن يحدَّ من تزايد تدفق المنتجات الزراعية المستوردة إلى عراق وادي الرافدين ؟!

ومهما يكن من أمر؛ فلعلها الصدفة التي جعلت هذا الشاب .. الوزير الجديد يجلس على كرسي التفاؤل الموحي بتحوّل العراق عما كان عليه ، ليعودَ إلى سالف عهده الزراعي الأخضر ، عندما كنّا لا نشتري الرز ، ولا نشتري التمر ، ولا نشتري الخضروات ، ولا نشتري السمك ، ولا نشتري الدجاج ، ولا نشتري اللحوم الحمراء ، ولا نشتري بيض المائدة من دول الجوار وغيرها.

كان العراق يصدّرُ التمور والأصواف والأسماك والتبن والحنطة والشعير والتبغ والفاكهة والخضروات والأسماك إلى دول الجوار وبعض دول العالم الغربي ، بحيث كان الرَّقي الأحمر الكبير يُصَدّر إلى الكويت ، والصوف والقطن يصدّران ، وتمر الزهدي يُصدّر إلى إنكلترا، والتبن يصدّر إلى دول العالم وآخرها الإمارات ..حتى وقت ليس بالبعيد .

هنالك دراسات اقتصادية متعددة .. وصلت إلى درجة رسائل جامعية لنيل شهادات الدكتوراه والماجستير، إلا أنها لم تضع الحلول ، بقدر ما شخّصَتِ الأسباب ، أو إنها لم ترتقِ إلى مستوى التطبيق ، بسبب عدم تنفيذها من قبل وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي أو وزارة الزراعة ، لأسباب غير مبررة هي الأخرى، ما جعل العراق .. هذا البلد الخصب .. الذي يغسل ترابه نهران عذبان من الشمال إلى الجنوب ، لكنه تراجع كثيراً عما كان عليه في الحقب والسنوات التي سبقت التغييرات السياسية في عراق 1958، وعراق 1968 ، وعراق 2003.

ولعلّي أحاول أن أشخّصَ بعضاً من أسباب التدهور الزراعي في العراق .. وكما يأتي :

1. انخراط أبناء الفلاحين في صفوف الجيش العراقي ، ما خلق جيلاً لا فلاحياً في البلد.

2. أغراض سياسية ؛ منها .. محاولة حكومة البعث وصدّام حسين تدمير الجناح العسكري للمرجعية الشيعية في العراق ، من خلال تجويع مناطق الفرات الأوسط والجنوب ذات الأغلبية الشيعية .. الأغلبية الفلاّحية في العراق ، حيث كانت العشائر تمثل سيف المرجعية في العراق ، وهذا ما أثبتته الوقائع التاريخية ، ومنها ثورة العشرين وما بعدها.

3. كان للحروب الحصة الكبيرة في استقطاب الفلاحين للتطوّع ، ودعوات التجنيد الإجباري والاحتياط .. ولسنوات ناهزت الثمان خلال الحرب العراقية الإيرانية عام 80، ما جعل البساتين والأراضي الزراعية شبه خالية من الأيدي الفلاّحية العاملة ، إلا مِنْ مَنْ لم يشملهم التجنيد .. من ذوي الأعمار الطاعنة في السن، وهم غير قادرين على العناية

بالأرض بسبب ضعف النشاط الجسدي، لأن الزراعة تتطلب العضلات المفتولة والصبر والمطاولة ، كالحرث والبذار والسقي والشتل والقطاف وغيرها.

4. تطلّع أبناء الفلاحين إلى الحالة المدنيّة ، وتغلب النظرة الحداثوية الغربية على نظرة الريف ، بعدما تحوّل المجتمع الإنساني خلال الثورة الصناعية ، من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي ، ما جعل هذا التطلع يسود ويتعمم على نظرة ابن القرية ، وهو يرى ويسمع .. كيف أن الحياة في المدينة أيسر من ضراوة البراري والقرى . وهذا ما حدا بأبناء القرى إلى أن يتدرّجوا في الدراسة ليصلوا إلى أرقى الشهادات العليا .. حتى وصل بعضهم إلى الحصول على بعثات وزمالات دراسية خارج العراق ، ما جعلهم يتحولون إلى إنسان آخر .. غير ابن الريف ، وربّما نقل العديد من أفراد أسرته معه إلى خارج العراق ، أو إلى العاصمة بغداد وغيرها ، بحيث نسوا الزراعة والفلاحة تماماً.علماً بأنَّ العالمين الغربي والشرقي ؛ انتبها إلى ضرورة العناية بالثروة الزراعية ، بخط يوازي خط التقدم الصناعي .

5. كما أرى ؛ إنَّ قانون الإصلاح الزراعي الذي وضعه الزعيم عبد الكريم قاسم (رحمه الله) عام 1959 كان ذا وجهين ، فهو منح الفلاح العراقي مكانة إنسانية ، إلا أنه أخفق في تعزيز الإدارة التي كانت تحكم وتلزم الفلاح العراقي على الانصياع إلى سلطة مالك الأرض.. أو (الإقطاع) ، إذ ؛ مثلما أن الدكتاتورية أحياناً تكون مفيدة جداً في تسيير أمور البلاد والعباد، كذلك الإقطاع ؛ أحياناً كثيرة ً كان يسخّر الفلاّح لخدمة الأرض وانتعاشها الزراعي ورعايتها . وبالرغم من أن الإقطاع لم يكن مقبولاً برأي النظريات الاقتصادية والاجتماعية ، إلا أنه كان مفيداً جداً في إجبار الفلاح على خدمة الأرض ، مع أنَّ القصدَ كان خدمة الإقطاعي أكثر من خدمة الأرض ، إلا أن النتيجة الواحدة التي تؤدي إليها هذه الحالة ؛ هي خدمة الأرض ، ومن ثم انتعاش الزراعة . بمعنى ؛ إنَّ عبد الكريم قاسم قلب الفلاح على الإقطاعي ، بعدما كان الإقطاعي على الفلاح .وتلك كانت بداية التمرّد والاستعلاء على الأرض ، وعلى الزراعة في العراق .

6. ظهور الجمعيات الفلاّحية في عهد نظام البعث عام 68 في العراق ، ما جعل الفلاح(البعثي) ؛ يلبس الجاكيت والصاية والعقال المصوّف واليشماغ الإنكليزي الصنع ، (تاركاً حِمَارَهُ المُتعَب) ليستقل سيارته (البك أب) قمارة واحدة التي منحتها له الدولة ليحضر الاجتماع الحزبي ، ومن ثم يتربّع على أرائك المقاهي ويدخن النركيلة ، ويتقندل باستكان الشاي المهيّل بكبرياء ، ويأمر باسم البعث العربي الاشتراكي .. لا لأجل كرامة الفلاح العراقي .. بل ؛ لأجل إسقاط هيبة (شيخ العشيرة) .. الذي جوّعته الفيضانات والسدود والقحط والجفاف والحصارات والحروب والمطاردات والاعتقالات والإقصاء والتهميش . وهنا ؛ اكتمل التمرّد والاستعلاء على الأرض وعلى الزراعة في العراق تماماً ، لدرجة ؛ إنَّ الكثير من الإقطاعيين ومالكي الأراضي الزراعية اشتغلوا في أوطأ الأعمال الشريفة .. كعمال كرك أو مراقبي عمل في الشركات العامة والخاصة ، لأجل تدبير مقتضيات (المضيف) .. كي تبقى (دلالهم) عابقة برائحة (البُنّ) في مواقدهم الكريمة .. رغم القهر، بينما راح (الفلاح الرفيق) .. لا (الفلاح الحسن) يحطب النخيل الباسق المثمر ليبيع الجذوع في الأسواق ، دون أن يزرع فسيلة ً بديلة واحدة ، ويبني ما يشاء من الدور على أرض الآباء والأجداد .. الذين عمروها بالبدن و بالزمن وبالثمن

وبالمحن .. حتى أورقَ الفنن . إما إذا لام مالكُ الأرض ِ فلاحاً عن تقصيره حيالها، يهدده الفلاحُ بالشكوى عليه بـ((الحزب)) .. بـ(( الجمعية)) !!!

7. تجفيف الأهوار العراقية في جنوب العراق .. ذات المرابع ومراحات الجاموس والثروة السمكية والطيور المهاجرة وزراعة القصب الطبيعي والبردي وقصب السكّر .

8. عزل منطقة كردستان .. ذات الريع الوفير ، لأسباب سياسية وقومية .

9. انشغال الحكومة العراقية بإغراءات الدخل القومي للنفط ، بحيث أوشكت أن تستغني عن الدخل القومي للزراعة ، ففضّلت الاستيراد الزراعي على الإنتاج .

10. وأخيراً وليس آخراً ؛ انشغال الحكومة العراقية بعد عام 2003 بالعملية السياسية ، وما تعانيه من الأزمات الأمنية ، حال دون تفرّغها إلى التطلع نحو مستقبل الزراعة .

نأمل ـ نحن العراقيين ـ من معالي وزير الزراعة الأستاذ (فلاح حسن) أن يكون (فلاّحاً حَسَنا) !

والله من وراء القصد ؛؛؛